بارجة كوينسي ونيوم: ماذا يحتاج بايدن أن يتعلم من روزفلت في التعامل مع السعودية

هيثم الزبيدي

يكاد كل موضوع صحفي يكتبه كاتب سعودي عن العلاقات السعودية – الأميركية يبدأ أو يشير إلى اللقاء التاريخي الذي تم بين الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على ظهر البارجة كوينسي عام 1945. يعتبر السعوديون أن ذلك اللقاء كان نقطة البداية الحقيقية في علاقة طويلة مع الولايات المتحدة. كان العالم يومها يستعد لانتهاء الحرب العالمية الثانية ويعيد توزيع مناطق النفوذ وفقا لميزان القوى الجديد الذي تتقدمه الولايات المتحدة. الأميركيون بالطبع ينظرون إلى العلاقة بشكل مختلف ومتغير، تبعا لتغير الإدارات بين جمهورية وديمقراطية، وعلى أساس نوعية التهديدات التي كان أساسها المنافسة مع الاتحاد السوفييتي في عقود الحرب الباردة.

تعاملت الولايات المتحدة مع السعودية كحليف إقليمي ودولي مضمون. السعودية دولة ذات أوجه تأثير متعددة. هناك سعودية النفط وهناك سعودية الإسلام وهناك سعودية الدور الإقليمي. وفيما عدا نقاط تأزم معدودة، مثل أزمة النفط عام 1973، فإن البلدين ظلا قريبين من بعضهما البعض. التقارب يزداد في زمن الإدارات الجمهورية، ويفتر مع وصول إدارات ديمقراطية إلى الرئاسة.

~ واشنطن تدفع الآن ثمنا باهظا لموقفها من السعودية. التقارب السعودي – الروسي في أوبك+ جعل أوبك أقوى وأكثر تأثيرا ككارتيل يتحكم بكميات النفط في السوق العالمية وأسعارها

يمكن القول إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، ثم غزو العراق عام 2003، أثرا كثيرا على العلاقات السعودية – الأميركية. نجحت إيران في تثبيت فكرة الإسلام السني المؤذي للولايات المتحدة، والإسلام الشيعي الذي يمكن التعايش معه. من جهة ربطت هجمات الحادي عشر من سبتمبر بالسلفية التي ترعاها السعودية، رسميا في البداية مع الغزو السوفييتي لأفغانستان وصعود تأثير الثورة الإيرانية، وسريا في مرحلة لاحقة بعد أن سحبت الدولة السعودية يدها من دعم الانتشار السلفي عالميا وتولت الأمر تنظيمات إسلامية سرية ازدهرت بتمويلات تحاربها الرياض اليوم بنشاط. ثم جاء التأثير العراقي في العلاقة عندما قدمت إيران نفسها حليفا غير معلن للولايات المتحدة في احتلال العراق. توج هذا التحالف بخطوة تسهيل الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011 بقرار من إدارة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما. ما كان لهذا الانسحاب أن يتم اعتمادا على ما شيدته واشنطن من بنية أمنية هشة في العراق من جيش وشرطة، كما ظهر لاحقا في اجتياح داعش لمحافظات عراقية كاملة وحكمها لسنوات. العامل الإيراني حاضر في استبدال التواجد الأميركي بترتيبات إيرانية قبل سقوط الموصل بيد داعش، وحاضر أكثر في التدخل المباشر لفيلق القدس الإيراني. عمل الطيران الحربي الأميركي كقوة جوية لفيلق القدس والحشد الشعبي. التقارب الإيراني – الأميركي، الظاهر منه والباطن، كان على حساب العلاقة السعودية – الأميركية.

هذا التراكم في تأزيم العلاقة السعودية – الأميركية وصل إلى ذروته بوصول إدارة الرئيس الحالي جو بايدن إلى السلطة. جعل بايدن تحويل السعودية إلى دولة منبوذة كسياسة لإدارته. لم يتردد لا هو ولا كبار المسؤولين المحيطين به في التصريح بذلك. هذا العداء للسعودية، الذي يبدو مجانيا، تقف خلفه لوبيات مختلفة ومؤثرة. لكن من الضروري الإشارة إلى أن ثمة بعدا سعوديا أيضا.

اللوبي الأول، هو لوبي ديمقراطي مؤسس. الديمقراطيون يقدمون أنفسهم رعاة للديمقراطية في العالم. هناك جمهرة لا يستهان بها من أعضاء الكونغرس جعلت من أهدافها النيل من العلاقة مع السعودية. حتى من قبل حرب اليمن ومقتل جمال خاشقجي، كان هذا اللوبي مؤثرا في سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة.

اللوبي الثاني، هو لوبي أوباما – بايدن، إذا جاز التعبير. هذا اللوبي هو الابن الشرعي للوبي الأول. عمل هذا اللوبي مبكرا على هز كل شيء في الشرق الأوسط تحت مسمى الربيع العربي. التقط بايدن الخيط من حيث تركه أوباما. نقطة البداية كانت عداء مفتوحا للسعودية. هذا لوبي صدق نفسه بأنه المنقذ للشرق الأوسط من دكتاتورياته.

اللوبي الثالث، هو لوبي ترعاه قطر ويعمل لصالحها وضد السعودية. المجموعة التي تواجه تحقيقا الآن من قبل أف.بي.آي فيما صار يعرف بـ”قطر غيت”، عملت أثناء حكم إدارة الرئيس دونالد ترامب الجمهورية. إنه لوبي قاعدته تقوم على مؤسسات صناعة السياسات الخارجية الأميركية وبتوجيه من جنرالات وسفراء مخضرمين قادرين على التأثير على الدائرة المحيطة بالرئيس في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية. إذا أردنا فهم سلبية إدارة ترامب في الرد على هجمات الميليشيات التابعة لإيران والتي استهدفت قلب الصناعة النفطية السعودية في أبقيق، يجب أن نفهم بالضبط حجم الاختراق القطري للإدارة بما يتجاوز فقط الموقف من مقاطعة قطر من قبل دول الخليج ومصر.

اللوبي الرابع، هو لوبي الإعلام الذي تقوده صحيفة واشنطن بوست. ثمة تحشيد ضد السعودية استبق قضية خاشقجي، لكنه استفاد بشكل كبير من القضية. بعد شهر واحد من وصول إدارة بايدن إلى الحكم وتبنيها لسياسة تحويل السعودية إلى دولة منبوذة، كتبت الصحيفة افتتاحية تقول فيها إن سياسة الإدارة الجديدة تحقق نتائج ملموسة، وإن عليها أن تزيد الضغوط على الرياض وتزيد من استهداف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

هذا هو البعد السعودي في القضية: الأمير محمد بن سلمان. صحيح أن اللوبيات المضادة للسعودية كانت فاعلة، لكن الإصرار الأميركي على مقاطعة ولي العهد السعودي كان لافتا. ضع جانبا اللغو عن دعم الديمقراطية في العالم. هذه سلعة لا تستطيع الولايات المتحدة تسويقها. وضع جانبا الحديث عن قضايا حقوق الإنسان في السعودية. يمكن لأي مراقب أن يرد على واشنطن بالقول: انظري إلى سجلك العالمي. المشكلة كانت في تغير ملموس في القيادة السعودية. الأمير محمد بن سلمان كان يريد أن يغير طبيعة العلاقة السعودية – الأميركية ويمنح بلاده استقلالية القرار. هذا أمر لم يكن ليناسب أيًّا من الإدارات الأميركية، سواء أكانت جمهورية أم ديمقراطية.

~ الولايات المتحدة تعاملت مع السعودية كحليف إقليمي ودولي مضمون. السعودية دولة ذات أوجه تأثير متعددة. هناك سعودية النفط وهناك سعودية الإسلام وهناك سعودية الدور الإقليمي

ومن المفارقات أن تباعد المسارات هذا بين السعودية والولايات المتحدة، كان أيضا السبب الذي جعل واشنطن تعيد النظر في موقفها الآن. تدفع واشنطن الآن ثمنا باهظا لموقفها من السعودية. التقارب السعودي – الروسي في أوبك+ جعل أوبك أقوى وأكثر تأثيرا ككارتيل يتحكم بكميات النفط في السوق العالمية وأسعارها. صمدت العلاقات السعودية – الروسية في أخطر امتحان عندما اندلعت حرب أوكرانيا. تصورت واشنطن أن مكالمة من موظف في وزارة الطاقة الأميركية كافية لكي تبدأ السعودية بضخ المزيد من النفط في الأسواق. جاءت الصدمة عندما لم تتجاوب السعودية ولا الإمارات مع الطلبات الأميركية وما أعقبها من ضغوط. واشنطن كانت أمام لحظة الحقيقة: استعداء السعودية وسحب صواريخ باتريوت منها وترك إيران تتلاعب بالأمن في المنطقة والحديث عن تغير التركيز الاستراتيجي الأميركي من الشرق الأوسط إلى الصين، له ثمن. هذا الثمن اسمه “سعر غالون البنزين” في محطات الوقود في الولايات المتحدة. ومع التردد الأوروبي في الدخول بمواجهة مفتوحة مع روسيا، خصوصا بموضوع مقاطعة واردات النفط والغاز الروسية، صار الانكشاف الأميركي أمام الأزمة كاملا.

خلال أسبوع جاءت تصريحات متناقضة من بايدن شخصيا؛ مرة “سأذهب إلى السعودية” ومرة “لم أقرر بعد”. إنه صراع بين تأثير اللوبيات وواقعية السياسة على الأرض.

عندما أحس الرئيس روزفلت بأن العالم على وشك التغير تماما قبل أشهر من نهاية الحرب العالمية الثانية، قرر أن يلتقي بالملك عبدالعزيز آل سعود على ظهر البارجة كوينسي في منطقة البحيرات المرة في قناة السويس. يحتاج الرئيس بايدن أن يدرك أن العالم يتغير ثانية وأن نيوم ليست بعيدة كثيرا عن البحيرات المرة. لعل لقاء هناك يصلح ما أفسدته اللوبيات.