النفاق شيء مألوف في "النظام الدولي"..
تقرير: الخليج والولايات المتحدة.. أيام تقديم القرابين ماتت، دفنها بايدن

الخليج والولايات المتحدة.. أيام تقديم القرابين ماتت، دفنها الرئيس بايدن

السعودية والإمارات لا تخطئان الحسابات، لا مع الولايات المتحدة ولا مع النظام الدولي نفسه، عندما تفقدان الحماسة للعب دور المنقذ كلما ارتفعت أسعار النفط.
المسألة ليست موقفا من الحرب الروسية في أوكرانيا. فروسيا من الأساس منافس تجاري وليست حليفا استراتيجيا. إنها موقف من إدارة الرئيس جو بايدن. إنها موقف من سياسات التخاذل تجاه التزامات الولايات المتحدة حيال أمن حلفائها الاستراتيجيين. إنها موقف من التنازلات الذليلة التي تقدمها واشنطن لإيران في مقابل العودة إلى الاتفاق النووي. إنها موقف من سياسات النفاق التي تستخدم قضايا حقوق الإنسان كغطاء لفرض الضغوط حيال قضايا أخرى. إنها موقف يتعلق بقراءة الواقع المتغير في العلاقات الدولية. إنها موقف من سيادتها واستقلال قرارها الاقتصادي الخاص. إنها موقف من متطلبات الاستعداد للتحولات الجبارة التي يتعين الأخذ بها قبل فوات الأوان، على مستوى الانتقال من اقتصاد الوقود الأحفوري إلى اقتصاد جديد.
هذه هي القضايا التي توجب على دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية والإمارات، أن تتبنى سياسات أكثر حذرا حيال مطالب واشنطن، فلا تنزلق إلى الدفاع عن حليف لا يؤدي قسطه تجاه الحليف.
أيام فقط مضت على قيام جماعة الحوثي بضرب مصفاة لتكرير النفط في الرياض، من دون أن تفعل الولايات المتحدة شيئا، بل وآثرت تجاهل المسألة برمتها. أفلم تكن مجرد وقاحة أن يتم الطلب من السعودية والإمارات الاندفاع لتوفير المزيد من النفط والغاز للأسواق الدولية لكبح جماح الأسعار، أو لخوض حرب تجارية ضد روسيا؟
الأيام التي كانت دول الخليج تسارع لأداء قسطها في الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في سوق النفط، ماتت. قتلها النفاق، ودفنتها الجهود المحمومة إلى العودة إلى الاتفاق النووي من دون توفير ضمانات أمنية صريحة لدول المنطقة.
ميليشيات التخريب والفساد والإرهاب التي تقودها إيران في المنطقة، التي بقيت هي الأخرى خارج اتفاق العودة، هي التهديد الذي لم تكفّ إيران عن توظيفه لزعزعة الاستقرار في المنطقة
أيام فقط مضت أيضا على توجيه الحرس الثوري الإيراني 12 صاروخا باليستيا إلى محيط القنصلية الأميركية في أربيل. فماذا فعلت واشنطن حيال هذا العمل الإرهابي؟ لا تحتاج أن تفكر كثيرا لتعرف أن إدارة النفاق والتخاذل في واشنطن كانت تبحث رفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية.
لا أحد يجهل في واشنطن، ولا في غيرها من عواصم التحالف الغربي، بل في العالم كله، أن هذه المنظمة هي أداة الإرهاب الرئيسية التي تستخدمها إيران لممارسة التهديدات والتدخلات في الخارج. وشرورها لم تقتصر على دول المنطقة وحدها. ولكن واشنطن باتت ترغب ليس برفعها من قائمة المنظمات الإرهابية، بل أن تكافئها على ما تفعل، بالسماح لها بالحصول على أموال مما سوف يتم رفع العقوبات عنه، والسماح بأن تحصل على المزيد من الأسلحة.
المباحثات بشأن الحرس الثوري الإيراني تجري منذ يونيو الماضي. وما من جريمة ارتكبتها هذه المنظمة أو ميليشياتها، على امتداد الأشهر التسعة الماضية، أُخذت بعين الاعتبار في واشنطن.
ليس كافيا أن تمتنع أبوظبي والرياض عن الرد على محاولات بايدن للاتصال. ولولا “شعرة معاوية”، فلربما كان يجب إغلاق الباب أمام مبعوثيه أيضا. وهم على أيّ حال، لا ينقلون سوى الترهات، التي في نموذج الموقف من الحرب في اليمن، دأبت على المساواة بين تنظيم إرهابي وبين دول التحالف التي تحاربه.
ماذا كان يريد الرئيس بايدن أن يقول لو أنه اتصل؟ كيف سيبرر تخاذله المريع حيال الضرر الذي تلحقه إيران بمصالح الولايات المتحدة هي نفسها، دع عنك أمن حلفائها في المنطقة؟
المسألة ليست، على أيّ حال، مسألة موقف “شخصي” منه. الاتصالات يمكن أن تستأنف في أيّ وقت. إنها مسألة أمن استراتيجي يتعين على دول الخليج أن تأخذه بعين الاعتبار.
فإذا كشفت الولايات المتحدة أنها حليف غير جدير بالثقة، فليس هناك مَنْ يمكنه أن يعتب على الرياض وأبوظبي لو أنهما فقدتا الحماسة للعب دور المنقذ. العكس هو الصحيح. حتى ولو وصلت أسعار النفط إلى 300 دولار للبرميل الواحد. ينفلق أبوالنظام الدولي، عندما لا يجد في نفسه العزم للدفاع عن مصالحه وعن حلفائه.
دول الخليج تعرف جيدا أن السوق هو سوق التحالف الغربي. هذا التحالف، بما يشمل اليابان وأستراليا وكندا، يبلغ حجم ناتجه الإجمالي نحو 40 تريليون دولار سنويا، بينما لا يزيد حجم الناتج الإجمالي الروسي عن 1.5 تريليون دولار. أما حجم الناتج الإجمالي للصين فهو يبلغ 14 تريليون دولار. المسألة إذن ليست موقفا يعاند الموقف الغربي من الحرب الروسية في أوكرانيا.
ليس كافيا أن تمتنع أبوظبي والرياض عن الرد على محاولات بايدن للاتصال. ولولا "شعرة معاوية"، فلربما كان يجب إغلاق الباب أمام مبعوثيه
دول الخليج تعرف هذا الميزان جيدا. ولكنه ميزان تجاري فحسب. وهو لا يعكس إلا وجها واحدا من وجوه الميزان الاستراتيجي.
أن تتصرف الولايات المتحدة مع حلفائها كبائع أسلحة، شيء. وأن تكون شريكا استراتيجيا شيء آخر.
لقد خلقت إدارة الرئيس بايدن وهما اسمه “قنبلة نووية” تزمع إيران إنتاجها، وبالغت فيه، لكي تقدم لها تنازلات ذليلة بالفعل؛ تنازلات لم تراع حتى مصالحها الخاصة، كما لم تراع أمن إسرائيل نفسها.
منظومة الصواريخ الإيرانية التي بقيت خارج اتفاق العودة إلى الاتفاق النووي، تهديد أكبر من التهديد النووي. ببساطة لأنها تهديد عملي، جار بالفعل، ويتم استخدامه كل يوم، بينما التهديد النووي غير قابل للاستخدام أصلا.
ميليشيات التخريب والفساد والإرهاب التي تقودها إيران في المنطقة، التي بقيت هي الأخرى خارج اتفاق العودة، هي التهديد الذي لم تكفّ إيران عن توظيفه لزعزعة الاستقرار في المنطقة.
وأعمال الإرهاب التي تمارسها أجهزة المخابرات الإيرانية في مختلف أرجاء العالم، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي، هي التهديد الذي آثرت إدارة الرئيس بايدن أن تغمض عينيها عنه.
وبينما يصف بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين بأنه “مجرم حرب”، فإنه يتغافل عن حقيقة أن نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي كان واحدا من خمسة مسؤولين عن إبادة أكثر من 30 ألف سجين في العام 1988، ويريد أن يكافئه على جرائمه بالإفراج عن نحو 100 مليار دولار من الأموال الإيرانية المحتجزة في الغرب.
هذا الإبراهيم رئيسي ونظامه وميليشياته، قتلوا في إيران نفسها وفي العراق وسوريا ولبنان واليمن أكثر خمسين مرة ممن قتل بوتين في أوكرانيا.
النفاق شيء مألوف في هذا “النظام الدولي” الذي تقوده الولايات المتحدة. إلا أن شيئا لم يعد يسمح، بالنسبة إلى دول الخليج، أن تُقدم له القرابين. تلك الأيام ماتت. دفنها الرئيس بايدن بنفسه. وحسنا فعل. فلقد جاء الوقت لكي تنظر دول الخليج في مصالحها من دون تضحيات لحليف منافق، عاجز، وذليل.