"حداد الذي لا مثيل له في البلاد"..

عبدالله صالح حداد .. عاش ليبحث؛ فأثرَى مكتبة التراث الشعبي

الباحث عبدالله صالح حداد - أرشيف

سعيد الجريري

حداد الذي لا مثيل له في البلاد. ليست جملة مجانية ترمى في الطريق فلا يبقى منها سوى رجع مسجوع، ولكنها تكثف ما يبعث على تفصيل وبيان عن باحث أدركته حرفة الأدب والثقافة الشعبية، فهو ثالث ثلاثة شحريين، لا يدور حديث عن الأدب والثقافة الشعبية الحضرمية، أو يُجرَى بحث عن موضوع متصل، إلا تبادر إلى الذهن أحدهم أو ثلاثتهم معاً، بما لكل منهم من صفات جامعة وأخرى خاصة. أعني الأساتذة: محمد عبدالقادر بامطرف، عبدالرحمن عبدالكريم الملاحي، وعبدالله صالح حداد.

عبدالله حداد منذ أن وعيتُ ووعَى جيلي، وهو ناشط تراثي فذ، لا يبالي بقسوة الظروف، ولا قل ذات اليد، بأن يتخذهما ذريعة لتكاسل بحثي. بل ظل - ومازال - ينحت في صخربلا هوادة، ودليله الدائم عشقه التراثَ، حتى صار حداد نفسه كائناً تراثياً، بكل ما في الصفة من دلالات جميلة موجبة. وكقارئ يتهجَّى مبادئ المعرفة بالأدب الشعبي كنت منذ عقود - وما زلت - أجد في مقالات حداد ودراساته مادة أصيلة موثوقة موثقة، فهو من أولئك الذين يدققون، ويوثقون، ويمحّصون، ويفحصون (ويمصمصون العجم)، فلا تأخذهم نشوة بفكرة، ولا يستخفّهم هوى الذات وزهوها، أو يدّعون. بل كان من أحرص الباحثين في مجاله على منهجية تستقصي المعلومة، ثم تُخضعها للمقارنة والمطابقة، فيجمع في ذلك بين وظيفة الباحث والمحقق والمستمتع بالاكتشاف في آنٍ معاً. ولذلك فهو مرجع أصيل بما يصنّفه من مواد مميزة، لا تنقصه الجرأة والشجاعة الأدبية في توكيدها والوقوف دونها مجادلاً بالوثائق والمعلومات، صادراً عن تجربة وخبرة طويلة في الحقل التراثي.

لحداد مزايا مخصوص بها، منها أنه استنفد عمره في خدمة التراث الشعبي عن وعي بما له من قيمة وأهمية، من حيث كونه محمول اللغة المحكية أو اللهجة العامية، وحامل جماليات الثقافة الشعبية المهيمنة وقيمها، في تشكيل الذات الجَمعية، ووعيها بالعالم، والعلاقة مع المحيط العام. فالتراث الشعبي أشعاراً كان أم أمثالاً أم حكايات هو في الصميم من تمثيل حقيقة الإنسان وطبيعته في الجغرافيا الحضرمية الممتدة عبر التاريخ والحدود. ولذلك فمجال بحث حداد هو الأقرب إلى ما أنتجه المبدع السابق وما ينتجه اللاحق، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن ما تسمى اللهجة الحضرمية - وهي متعددة ثرية التنوع - هي في واقع الأمر اللغة الأم للحضارمة، لا اللغة العربية الرسمية التي قد لا نبالغ أن وصفناها باللغة الثانية، فهي ليست اللغة التي بها يتخاطبون، أو يفكرون، أو يحلمون، أو يعشقون، أو يبدعون. ما يعني أن عبدالله حداد وأساتذته وزملاءه في المجال هم الأكثر درايةً وقُرباً من سيكلوجية المجتمع عبر مراحله، وهم لذلك واقفون على أسرار الإبداع، وعلامات القوة والضعف على مستوى الفرد والجماعة، كما تتجلى في الثقافة الشعبية وفنون الأدب الشعبي.

إن عبدالله حداد أحد أبرز رواد حضرموت هذا المجال الذي لم ينل حظه أو حقه من العناية بأن يُعتد به في جامعات حضرموت، بناءً على نظرة استعلائية ربما، فيها من الجهالة قدر ما فيها من الادعاء بأن الأدب المكتوب باللغة الثانية أهم من الأدب المكتوب والمروي باللغة الأولى - اللهجة الحضرمية - التي تمثل الإنسان في بيئته أجلى تمثيل - باعتبارها ظاهرة إنسانية اجتماعية وثقافية أيضاً - بدعاوى متهافتة عن إعلاء لغة الدين والأمة، حتى لكأن ذلك الإعلاء لا يكون إلا بإخفاض اللهجة التي هي لغة الشعب الحية وذاكرته الثقافية والنفسية والاجتماعية والإبداعية، وهي الرقم الصعب في معادلة الهوية الشعبية وعمقها الحضاري. لذلك فعبدالله حداد، بهذا المعنى، أحد حراس الهوية، بما أنتجه من دراسات مكتوبة، وما خاضة من سجالات، وما قدمه من محاضرات، تشترك جميعها في التعبير عن وعي متقدم بفداحة الانسلاخ عن التراث والهوية، وهو بذلك يدوّن اسمه بعصامية في سجل الباحثين الذين أمعنوا في اليقظة، حينما ذهب آخرون في غفلاتٍ، فهُم فيها سادرون.

وبالنظر إلى مُنجَز حداد البحثي يلحظ المرء أن ما نشر و مالم ينشر من مقالات و دراسات في التراث والتاريخ والأدب والفن، تكفي لكي يتبوأ مقعداً محترماً في الثقافة الشعبية الحضرمية، فما رفد به المكتبة ليس بالهيّن، فكل مقالة أو دراسة منها مرجع مهم، تزداد أهميته بالتقادم. ولعلي أنوّه ههنا بمصنفه المهم معجم شعراء العامية الحضارمة – 2016 الذي وثق فيه لـ 386 شاعراً، فهو جهد غير مسبوق، كسر به عادةً مهيمنة من عوائده، تلك هي ما وصفها د. عبدالله سعيد الجعيدي بـ(فوبيا النشر)، في تصديره المعجم. ولعل لي على ذلك تعليقاً بسيطاً، فتلك الفوبيا - إن جاز الوصف – أنما هي شكل من أشكال تهيب الباحث الجاد، وحرصه على الإحاطة بأبعاد المبحوث، من جهة، وهي من جهة أخرى شهادة على هامشية المتاح للباحثين الجادين، سواء من حيث التمويل وتقديم المنح لهم لإنجاز مشاريع أبحاثهم، أم من حيث تيسير فرص الطباعة والنشر وحماية حقوق الملكية الفكرية.

وبعد، فشهادتي في أستاذنا الباحث عبدالله صالح حداد مجروحة، فإن له علينا أكثر مما لنا عليه، فلقد عاش للبحث مخلصاً، متبتلاً في محرابه، فصار حُجة ومَحجّة للباحثين والحائرين في مسائل قل الخبراء بأسرارها. ولعل له بعد كل ما قدم وأعطى أن يُنصف ويُقدر حق قدره بأن تُطبع مخطوطاته، وأن ينزّل المنزلة التي يستحقها، وهو يُجاهد بسبعينيته المجيدة مجاهدة الثلاثيني؛ لإنجاز ما أعده في أجندته البحثية من أفكار وموضوعات جديرة بالتوثيق والدرس والكتابة.

أمستردام: 24 فبراير 2022