"تلخيص وترجمة كتاب اليمن الجنوبي، الثورة والسياسة الخارجية 1967 _ 1987م)..

محطات التحول في تاريخ اليمن الجنوبي: من الاستقلال إلى الأزمات السياسية (فرِد هاليداي)

"يشتمل الكتاب على معلومات دقيقة وموثقة، ربما لا يوجد كتاب آخر يماثله أو يقترب منها في معالجة تاريخ هذه المدة بهذه الدقة. عمد المؤلف خلال خمسة عشر عاماً قضاها في تأليف هذا الكتاب إلى الرجوع إلى مراجع وكتب ومجلات وصحف عربية وأجنبية، واعتمد على محاضر وبيانات رسمية صادرة من عدد من الدول والهيئات والمنظمات الدولية."

صراعات الحزب الاشتراكي اليمني وتأثيرها على الدولة في الجنوب - أرشيف

د. سالم الحنشي
مدير تحرير مجلة بريم الصادرة عن مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات
عدن

المقدمة: (اليمن الجنوبي، الثورة والسياسة الخارجية 1967 _ 1987م) تأليف: فرِد هاليداي، ترجمة: د. عدنان سعيد ثابت عبد الصفي، م. نصر محمد أحمد شيخ، مراجعة: د. وهيب سالم السعدي، كتاب صدر عن دار الوفاق الحديثة للنشر والتوزيع _ مصر، ط1، 2024م. وهذه هي طبعته المترجمة التي بين أيدينا، ونعمل على عرضها التي جاءت في 520 صفحة، وأما طبعة الكتاب بلغته الأصلية التي تم تأليفه بها، فقد صدرت في عام 1990م.

يُعدُّ هذا الكتاب مصدرًا في تاريخ الجنوب المعاصر، ومن خلال المدة الزمنية التي ركز عليها المؤلف، عقدين من الزمن، في النصف الثاني من القرن الماضي، يتضح أن هذه المدة قد شهدت أحداثًا وتحولات بارزة في مسار الدولة الجنوبية الوليدة بعد التخلص من الاستعمار البريطاني في عام 1967م، وتتمثل أبرز هذه الأحداث في الإطاحة بأول رئيس للدولة في عام 1969م، والمحطة الثانية الإطاحة بالجناح الاشتراكي ذات الميول الصينية، كما يُزعَم، الذي كان في رئاسة الدولة عام 1978، والمحطة الثالثة أزمة 1986م التي أطاحت هي الأخرى برئاسة الدولة، وهذه المحطة انهكت بنية الدولة وكادرها المؤهل، وجعلت ما بقي منها لقمة سائغة أمام أطماع اليمن الذي كان ينظر لهذه لدولة بأنها الفرع الذي يجب إعادته إلى حضيرتهم.

بدأ الكتاب بتقديم يشار فيه إلى المحتويات التي يضمها بين دفتيه، فضلًا عما شهدته الدولة الجنوبية في مدة الدارسة من محطات تحول بارزة، وبيَّن ما قد يكون أغرى المؤلف الإيرلندي فرد هاليداي بتأليف هذا الكتاب الخاص بهذه الدولة ذات النهج السياسي الاشتراكي العلني بكل وضوح، المغاير لما يحيط بها في المنطقة، وهي الدولة التي دعمت حركات التحرر المسلحة في المنطقة التي تتفق معها في التوجه، وساندت بعض حركات التحرر في آسيا وأمريكا الجنوبية، فكانت تجربتها فريدة، ويميز هذا الكتاب أن مؤلفه أكاديمي متخصص في العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط؛ لهذا جاء الكتاب مهمًا في تاريخ هذه الدولة المعاصر، يشتمل على معلومات دقيقة وموثقة، ربما لا يوجد كتاب آخر يماثله أو يقترب منها في معالجة تاريخ هذه المدة بهذه الدقة، وقد عمد المؤلف خلال خمسة عشر عامًا التي قضاها في تأليف هذا الكتاب بالرجوع إلى مراجع وكتب ومجلات وصحف عربية وأجنبية، واعتمد على محاضر وبيانات رسمية تصدر من قبل عدد من الدول والهيئات والمنظمات الدولية، وبيانات المؤتمرات التي عقدتها الجبهة القومية والحزب الاشتراكي اليمني، وبعض البيانات التي صدرت عن اجتماعات القيادات الجنوبية مع نظرائهم في البلدان الأخرى، لاسيما الاتحاد السوفيتي والصين، وما تناولته وكالات الأنباء حول عدد من قضايا اليمن الجنوبي، مثل وكالة(تاس) السوفيتية، ووكالة(أنباء الصين الجديدة)، ووكالة(رويترز) وغيرها، ومن هنا جاءت معلوماته دقيقة تتسم بالمصداقية؛ فضلًا عن ذلك فقد زار المؤلف هذا البلد(الجنوب) في فترات مختلفة، فكانت أول زيارة له عام 1970م، وزيارة للمناطق التي تسيطر عليها حركة المقاتلين في عُمان عام 1973م ناقش فيها باستفاضة مع قادة الحركة الدور الذي يلعبه اليمن الجنوبي في شبه الجزيرة العربية، وأخرى أقام فيها في عدن عام 1977م وأجرى مقابلات مع عدد من الشخصيات الرسمية فيها، منهم محمد صالح مطيع وزير الخارجية، وتمثلت تلك المقابلة في أسئلة طرحها المؤلف على وزير الخارجية(مطيع) تتعلق بعلاقاتهم مع الدول الاشتراكية وغيرها من الدول التي لا يوجد بينهم وبينها وفاق أو توجد خلافات كالسعودية وعُمان والإمارات والصومال وإثيوبيا والعراق... ومقابلة مع الرئيس علي ناصر محمد ركزت على الخلافات مع عُمان والجمهورية العربية اليمنية، ونظرتهم إلى الثورة الإيرانية، ودور مصر فيما حدث من إشكالات في عهد السادات.... وزيارة رابعة عام 1984م، وأجرى أيضًا في هذه البلد مقابلات مع عدد من ممثلي الحركات المعارضة من اليمن الشمالي، والسعودية، والبحرين، وعُمان، والعراق، ومصر، وفلسطين، والسودان، وإيران ومناطق متعددة من إثيوبيا، فضلًا عن عدد من ممثلي الدول المتحالفة مع هذه الدولة(اليمن الجنوبي) ككوبا وإثيوبيا، وهؤلاء كانوا مفيدين بصورة خاصة في مناقشة علاقاتهم مع عدن، كما يقول المؤلف، فأتاح له ذلك التعرَّف عن قرب على طبيعة البلد وسياستها، وزار لذات الشأن أيضًا إثيوبيا عام 1977م، وإيران عام 1979م، واليمن الشمالي عام 1984م، وجمع معلومات عن رؤية القوى العظمى للأحداث في الجنوب العربي، وذلك من خلال زيارته إلى واشنطن في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، وموسكو في عام 1982م، وَ 1984م، وَ 1987م، وقد عزز كل ما جمعه من معلومات ومقابلات بنقاشات مع مسؤولين من عدة دول ومنظمات كانت تتعامل مع هذه البلد في المدة المدروسة، ويذكر بأن من بين من قابلهم مسؤولين من بريطانيا، وجمهورية ألمانيا الاتحادية، وجمهورية ألمانيا الديمقراطية، والولايات المتحدة الأمريكية، وكوبا، والاتحاد السوفيتي، والصين، وإسرائيل، ومصر، والجزائر، والعراق، والسعودية، واليمن الشمالي، وإيران، والصومال، وإثيوبيا.

وقبل الدخول في متن الكتاب(فصوله) توجد ملاحظات يُبيَّن فيها تنقل المسمَّى لهذه الأرض الجغرافية في التاريخ الحديث الذي لم يدخل فيها اسم اليمن إلا بعد الاستقلال عام 1967م، وتوقف أمام مسمَّى التنظيم السياسي في هذه البقعة الجغرافية منذ نشأته في عام 1963م، حيث عُرِفَ باسم(الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل) واستمر إلى عام 1967م، ومن هذا العام(عام الاستقلال) حتى عام 1972م عُرِفَ باسم(الجبهة القومية)، ومن عام 1972م _ 1975م باسم (التنظيم السياسي للجبهة القومية)، ومن 1975م _ 1978م باسم(التنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية)، ومن عام 1978م وما يليه باسم(الحزب الاشتراكي اليمني). وبعد هذه الملاحظات يوجد مسرد زمني تسلسلي للأحداث البارزة منذ الاحتلال البريطاني عام 1839م، حتى نوفمبر 1987م الاحتفال بمرور عشرين عامًا على الاستقلال، وهي المدة التي توقف عندها تتبع تاريخ الجنوب المعاصر في هذا الكتاب.

يحوي هذا الكتاب ستة فصول، جاء الفصل الأول بعنوان(تطوّر السياسة الخارجية خلال العقد الأول) وفيه تناول المؤلف مرحلة ما قبل الاستقلال عن بريطانيا، فوقف على مفاوضات جنيف بين وفدي الجبهة القومية والحكومة البريطانية، التي خلصت إلى تسليم زمام الأمور للجبهة القومية، وكيف فرضت الجبهة القومية أمرًا واقعًا ببسط سيطرتها على معظم أراضي هذه المنطقة، وهو ما جعل بريطانيا تعترف بها وتسلمها السلطة، بعكس ما كان يشيع معارضوها بأن اتفاق بينهما كان مسبقًا وتنازلات متبادلة بينهما نظير ذلك الاتفاق، وتم إعلان استقلال جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧م، وتحدث عن تقلب السياسة الخارجية في العقد الأول من عمر الدولة الجنوبية، التي ترتبت على تقلبات التنظيم الداخلي في الدولة، فبيَّن محطات التحول الداخلي، وإرهاصاتها، وأسبابها، ورموزها، والتحالفات الداخلية، وأسباب النجاح والهزيمة، وربط ذلك بالتطورات التي حدثت لاحقا ومنها تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني، الذي ورث الجبهة القومية، وبيَّن أن تلك التقلبات الداخلية قد ترتب عليها تقلبات السياسة الخارجية مع الاتحاد السوفيتي والصين ودول الغرب، وعلاقة التنظيم السياسي بحركات التحرر في الجزيرة العربية والقرن الأفريقي بدرجة أساسية.

والفصل الثاني بعنوان(الحزب الاشتراكي اليمني: التطبيع، والصراع الحزبي)، وفيه وضح التحول البارز مع بداية العقد الثاني من عمر الدولة المتمثل باسترتيجية قيادية واضحة، مع تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني عام 1978م ونهج علاقة صريحة مع الاتحاد السوفيتي، وما ترتب عنها من زيارات متبادلة على أعلى مستوى وتوقيع علاقة صداقة وتعاون لمدة عشر سنوات، واتفاقيات في أوجه متعددة على مستويات مختلفة، لكن خلال هذه المرحلة ظهرت الصرعات السياسية والشخصية داخل الحزب، وارتبطت جزئيًا بالنزاع المتمحور حول موقع الدولة في الساحة الدولية، فأدَّى ذلك إلى انفجار الوضع في 1986م، فتابع الاختلاف الذي حصل حتى قدَّم عبدالفتاح استقالته، وخروجه إلى الاتحاد السوفيتي في 1980م، وكيف سارت الأوضاع فيما بعد وبرزت الاختلافات التي أدّت إلى رجوع عبدالفتاح وتفجر الأوضاع، وحاول تتبع الأسباب والنتائج لهذا التحول الأبرز الكارثي على الدولة بنيةً وكادرًا، وما ترتب عليه من تحولات في السياسة الخارجية، مع الدول الصديقة والغربية ودول الجوار بدرجة أساسية، والتحول في دعم حركات التحرر.

وكان الفصل الثالث بعنوان(الدول الرأسمالية المتقدمة) وخصصه لدراسة علاقة اليمن الجنوبي مع الدول الرأسمالية المتقدمة، الدول الصناعية الكبرى، كبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانية الغربية التي منحت هذه الدولة اعترافًا دبلوماسيًا عند الاستقلال، فانضمت في 14 ديسمبر 1967م إلى الأمم المتحدة دون أي معارضة، وفي أكتوبر 1969م انضمت إلى صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومع ذلك كانت علاقات هذه الدولة مع دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي(OECD) متذبذبة، فهي وإن استمرت في إدارة تجارتها مع هذه البلدان، وحافظت على علاقاتها الدبلوماسية مع كثير منها فقد كانت في صراع دائم معهم حول قضايا سياسية، وإن تلاشت بعض القضايا مع مرور الزمن كالقضايا الموروثة مع بريطانيا، إلا أنها برزت بعض الخلافات حول مسألة الاستثمار وجاليات هذه البلدان والطابع السياسي للنظام، وكانت معظم الانتقادات الموجهة لتطورات الوضع داخل الجمهورية تأتي من منظمة العفو الدولية وحقوق الإنسان، وكان النقد موجه للإجراءات القضائية والسجون داخل هذه البلد، وتركز الصراع مع الغرب تبعًا لسياساتها في منطقة البحر الأحمر وشبه الجزيرة العربية، ومن هنا كانت هذه الدولة (الجنوب) مشتركةً في الصراع: الشرقي _ الغربي، فتحالفها مع الاتحاد السوفيتي ودعم حركات تمرد داخل البلدان المجاورة أثار عداوة الغرب الذي كان يدعم أنظمة محافظة في هذه المنطقة، وقد كان الصراع بين القوات المحافظة والراديكالية مستمرًا في شبه الجزيرة العربية منذ الإطاحة بالإمام في صنعاء في سبتمبر 1962م، واستمر وأخذ منحى عسكريًّا حتى توقيع اتفاقية الاعتراف بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وسلطنة عُمان في عام 1982م، فكان استقلال هذه الدول(الجنوب) نقطة تحول لكنها ليست البداية أو النهاية لهذا الصراع المستمر منذ عشرين عامًا بين الثوار المحليين والقوى الخارجية، ومع هذا الصراع فقد كان الغرب والشرق في الوقت ذاته في صراع دارت رحاه في شبه الجزيرة العربية ومياهها المحيطة ردحًا من الزمن من قبل عام 1967م فكان الغرب ينظر للوجود السوفيتي في هذه الدولة(الجنوب) ومصر والعراق إلى أنه تهديد له، مثلما هو الحال لوجود الغرب في السعودية وإيران ودول شبه الجزيرة المحمية من بريطانيا، فهذا غير مرحب به من قبل الاتحاد السوفييتي، وعلى هذا النحو كان استقلال هذه الدولة(الجنوب) وانتقالها من المعسكر الغربي إلى جانب المعسكر الشرقي في هذا الوسط(شبه الجزيرة العربية) مع ما ترتب عليه من نظرة وتوجه تجاه البلدان المجاورة؛ بداية فصل طويل جدًا من الصراع بين المعسكرين(الشرقي والغربي)، لاسيما وقد ارتبط هذا التحول بهزيمة مصر من قبل إسرائيل في عام 1967م وانسحابها من اليمن الشمالي فضلًا عن قرار بريطانيا في يناير 1968م بالانسحاب من الخليج بحلول عام 1971م، وبذلك شكَّلت هذه الدولة(الجنوب) جزءًا من إعادة تنظيم فصول النزاع الشرقي _ الغربي التي دارت رحاها في منطقة غرب آسيا كلها، وأثر هذه التطورات انتقل الصراع من البحر الأحمر إلى الخليج العربي مع نهاية الستينيات، ووجدت هذه الدولة(الجنوب) نفسها مع مواجهة أكبر مع الولايات المتحدة الأمريكية بدلًا عن بريطانيا. فتطورت علاقاتها مع الدول الغربية الصناعية بطريقة مثيرة للجدل فتم إنهاء محادثات المساعدة مع بريطانيا في مايو 1967م، وعلَّقت ألمانيا الغربية علاقاتها في يوليو 1969م، وقطعت عدن علاقاتها مع أمريكا في أكتوبر 1969م. لكن مع أوائل السبعينيات بدأت العلاقات في التحول إلى الإيجابية مع الدول الغربية وإن بقيت هذه الدولة(الجنوب) على موقفها تجاه الحركات الوطنية في الدعم والمساعدة. وهكذا بيَّن المؤلف العلاقة بينها وبين الدول الغربية بشكل عام، وانتقل للتفصيل كالعلاقة بينها وبين بريطانيا التي أبقت على فرقة كوماندوز(فدائيين) على حاملة طائرات بالقرب من عدن مؤقتًا خوفًا من التعدي على دبلوماسييها والجالية التي ما زالت فيها، واستمرت هذه الدولة(الجنوب) في إدانة بريطانيا بتسليم جزر كوريا موريا إلى عُمان، وإن لم يحدث شيء في هذا الجانب إلا أن السلطات الحاكمة في هذه البلد(الجنوب) قد بدأت سلسلة محاكمات لمسؤولين فيدراليين سابقين متهمين بالتعاون مع بريطانيا، فكانت التهم الموجهة لهم التحريض على القبلية في القوات المسلحة، والإعداد لمشاريع سياسية، والتآمر بقصف قوات المناضلين، فحكم على السجناء بالسجن لمدد طويلة، وعلى الغائبين بالإعدام، فكانت بريطانيا تنظر إلى أن هذه الإجراءات أفعالًا عدائية، وصحب هذه المحاكمات نزاع حول خبراء عسكريين أبقتهم بريطانيا ضمن الجيش 18 في الجوية، و 7 مع القوى البحرية و 3 في الجيش، وعندما زاد التوتر بين اليمن الشمالي والجنوب في أوائل 1968م حذرت بريطانيا سلطات عدن من إقحام أفراد جاليتها خارج إقليم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، فكان رد هذه السلطات في 27 فبراير 1968م بالإقالة لهؤلاء وطردهم من البلد، وبرزت مسألة المساعدات المالية الموعود بها من قبل بريطانيا التي لم تُحسم في جنيف، وتوقفت المحادثات في 10 مايو 1968م، دون التوصل إلى اتفاق، فكان عرض بريطانيا 1,8 مليون جنية إسترليني غير مقبول لدى حُكَّام هذه البلد(الجنوب) الذين يطالبون ب 60 مليون جنية، وأشاروا إلى أن المبلغ المعروض لن يغطي ديون المدفوعات الأخرى التي تطالب بريطانيا بضرورة سدادها، وهي: المعاشات التقاعدية للموظفين السابقين للسلطة الاستعمارية، وتعويضات البريطانيين الذين طردوا في فبراير 1968م. فكان الرد البريطاني هذه الديون والمدفوعات اُقتطعت من مبلغ ال 12 مليون الذي تمَّ التعهد به سابقًا في جنيف، وهكذا نقص المبلغ الصافي الذي تم التفاوض عليه كحل وسط. ولم يتم الحصول على رقم معين من الجانبين لقيمة المبلغ الصافي المدفوع فعليًّا من بريطانيا بعد الاستقلال، إذ إن الحصول على المبلغ الصافي يُعدُّ أكثر صعوبة نتيجة لإدراج بريطانيا بعض المواد، كالطائرات ضمن ال 12 مليون جنية، وقد كانت سلع إنتاجية قيد التصدير مسبقًا أثناء حقبة الاستقلال، ولم تكن وفق تقديرات جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية أنها جزء من مساعدات ما بعد الاستقلال؛ ومن هنا رأت حكومة عدن أن قطع العلاقات على المستوى المحلي والدولي مع بريطانيا أكثر فائدة من المعونة نفسها، وهكذا خلال عام تلاشت الروابط بين الجانبين، وتوقفت اللقاءات الهادفة والجادة بينهما، وفي فبراير 1970م خُفِّض طاقم السفارة البريطانية من 17 إلى 11، وفي عام 1978م رفضت حكومة حزب العمال إلغاء ديون هذه الدولة(الجنوب)، وفي 1979م صرح وزير خارجيتها ديفيد أوين أنه لم تكن لديه خطط للقاء نظيره في حكومة عدن. وهذا الافتقار في التواصل استمر إلى عام 1982م عندما استقبل وزير الدولة المسؤول عن الشرق الأوسط(دوغلاي هيرد) وزير الخارجية عبدالعزيز الدالي في وزارة الخارجية في لندن. وبيَّن المؤلف كيف سارت قضية المعاشات التقاعدية بين الجانبين، فاضطرت بريطانيا في عام 1970م إلى الدفع للمدنيين فقط، وبسبب ضغط الأسياد(اللوردات) وافقت الحكومة البريطانية على دفع الأموال على شكل قروض لحوالي 300 موظف من العسكريين. ورغم الاحتفاظ بالتمثيل في السفارات بين الجانبين ومن دون مقيمين بشكل دائم إلا أنه لم يلحظ أي علاقات خلال هذه المدة، ورغم التأميم إلا أن حكومة عدن لم تأمم الشركات البريطانية كالمصفاة التي امتلكتها حتى عام 1977م وأدارتها بتعاقد فيما بعد، وكذلك محطة الاتصالات السلكلية واللاسلكية لم تؤمم حتى عام 1978م، ولم يتم الاتفاق على تعويض الشركات المؤممة عام 1969م، ولم تثر الممتلكات الخاصة المؤممة خلافات بين الجانبين. وتم الحفاظ على العلاقات في مجال التعليم بذهاب الطلاب للدراسة إلى بريطانيا وعمل الخريجين هناك، وفي مجال الهجرة حيث استمر المهاجرون في العمل ببريطانيا والعودة إلى أرض الوطن للزيارات. 

أما فيما يتعلق بفرنسا فرغم أنها كانت توجد في الجهة المقابلة في البحر الأحمر، في جيبوتي المعروفة رسميًا بإقليم عفار وعيسى الفرنسي إلا أنه لم يوجه لها انتقاد من هذه الدولة(الجنوب)، وحاولت عدن أن تقيم معها علاقات منذ عام 1967م، وتم تقديم مساعدات محدودة، ورغم ضربهم لسفينة فرنسية في مارس 1972م من جزيرة بريم(ميون) إلا أن هذه الحادثة أيضًا لم تؤد إلى توتر العلاقات بين الجانبين، وقد عملت فرنسا فيما بعد على منح الاستقلال لذلك الإقليم في عام 1977م ونقل السلطة من قبائل عفار إلى قبائل عيسى ذات الأصول الصومالية المتحالفة مع هذه الدولة(الجنوب) أنذاك، مع احتفاظها بحامية عسكرية مكونة من ثلاثة آلاف شخص، وقد أعلن عن هذه السياسية وزير الخارجية محمد صالح مطيع في لقائه بأعضاء رفيعي المستوى في الحكومة الفرنسية منهم الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، في أثناء زيارته لفرنسا 8 _ 10 ديسمبر 1976م، وصرح أنهم يرغبون في الحفاظ على الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة، ويدعمون السياسة الفرنسية في إقليم عفار، هذا وإن كانت هذه الدولة(الجنوب) تنتقد سياسة فرنسا أحيانًا في مناطق أخرى في المحيط الهندي كفصل جزيرة مايوت من جزر كومور عام 1976م، ومشاركة فرنسا في قوات حفظ السلام المتعددة الجنسيات في سيناء، إلا أن موقفها العام تجاه فرنسا يمكن القول بأنه اتسم بالطابع الإيجابي، وكأنهم كانوا يتخذون منها البديل عن بريطانيا في أوربا الغربية بأسرها فشكلت نافذة لهم حد وصف وزير الخارجية محمد صالح مطيع. 

وكانت علاقة هذه الدولة(الجنوب) مع ألمانيا الغربية على النقيض من علاقتها مع فرنسا، وتتشابه مع علاقتها مع المملكة المتحدة، ورغم أن علاقة البلدين قد تأسست بعد الاستقلال إلا أنه سرعان ما اصطدمت بسياسة ألمانيا الغربية القائمة على مبدأ هالشتاين(الذي ينص على تحريم إقامة علاقات دبلوماسية بينها وبين الدول التي تعترف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية). وقد كان أول عمل لهذه الدولة(الجنوب) بعد الخطوة التصحيحية إقامة علاقة مع ألمانيا الشرقية، وفي 2 يوليو 1969م علقت ألمانيا الغربية علاقتها معها، ورغم التخلي عن مبدأ هالشتاين مع تطور مبدأ أوستبوليتيك لبراندت في أوائل السبعينيات، وفي سبتمبر 1974م أعيد تأسيس العلاقة بين البلدين، وكانت(الجنوب) تدير علاقتها مع ألمانيا الغربية من خلال سفارتها بفرنسا، وكانت بالمثل ألمانيا الغربية تدير علاقتها من خلال سفارتها بصنعاء، ثم حدثت مواقف أخرى تتعلق بجماعات إرهابية ألمانية تم تصديرها رسميًا إلى هذه الدولة(الجنوب) وأعقبها حادثة اختطاف طائرة ألمانية نفاثة وهبوطها بجانب مدرج المطار رغم إغلاق المدرج بالدبابات، وقيام المختطفين بقتل الطيار ورمي جثته بالمطار، والإقلاع بالطائرة إلى الصومال، ورافق ذلك وعود بمساعدات ألمانية وتوقيفها عدة مرات، كل هذا جعل العلاقة بين البلدين معقدة، وأصبحت مسألة العلاقة بينهما قضية نقاش سياسي محلي في ألمانيا الغربية أكثر منها في أي دولة غربية أخرى.

أما علاقة عدن بواشنطن، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد أن تنسحب المملكة المتحدة من شبه الجزيرة العربية، لكن بعد إعلان انسحابها في عام 1971م تزايد اهتمام واشنطن بهذه المنطقة، فكانت تترسخ علاقاتها الاستراتيجية مع الدول غير المنسجمة العلاقة مع هذه البلد(الجنوب)، كالسعودية، واليمن الشمالي، وإسرائيل التي عارضت كل المواقف الإيجابية تجاهها هذه البلد(الجنوب)، وفي عام 1977م التحقت(الجنوب) بجبهة الصمود والتحدي التي تأسست من أجل معارضة المبادرات المصرية تجاه إسرائيل، فضلًا عن ذلك وقفت ضد كل تواجد جوي وبحري لأمريكا في المحيط الهندي. وحدث بالمثل في القرن الأفريقي فقد دعمت قبل عام 1974م المقاتلين الإرتيريين والصومال خصوم حكومة الملكية الإثيوبية الموالية لأمريكا، وبعد عام 1974م دعمت بشكل متزايد النظام العسكري في أديس أبابا الذي كان في صراع وحرب مع الصومال الموالية لأمريكا حينها، وهكذا تنوعت العلاقة بين البلدين، وأصبحت متعادية بشكل مستمر طوال فترة ما بعد عام 1967م، تبعًا لتوتر علاقات عدن مع الدول المجاورة المتحالفة مع أمريكا، وإن كانت أميركا بالمجمل العام تظهر بأنها لا ترى لهذه البلد ذات الأقلية السكانية أي تهديد لأي أحد؛ لهذا لم تهتم كثيرًا بإقامة علاقات معها، وإن كانت الحقيقة التي جعلت أمريكا لا تهتم بإقامة علاقات دبلوماسية معها، هو معرفتها بأن حركة دبلوماسيتها ستكون محدودة ولن تمكنها من الوصول إلى أكثر أرضيها، واللقاء مع مختلف شرائح المجتمع، وإذا فتحت سفارة فلن يكون لها أي نفوذ في هذا البلد المحكم الإغلاق؛ ولهذا تحاول أن تظهر عدم الاهتمام بهذا البلد لعدم تشكيله أي خطورة على أحد. ولتعاون هذه البلد(الجنوب) مع مصر في حرب أكتوبر 1973م في إغلاق باب المندب(مدخل البحر الأحمر)، أرسلت أمريكا حاملة طائرات(الهانكوك) إلى البحر قبالة هذه البلد(الجنوب) مع وحدة حربية، وإن لم يتم الإبلاغ عن حوادث فعلية إلا أن هذه البلد استكرت الوجود الأمريكي في المياه الإقليمية حول جزيرة سقطرى، وفي مراسلة حررت في مايو 1977م بين وزارة الخارجية الأمريكية وعضو مجلس الشيوخ، صنفت حكومة أمريكا ج. ي. د. ش دولة داعمة للإرهاب إلى جانب العراق وليبيا والصومال، وهكذا استمر عدم وجود العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى أوائل الثمانينيات بينما الدول العربية الأخرى التي تدهورت علاقاتها مع أمريكا في عام 1968م قد أعادت علاقاتها نسبيًا معها، وكانت(الجنوب) إلى جانب أنجولا، وإيران، وليبيا، وألبانيا، وفيتنام، وكمبوديا، وكوريا الشمالية؛ واحدة من أصل ثمان دول في العالم، لم يكن لها سفارة أمريكية ولا بعثة دبلوماسية أمريكية تعملان بأي شكل من الأشكال.

وجاء الفصل الرابع بعنوان(معضلات الوحدة اليمنية) وأفرده لتناول العلاقات بين ج. ي. د. ش. وَ ج. ع. ي. ووضح أن أصول دعوة اتحاد البلدين تعود إلى الصلة والترابط بين الحركة القومية في عدن والحركة الإصلاحية الحرة في الشمال منذ أواخر الأربعينيات فصاعدًا، ولم يكن في تقدير حركة الأحرار اليمنيين عند بدايتها وتطورها في الثلاثينيات أن اليمن(الشمال والجنوب) يمن واحد، وكان تركيزهم ينصب على الدعوة إلى التغيير في الشمال، رغم ادعاءات المؤرخين اليمنيين اللاحقين بوحدة كيان اليمن، وبيَّن كيف أصبحت قضية الوحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وأهمية في التاريخ المعاصر في اليمن، حيث أصبحت ضرورة الوحدة بين البلدين من الثوابت الوطنية منذ الخمسينيات لمعظم اليمنيين، ويجب تحقيقها في المستقبل المنظور، ومن هنا لم يكن بقدرة أي من النظامين في البلدين الاعتراض عنها بشكل علني، وسعت التيارات السياسية لتعبئة الرأي العام حول قضية الوحدة، فكان يستغل كل نظام هذه القضية للتدخل في شؤون الآخر، وعملت عوامل متعددة على التناقض والتباعد، فبينما كان الجنوب الشافعي أكثر تحمسًا كان الشمال الزيدي أقل تحمسًا للوحدة، وكان الجنوب اشتراكي، والشمال أقطاعي وبالأحرى رأسمالي، وإن كان نظام صنعاء لا يعترف بذلك ويعتمد على النظام الاجتماعي الذي الغلبة والسيادة عندهم مقارنة بالعدد السكاني القليل في الجنوب.

وتحدث بشكل مفصل عما أسماه "معضلات الوحدة اليمنية"، ورأى أن العلاقات بين عدن وصنعاء قد مرت بست مراحل وزعها بحسب تقلبات المراحل السياسية في الجنوب على النحو التالي: (الأولى 1967 _ 1970م)، (الثانية 1970 _ 1972م)، (الثالثة 1972 _ 1977م)، (الرابعة 1977 _ 1979م)، (الخامسة 1979 _ 1986م)، (السادسة 1986 _ 1987م)، وبيَّن أن هذه المراحل قد تراوحت بين(وفاق) أحيانًا و(عداء) غالبًا، وفصَّل المؤلف الحديث عن المواجهات العسكرية التي دارت بين الدولتين في عامي ۱۹۷۲ م و۱۹۷۹م، التي كانت تنتهي بإبرام اتفاقيات (وحدوية) بين الدولتين، كما هي الحال في اتفاقيات القاهرة وطرابلس(۱۹۷۲) والكويت(۱۹۷۹م)، تلك الاتفاقيات التي كانت تضع الأسس لتوحيد الدولتين ولم تنفذ على أرض الواقع. 

وبيَّن كيف أن القرارات العلنية وبيانات المؤتمرات تتحدث عن الوحدة التي هي في الواقع بعيدة المنال، وتم توقيع اتفاقيات على أعلى مستوى(رئيسي الدولة) وكان هذا التوقيع لمجرد إن إحداهما على الأقل يستغل الاتفاقية لكسب الوقت، وتجنب ضغط الدولة الأخرى؛ لوجود مجالات تباين غامضة وأكثر عمقًا بينهما في السياسة الخارجية، وفي هيكل الحكومة والمجتمع وفي التنظيم الاجتماعي _ الاقتصادي الداخلي؛ لهذا كان تاريخ العلاقة بينهما بعد عام 1967م تاريخًا من التنافر، وتاريخًا من التعاون بين قوى صانعة للوحدة وقوى مؤيدة للانقسام والتنافر. ووضح كيف أن حوار الوحدة بعد عام 1967م ينطوي على تقليص جغرافي للمصطلحات المستخدمة بعيدًا عن الصعيد العربي ونحو الصعيد اليمني الأكثر حصرًا، وبعد هذا العام لا يشير مصطلح(الشعب) إلى العرب كلهم، بل إلى اليمنيين فقط، ويمثل وحدتهم التي ينشدونها، وتتبع بشكل دقيق التحولات في المصطلحات والمفاهيم الواردة في دساتير البلدين ومؤتمراتهم وخطاباتهم الرسمية، سواء المتفقة لتوحيد البلدين بصورة يعترف بها كل بلد بوجود الآخر، أو أن الآخر تابع له، ويسعى إلى أن يتمدد نظامه ليشمل القسم الآخر، فضلًا عن مشاكل أخرى انطوى عليها دستورا البلدين، كأن يعبر أحدهما أن الإسلام ديانة الدولة، ويرى الآخر أن مشروعه الدستوري يُستمَد من الإسلام، وإذا رأت الشمال بأن تحول مسمى الدولة في الجنوب في عام 1970م فيه ادعاء بأنها كل اليمن وعدم اعتراف بنظام صنعاء، فإن الجنوب يرى أن تشكيل مجلس شورى في الشمال وتخصيص مقاعد للجنوب فيه، هو ادعاء بأنها كل اليمن وعدم اعتراف بنظام في الجنوب، وزاد تعميق التنافر بهذا الجانب خطوة رئيس الوزراء في الشمال(العمري) عندما شكَّل حكومة في أغسطس 1971م ضمت ممثلين لقيادة جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل المنفيين من اليمن الجنوبي، وهكذا زاد التنافر والعداوة، وحولت الدساتير في البلدين الصراع إلى نطاق سعت فيه كل دولة إلى تحقيق الوحدة من خلال المطالبة بإزاحة الآخر.

ويرى المؤلف أن هناك أربعة عوامل تاريخية عززت انقسام البلدين(الشمال والجنوب)، وهي: عدم وجود دولة واحدة أو إقليم إداري متوارث من قبل فترة الاستعمار، وتأثير المستعمرتين(البريطانية والتركية) في ترسيم المنطقتين الإداريتين، ثم اختلاف الاضطرابات الاجتماعية والوطنية في الستينيات، وما أدت إليه من نشوء دول مختلفة في نهاية العقد، فضلًا عن المنافسة الأوسع حول منطقة جنوب الجزيرة بين السعودية والدول العربية الأكثر راديكالية، وبين الشرق والغرب، فكل عامل من هذه العوامل يمكن أن يشكل عقبة كبرى أمام توحد الدولتين. ونظرًا لذلك كانت كل دولة غير واثقة بالأخرى؛ لذا كانت تسعى إلى محاولة تقويض الأخرى من الداخل؛ لتأتي بحكومة أكثر مجانسة يسهل معها تحقيق الوحدة.

وجاء الفصل الخامس بعنوان(التوجهات الإقليمية: "التضامن" وتسوية الخلافات)، وضح في بدايته مسار ثورات التاريخ المعاصر الكبرى كلها، التي تشمل الدول الثورية، تحالف مع قوى المعارضة في الدول المجاورة، والدخول في صراعات مسلحة مع جيرانها ومع دول أخرى على مقربة منها: فرنسا، وروسيا، وكوبا، وفيتنام، وإيران؛ خضعت كلها لهذه التجربة(تجربة التضامن وتسوية الخلافات)، وهكذا سارت هذه البلد(الجنوب) بهذا الطريق، ومن خلال هذا المسار عرّج المؤلف على السياسة الخارجية لهذه البلد وعلاقتها مع دول الإقليم، لاسيما دول الجزيرة العربية والخليج والقرن الأفريقي فاستعرض المراحل التي مرت بها تلك العلاقات التي شهدت فترات من المد والجزر، وصولًا إلى مرحلة التطبيع وإقامة العلاقات الدبلوماسية بين عدن وعوصم تلك الدول، لاسيما الرياض ومسقط، وتناول مواقف عدن وتضامنها مع فلسطين وإيران، ومشاركتها إلى جانب إثيوبيا في حربها مع الصومال، وبيَّن أنها قد استمرت لمدة تزيد عن العقد في تماسك ونضال ثوري كانت فيه مستمرة الصراع مع تلك الدول، وذلك الموقف الاستراتيجي الواضح مع ضعف اقتصادها ومحدودية مصادرها كان ملفتًا للنظر. ووضح أن تمسك شعب هذه البلد (الجنوب) بهذا الموقف يرجع إلى أنهم يرون أن استقلالهم في خطر طالما بقيت جيوب الاستعمار في الخليج العربي، وهذه الرؤية جعلتهم يتورطون منذ الوهلة الأولى في صراعات مع ثلاث دول مشتركة معها في الحدود: اليمن الشمالي والسعودية وعُمان، فدخلت عدن في صراعات واتفاقيات عسكرية متقطعة، ودعم لمحاربي اليمن الشمالي وعُمان، واستمرت بدعم المعارضين السعوديين للملكية حتى عام 1976م، عندما قامت السعودية بطرد المعارضين لـ ج ي د ش، فكان الصراع بينهما سياسيًا، إذ لم تقبل كل منهما شرعية الدولة الأخرى، أو التوجه العام في السياسة الخارجية لكل منهما، أكثر من النزاع الذي أخذ شكل الصراع العسكري الطويل. 

ودخلت هذه البلد(الجنوب) في العقدين الأولين بعد الاستقلال في سياق الثورة الروسية بما اصطلح عليه بـ(السياسة الثنائية)، أي المزج بين العلاقات الدبلوماسية مع الأنظمة القائمة مع الاستمرار بدعم المعارضين الراديكاليين في تلك الدول، وإذا كانت علاقتها الدبلوماسية مقطوعة مع عُمان مع استمرار دعمها للمعارضين حتى عام 1982م، فإنها مع البلدان الأخرى قد اتبعت السياسة الثنائية وإذا كانت قد سلكت هذا مع الدول البعيدة كالعراق والصومال وإثيوبيا فإنها قد سارت فيه بشكل أوضح مع جاراتها ج ع ي والسعودية. واستمرت عدن في دعم المعارضة في عُمان عن طريق النشاطات العسكرية في منطقة ظفار الجنوبية من عام 1965م _ 1976م بصورة مستمرة، وحتى يونيو 1981م بصورة متقطعة، في أربعة أوجه بدرجة أساسية على الأقل: مموّنة للأسلحة، وحارسة للمواقع الخلفية للجبهة، ومزودة لدعم سلاح المدفعية بعيدة المدى، ومموّنة دورية لقوات المليشيا للقيام بعمليات قصيرة المدى داخل عُمان، وهذا ما جعل دول إقليمية وأخرى بعيدة تنظر إلى أن عدن مزعزعة لدور عُمان، وأخاف دول الخليج المنتجة للنفط إذ عدوا هذا الدعم تهديدًا لهم، ولم تهتم دول مثل بريطانيا وأمريكا بعلاقاتها مع عدن. وإن ظل الدعم مستمرًا لتلك الجبهة لكن النتيجة الفعلية على الأرض بعد عام 1975م بإنهاء الحرب، مكَّن عدن والرياض أن تقيم علاقات دبلوماسية في مارس 1976م، وأُجبر كل منهما على قبول شرعية الآخر، وانتصر في هذا الاتجاه(الجنوب) بعدم تحقق الهدفين الرئيسين للسعودية، وهما: قطع علاقة عدن بالاتحاد السوفيتي، وإعادة الأعمال الحرة في البلاد، وبعد أزمة 1986م عملت السعودية على الاحتفاظ بعلاقات مع طرفي الصراع، حيث قدمت مساعدات مالية وعسكرية لعلي ناصر محمد ومؤيديه في ج ع ي. أما بين عدن ومسقط فقد ظلت العلاقات مقطوعة رغم سعي الجامعة العربية ودولة الكويت في التوسط بينمها، وبعد هذه النتيجة الفعلية على الأرض التي قاربت علاقتها مع السعودية، فقد ظلت في النصف الثاني من عقد السبعينيات هادئة لكنها متجمدة، واستمر كل طرف في نقد الآخر بسبب تحالفه مع طرف ثالث، وزاد نقد ج ي د ش لعُمان من وقوفها مع مصر في اتفاقية كامب _ ديفيد، وإعلانها أنها مؤيدة للاعتراف الدبلوماسي العربي بإسرائيل، وكانت تشترط(الجنوب) أن تعود عُمان إلى الصف العربي المناهض لأطراف اتفاقية كامب _ ديفد. وتحت تأثير محاولات السعودية ودول أخرى للتوسط منذ عام 1976م فصاعدًا، عدَّلت عدن مواقفها تجاه عُمان، وبعد عدة محاولات ومفاوضات تم التوقيع بين وزيري خارجية البلدين اتفاق في الكويت في 27 أكتوبر عام 1982م لتسوية القضايا المتبقية بينهما والتبادل المستقبلي للمبعوثين الدبلوماسيين، وظلت متابعة هذا الاتفاق ضعيفة، وإن حصل تبادل بعض الزيارات الرسمية، ولقاء لجنة الحدود بشكل متكرر، وإلى نهاية عام 1987م لم تُفتح أي سفارة في أيّ من العاصمتين(عدن ومسقط)، وساد تساهل فاتر، وأدت أزمة 1986م إلى تخوف من إعادة إحياء جديد للجبهة الشعبية لتحرير عُمان، وإن كان ذلك وهمًا من الناحية الموضوعية؛ لعدم وجود أتباع مهمين للجبهة سواء من العسكريين أو المدنيين داخل عُمان.

أما الكويت فقد كانت الوحيدة المستقلة بشكل كامل، عندما استقلت ج ي د ش في نوفمبر 1967م، واعترفت بها مباشرة، ورغم العداء السعودي لـ ج ي د ش بسبب دعم الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي المحتل، التي تشمل الكويت ضمنيًا في إطار مفهومها(الخليج العربي المحتل) إلا أن الكويت كانت معتقدة بتحقيق مصالحها عن طريق جعل الروابط الدبلوماسية مفتوحة مع عدن، وعن طريق تقديم المساعدة الاقتصادية التي وصلت مع نهاية عام 1980م إلى 37 مليون دولار. وخلال السبعينيات كانت الكويت الوحيدة من دول شبه الجزيرة العربية إلى جانب ج ع ي، التي احتفظت بروابط جوية منتظمة مع عدن، وعندما احتجت عُمان في 1974م على علاقة الكويت بـ ج ي د ش وقامت بطرد القائم بأعمال السفارة الكويتية في مسقط، استمرت الكويت في علاقاتها الدبلوماسية والحميمة والتعاون والتواصل مع عدن، وفي فبراير 1981م قام أمير الكويت بزيارة عدن، وحرصت الكويت على نصح الدول الأخرى بالعدول عن التدخل في أزمة يناير 1986م، وفي عام 1987م خرجت عدن عن صمتها في توجيه النقد لإيران بمهاجمتها السفن الكويتية.

أما باقي دول الخليج الثلاث الأخرى فكانت في عام 1967م ما تزال محميات بريطانية، وكانت ج ي د ش تسعى من خلال الجبهة الشعبية لتحرير الخليج المحتل إلى تحريرها من السيطرة البريطانية، وعند إعلان بريطانيا المغادرة منها في 1971م تفاعلت هذه البلد(الجنوب) بشكل حاسم، وأكدت أن الاستقلال الذي منحته بريطانيا، كما في حالة عُمان، للحُكَّام، المدعوم بعد الاستقلال بواسطة المعاهدات التي شرَّعت دورًا عسكريًا بريطانيًا مستمرًا في المنطقة، لم يكن استقلالًا حقيقيًا، وانشغلت ج ي د ش في حملة دبلوماسية عقيمة معدة لغرض منع كل من الدول الثلاث وعُمان من الحصول على اعتراف دولي، وعدم الاعتراف بهم في جامعة الدول العربية، وكانت ترى أن هذا الاستقلال مزيف، ويجب أن تنال استقلالًا حقيقيًا حتى لا تظل اللعبة الاستعمارية سارية المفعول بأي شكل من الأشكال، وأيضًا يجب توحيدها وعدم استمرار التجزئة التي أحدثتها السياسة البريطانية. ومع ذلك تم الاعتراف بهذه الدول في الجامعة العربية، وإن وضعت العراق بعض الشكوك حول عُمان، ولم تدعم أي دولة عربية موقف ج ي د ش. وعندما تقدمت هذه الدول بطلب الانضمام إلى الأمم المتحدة كانت ج ي د ش وحدها التي صوتت ضدها. لإمارات، وكانت البحرين المكان السياسي الوحيد الذي يوجد فيه أتباعها المهمين خارج عُمان.ن والخليج العربي المحتل حضورًا فاعلوعندما استولت إيران في 30 نوفمبر1971م على ثلاث جزر تابعة للإمارات، أدانت هذا الفعل ج ي د ش وبعض الدول العربية الأخرى، وحمَّلت المسؤولية كل من بريطانيا وأمريكا. ولكن لم تستطع ج ي د ش أن تفعل إلا القليل من الناحية العملية، ولم يكن لدى الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي المحتل حضورًا فاعلًا في الإمارات، وكانت البحرين المكان السياسي الوحيد الذي يوجد فيه أتباعها المهمين خارج عُمان.

وبعد أشهر قليلة من عام 1971م لدخول هذه الدول في إطار الهيئات الدولية المعنية، بدأت الجبهة القومية في تعديل موقفها الرسمي منها بشكل ملحوظ، باستثناء عُمان. وفي نوفمبر 1974م وفي خطاب الرئيس سالم ربيع علي بالذكرى السابعة للاستقلال قام بتقديم طلب من أجل تحسين العلاقات مع دول الخليج ما عدا عُمان بسبب التدخل الإيراني وتواجده في أراضيها. ومع بداية عام 1975م زار وزير الخارجية محمد صالح مطيع تلك الدول الثلاث، وبدأت الإمارات منذ عام 1975م بتقديم معونة اقتصادية لـ ج ي د ش، وفي مارس 1977م قام الشيخ زايد رئيس الإمارات بزيارة عدن، وأُقيمت علاقات مع الإمارات في عام 1981م، وفتحت سفارة عام 1983م. وكانت البحرين وقطر أكثر تردَّدًا في تقديم المساعدة، طوال عقد السبعينات، ومع سقوط نظام شاه إيران في يناير 1979م، وشعور دول الخليج المنتجة للنفط أن في ذلك تهديدًا لها، سارعت إلى تشكيل مجلس التعاون الخليجي في مايو 1981م الذي تبنى إنشاء قوة عسكرية مشتركة، ورغم شعور عدن وطهران أن في ذلك تهديدًا لأمنهما، إلا أن مجلس التعاون الخليجي حثَّ على التفاوض مع عدن، في ظل وجود قرار من الجانبين في تخفيض مستوى التوترات بين مجلس التعاون الخليجي وإحدى دولتي شبه الجزيرة بعدم المشاركة فيه، ومع منتصف الثمانيات وجدت لعدن علاقات دبلوماسية مع دول مجلس التعاون الخليجي.

أما على مستوى العلاقات الإقليمية مع الدول غير المجاورة، فنتيجة لتلك العلاقات المتوترة مع المجاورين سعت عدن إلى إيجاد علاقات مع دول غير مجاورة، ونتيجة لتوتر علاقاتها مع عُمان وتدخل إيران، أدى ذلك إلى أن تدعم معارضي شاه إيران، وأقيمت العلاقات بينهما في 23 أبريل 1980م وفي يونيو 1982م وصل أول سفير إيراني إلى عدن. وكانت هذه البلد(الجنوب) والعراق شوكتين ذات تهديد راديكالي للجزيرة العربية، وتاريخ مستمر من الحقد بينهما في المنافسة بسبب الهيمنة الراديكالية، وفي عام 1976م أدانت ج ي د ش حزب البعث العراقي الفاشي بسبب تدخله في شؤونها الداخلية، وبسبب اتفاق العراق قبل عام لإنهاء العداوات مع إيران، وفي عام 1979 و1980م تم استدعاء السفيرين بعد قيام موظفي سفارة العراق بقتل لاجئ في عدن، وفي عام 1985م شهدت عدن محاكمة كبيرة لبعثيين مناصرين للعراق. وعلى جانب البحر الأحمر احتفظت عدن بمصالح مستمرة، وإن كانت حذرة، مع القرن الأفريقي، ففي عام 1974م قامت بدعم المحاربين في إقليم إرتيريا الإثيوبي، وطوَّرت علاقة سياسية حميمية مع النظام العسكري في الصومال، وبعد سقوط الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي في سبتمبر 1974م سعت عدن إلى تأسيس ولاء مع المجلس الإداري العسكري المؤقت(PMAC)، ولعبت قواتها العسكرية دورًا في الدفاع عن إثيوبيا ضد الهجوم الصومالي ما بين 1977 _ 1978م، وتطورت علاقاتهما الحزبية والاقتصادية والعسكرية الحميمية وفي ديسمبر 1979م وقعت الدولتان(ج ي د ش وإثيوبيا) معاهدة صداقة وتعاون، وسعت إلى دعم التيارات الأكثر راديكالية في حركة المقاومة الفلسطينية، وانتقدت السياسات التي اتبعتها الحكومة المصرية تحت حكم أنور السادات، وسعت إلى تطوير علاقاتها مع الدول التي أظهرت معارضتها للسادات، وبالتحديد ليبيا وسوريا. رغم أن ليبيا حدث فيها الانقلاب العسكري بعد استقلال هذه البلد(الجنوب) واعتلى السلطة القذافي الذي كان في البداية معاديًا لها وشجع اليمن الشمالي في حربه معها في سبتمبر 1972م ودعم عُمان، إلا أنه أصبح منذ منتصف السبعينيات داعمًا دبلوماسيًا فعَّالًا في ج ي د ش، وفي ديسمبر 1977م شكَّلت ليبيا بالاشتراك معها ومع وسوريا والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية والجزائر(جبهة الصمود والتحدي)، وهي مجموعة الدول المعارضة لمبادرات السادات للسلام، وفي الخامس من ديسمبر 1977 قطعت مصر علاقاتها الدبلوماسية مع عدن احتجاجًا على ذلك، وفي أغسطس 1981م تم توقيع تحالف ثلاثي بين ج ي د ش وليبيا وإثيوبيا، وقد تضمن هذا التحالف دعمًا اقتصاديًا من قبل ليبيا للعضوين الآخرين، ومساعدة عسكرية بين الدول الأعضاء في حالة الاعتداء الخارجي على أيّ منهم، وقد كان هذا التحالف متعلقًا بشكل خاص بدولتي البحر الأحمر(ج ي د ش وإثيوبيا)، وشكَّل هذا التحالف تحديًا للدول المتحفظة لاسيما السعودية ومصر المهيمنتين سابقًا على منطقة البحر الأحمر، لكن العلاقة مع ليبيا بدأت في التدهور ما بين 1982 _ 1988م فاشتركت ليبيا بقوة في إرسال الأسلحة إلى اليمن الشمالي، وعارضت تسوية الخلافات بين عدن وصنعاء عام 1982م، وبعد الانشقاق الذي حدث داخل حركة المقاومة الفلسطينية عملت ليبيا على دعم الفئة المتمردة المدعومة من سوريا ضد عرفات، في حين حاولت ج ي د ش مع الجزائر  تعزيز الوحدة من خلال تبني موقف أقل تعصبًا، فكانت نتيجة الخلافات أن قطعت ليبيا عن عدن المساعدة المالية كلها بحلول بداية عام 1984م، فتوقف العمل في المدرسة الطبية في خور مكسر الممولة من ليبيا، وسحبت سفارتها من عدن بحجة أسباب مالية، وحاولت ليبيا التوسط في كارثة أزمة يناير، وكل ذلك أكد للجانب الآخر أن سياسة ليبيا متهورة وغير مثمرة...

وعملت عدن على تقديم الدعم السياسي وأحيانًا المادي للفصائل الثورية في كل مكان في العالم الثالث، كمحاربي جبهة البوليساريو في الصحراء الغربية، واعترفت في 1978م بدولتها المسماة جمهورية صحراء أفريقيا الديمقراطية. ودعمت المحاربين المنفيين من تشيلي وبلدان أمريكا اللاتينية الأخرى، وبعض المحاربين من أوربا الغربية... .

أما العلاقات بين عدن والدول الاشتراكية، لاسيما الاتحاد السوفييتي والصين فكانت محور الفصل السادس من الكتاب الذي جاء تحت عنوان(البحث عن حلفاء: الاتحاد السوفيتي والصين). فذكر أن منزلة الشرف في ذكرى الاحتفال بمرور عشرين عامًا على الاستقلال في 1987م، مُنِحَت لممثلي الاتحاد السوفيتي، وأصبح التحالف مع الاتحاد السوفيتي هو العنصر الأهم في السياسة الخارجية، ولم يكن هناك منذ عام 1969م أي مؤشر لقيادة عدن بالتفكير بشكل جدّي بتغييرات أساسية في هذه العلاقة، رغم بعض التوترات والخلافات بينها. فقد كان الاتحاد السوفيتي يُعدُّ عاملًا أساسيًا لضمان أمن النظام، ويُعد أيضًا مصدر إلهام سياسي واجتماعي واقتصادي، ومن جانبهم أبدى القادة السوفييت التزامهم لـ ج ي د ش وعدُّوها أقرب حلفائهم العرب، ودولة من الدول ذات التوجه الاشتراكي، التي من المحتمل أن تكون إلى جانب نيكاراجو وموزمبيق وانغولا وإثيوبيا، دولًا اشتراكية. وكان لدى قادة السوفييت تحفظاتهم الخاصة إزاء السياسات المتبعة داخليًا من قبل ج ي د ش. وقد كان تحول البلد إلى الاشتراكية لسبب مهم جدًا، وهو الاحتياجات الملحة لوضع ما بعد الاستقلال في نوفمبر 1967م، ومن أجل مواجهة العجز الكبير في الميزانية والتوتر العسكري على طول حدودها البرية الثلاثة، فقد كان على الحكومة الجديدة في عدن التحرك بسرعة وحزم من أجل تعزيز سلطتها. فاعترفت روسيا بالجمهورية في 2 ديسمبر 1967م بعد مضي يومين على الاستقلال، وفي وقت لاحق من هذا الشهر وصلت بعثة سوفيتية من أجل إرساء دعائم سفارة سوفيتية، وفي فبراير 1968م وصل أول طاقم دبلوماسي دائم، ووصل أول سفير سوفيتي(فلاديمير ستارتسيف) في نوفمبر، وكان لا بد أن تجري المناقشات سريعًا حول أهم مسألة تهم البلد، وهي الأمن، وفي غضون ثلاثة أشهر من الاستقلال زار وفد عسكري بقيادة وزير الدفاع علي البيض موسكو، وفي مارس جاء إلى عدن وفد عسكري سوفيتي بقيادة الجنرال ألكسندر نجراسكي في زيارة دامت أربعة أيام أطلع خلالها على المستلزمات العسكرية للجمهورية، وفي أغسطس وقَّع الجانبان اتفاقية مساعدة فنية وعسكرية، وفي نوفمبر وديسمبر قامت بعثات عسكرية بزيارة الاتحاد السوفيتي، وتواصلت وتيرة الاتصالات بين الجانبين، وفي الجزء الأخير من عام 1968م زارت وفود من البلدين عاصمة كل منها؛ لمناقشة الأمور العسكرية والاقتصادية والثقافية، وأسفرت زيارة وزير الدفاع العولقي عن الاتفاقية الفنية والعسكرية، إذ وصلت الدفعة الأولى من الأسلحة في يوليو 1968م، وفي يناير 1969م وصلت شحنة كبيرة من المعدات العسكرية السوفيتية، تتضمن عشر مقاتلات من طراز ميغ 17، وصواريخ جو أرض، ومدافع مضادة للطائرات، ومعدات رادار محمولة، وذخيرة وقطع غيار. وكانت أول زيارة رفيعة المستوى إلى الاتحاد السوفيتي للرئيس قحطان الشعبي الذي قضى أحد عشر يومًا في روسيا في يناير وأوائل فبراير 1969م وقَّع خلالها اتفاقية مساعدة اقتصادية تتضمن إنشاء منظومة صناعة صيد حديثة، وبناء مصنع تعليب أسماك، وإنشاء مركز للتدريب والبحث في ج ي د ش، وتدريب مجموعة أفراد في الاتحاد السوفيتي، وتم الاتفاق على إرسال بعثات فنية سوفيتية لدراسة المياه حول الجمهورية، ووقَّع اتفاقية علمية وتعليمية، تلتها عدة زيارات رسمية بين الجانبين تم خلالها التوقيع على اتفاقيات في مختلف أوجه الحياة، وأفادت وكالة الأنباء الروسية(تاس) أنه بحلول فبراير 1972م تم الانتهاء من تنفيذ ثلاثين من المشاريع الصغيرة التي تم التعهد بها في اتفاقية فبراير 1969م. وذكر أن الرئيس سالم ربيع علي كان مترددًا بعد يونيو 1969م في القيام بزيارة رسمية إلى الاتحاد السوفيتي، وبدلًا عن ذلك زار الصين في أغسطس 1970م، التي قام وفد الجبهة القومية، الوفد الوحيد، بزيارتها في أوائل عام 1967م، إلا أن التغيير في سياسة الصين الخارجية في المنطقة، المتمثلة بإنهاء مساعداتها للمليشيات الإرتيرية والعُمانية، ودعمها للرئيس السوداني(النميري) في صراعه مع الحزب الشيوعي في يوليو 1971م، كل ذلك أسهم في تغيير رأي الرئيس الجديد(سالم ربيع)، فزار الاتحاد السوفيتي في نوفمبر 1972م ووقَّع اتفاقية أخرى للتعاون الاقتصادي والفني، وافق بموجبها الاتحاد السوفيتي على بناء محطة طاقة حرارية ومستشفى في عدن، وإجراء مسوحات جيولوجية، والاستمرار في مجال تعزيز القدرات الدفاعية للجمهورية، وكان المراقبون السوفييت على دراية بالصراع القائم بين سالم ربيع علي وخصومه، وربما شعروا بالارتياح من مجريات المؤتمر الخامس لعام 1972م لتبنيه مجموعة من المواقف المنسجمة مع السياسة السوفيتية، إذ لا بد أنهم قد أصيبوا بخيبة أمل نتيجة لتحركات يوليو الماوية(الأيام السبعة المجيدة)، وصدى الماوية في نداءات سالم ربيع علي من أجل الاعتماد على الذات، وعلى عكس اهتمام الصحافة السوفيتية بتغطية المؤتمر الخامس لم تحظ "الأيام السبعة المجيدة" بأية تغطية فيها. وقد حرص عبدالفتاح وعلي ناصر على زيارة روسيا كل عام، وكان الجانب السوفيتي يحثهم على تسوية الأوضاع مع جيرانهم في شبه الجزيرة العربية. وفي سبتمبر 1979م قام رئيس الوزراء السوفيتي أكيلسي كوسيجين بزيارة عدن، وهي أول زيارة يقوم بها مسؤول مدني سوفيتي رفيع المستوى.   

وعندما تدهورت العلاقة مع السعودية والغرب شجَّع ذلك الجبهة القومية على إقامة علاقات وثيقة مع هؤلاء الداعمين البعيدين اللذين كانت علاقاتهم بهم ضعيفة حتى ذلك الحين. لكن كان الخلاف بين قيادة الجبهة إلى أي مدى تأخذ هذه العلاقة ومدى التوازن بين القوتين: الشرق والغرب. فكان قحطان يفضل التوازن بينهما فسعى إلى الحفاظ على العلاقات مع بريطانيا وأمريكا، وكان خصومه الأكثر راديكالية على النقيض، فلم يرغبوا بذلك، ووصولهم إلى السلطة فتح الطريق أمام إقامة علاقات أقوى مع روسيا والصين. لكن الراديكاليين انقسموا أيضًا حول العلاقة مع الشرق، فسعى الرئيس سالم ربيع علي للحفاظ على علاقة جيدة مع الصين، وزار بكين في 1970م و 1974م، وسعى إلى تطبيق ما اعتقد أنه نماذج صينية للتعبئة السياسية في البلد، وكان عبدالفتاح إسماعيل مؤيد بشدة للاتحاد السوفيتي، وكانت مدة رئاسته من 1978 _ 1980م هي المدة التي أصبحت فيها العلاقات اليمنية السوفيتية أكثر استقرارًا، وعمل خلفه علي ناصر على التقليل بشكل جزئي من درجة تماثل سياسة ج ي د ش بسياسة الاتحاد السوفيتي.

 وتلك العلاقات لم تكن كلها على درجة كبيرة من الاتفاق، بل شهدت بعض التباين في المواقف والآراء، فعلى خلاف المعتقد لدى كثير ممن عاش تجربة هذه البلد(الجنوب)، فإن عدن خالفت بعض التوجهات السوفييتية والصينية، منها على سبيل المثال، موقف عدن من قضايا الصحراء الغربية وبنجلادش وكمبوديا، وكذا رفضها الموافقة على قبول كل من الإمارات العربية المتحدة وعمان والبحرين وقطر في الأمم المتحدة عام ۱۹۷۱م، ويذكر المؤلف أن كل من موسكو وبكين حثتا الحُكَّام في عدن على تبني نهج اشتراكي معتدل يتناسب مع طبيعة البلد، ورفض المسؤولون في كل من العاصمتين الإجراءات الاقتصادية المتشددة التي قامت بها عدن أوائل سبعينيات القرن الماضي، كما حثَّتْ العاصمتان عدن على تطبيع العلاقات مع دول الجوار الغنية، وبيَّن المؤلف أن حجم المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي قدمتها الدولتان لعدن كان كبيرًا. وشكّلت المساعدات المدفوعة من قبل الاتحاد السوفيتي في المدة 1967 _ 1980م ثلث إجمالي المساعدات المدفوعة، وبلغ إجماليها حوالي 152 مليون دولار مقارنة بـ 84 مليون دولار مقدمة من الصين، ومبلغ كبير آخر مقدم من دول أوربا الشرقية. وعلى الرغم من أن موسكو رأت في عدن حليفا صادقًا إلا أنها رفضت أن تعد ج ي د ش(دولة اشتراكية)، بل دولة (ذات توجه اشتراكي)، وفي المجمل العام، على الصعيد السياسي، تحسن التقييم السوفيتي لها تدريجيًا على مرّ السنين، من التقرير الأول الذي قُدِم على نحو إيجابي مع شيء من التحفظ بعد الاستقلال، وحتى إقرار التوجه الاشتراكي الذي اعتنقته ج ي د ش في عام 1982م. وقد استند التقييم السوفيتي لهذا التغيير على معايير معينة تمّ تطويرها في النصوص العامة المتعلقة بالعالم الثالث، تلك المعايير، هي: تدمير الطبقة الحاكمة السابقة، مستوى سيطرة الدولة على الاقتصاد، تطوير المؤسسات التعاونية، وقبل كل شيء بسط سيطرة الحزب الطليعي وامتداده. ومع ذلك قد لا تكون هذه المعايير الداخلية كافية للثقة في البلد التي يتم تقييمها، إذا لم يتزامن ذلك بتقارب مع الاتحاد السوفيتي على مستوى الجيش والسياسة الخارجية.

وقد سعى الاتحاد السوفيتي إلى تعزيز القدرات الدفاعية للقوات العسكرية لـ ج ي د ش، فورد أن الأسلحة المستخدمة في العرض العسكري في الاحتفالات بالذكرى السنوية في أكتوبر 1969م كانت جميعها أسلحة سوفيتية، وإن لم تكن هناك تقييمات دقيقة للإمدادات العسكرية السوفيتية، إلا أن هناك تقديرات تشير إلى أن ما قدمه في الأعوام 1977 _ 1980م تصل إلى 964 مليون دولار بالأسعار الثابتة لعام 1975م، ووفقًا لمصدر أمريكي فقد قدر الإجمالي بما يزيد عن 2,2 مليار دولار للأعوام 1967م _ 1985م، وكان يعتقد أن التهديد الرئيسي لهذه البلد يأتي من المملكة العربية السعودية التي كانت وارداتها من الولايات المتحدة أعلى بكثير من حيث الكم والنوع مقارنة مع ما تلقته ج ي د ش من الاتحاد السوفيتي، وعلى الرغم من أن مستوى القوات المسلحة العُمانية أدنى من تلك الخاصة بـ ج ي د ش إلا أن عُمان يمكنها الاستعانة بدول أخرى في شبه الجزيرة العربية، وكان مستوى القوات المسلحة في ج ع ي في معظم فترة ما بعد 1968م أدنى من مستوى قوات ج ي د ش، إلا أنه في الجزء الأخير من السبعينيات زادت إمدادات الأسلحة السوفيتية لصنعاء، وكانت، نوعًا ما، توازي تلك الأسلحة المقدمة إلى عدن.

وعلى مستوى السياسة الخارجية للبلدين فقد كان الاتفاق في مواقف كثيرة، لكن هذا لا يعني الاتفاق التام، فقد كانت ج ي د ش تختلف في بعض المواقف عن الاتحاد السوفيتي، وقد تضمنت العلاقات السوفيتية مع ج ي د ش مجموعة واسعة من الأنشطة، ورغم الاتفاق العام بين الدولتين فقد ظلت بعض مجالات الخلاف قائمة، لكن في الوقت ذاته ضمن الاتحاد السوفيتي مساهمة بلدان الكتلة السوفيتية الأخرى في تنمية ج ي د ش على أساس تقسيم العمل الذي وضعته دول حلف وارسو للعالم الثالث كله، فقامت تشيكوسلوفاكيا وهنغاريا(المجر) وألمانيا الشرقية وكوبا وبلغاريا بتقديم مساهمات تنموية كل دولة في اتجاه معين.

 

أما العلاقة مع الصين ففي الفترة الأولى بعد الاستقلال بدا أن الصين قد كان ثقل نفوذها يوازي ثقل النفوذ السوفيتي، ونشرت تقارير إيجابية عن الحكومة الجديدة، وثناء من الصين وزعيمها ماو تسي تونغ، وتم توقيع اتفاقية العلاقات الدبلوماسية في 31 يناير 1968م، ولم تُفتح السفارة الصينية إلا في يوليو 1969م، وقام وفد ج ي د ش برئاسة وزير الخارجية سيف الضالعي بزيارة بكين في سبتمبر 1968م، ووقع اتفاقيتين: إحداهما متعلقة بالتجارة، والأخرى بالتعاون الاقتصادي والفني، فقدمت الصين قرضًا طويل الأجل بدون فوائد بقيمة 12 مليون دولار لتغطية خمس سنوات من مشاريع التنمية، وقدمت مساعدات عسكرية، وفي أغسطس 1970م قام وفد برئاسة سالم ربيع علي بزيارة الصين، فقدمت الصين قرضًا إضافيًا بقيمة 43 مليون دولار بموجب اتفاقية اقتصادية وفنية جديدة، وقد كان الصينويون في 1968م يرون أن هذا البلد(الجنوب) لا زال في مرحلة مبكرة من تطوره، ويجب عليه إلا يتبنى سياسات راديكالية مفرطة، بشأن بناء الاشتراكية ورفع الشعارات غير العملية والاستفزازية؛ لأنها ستكون أسلحة فتاكة سيستغلها خصوم النظام ضده، ونبهوهم في وقت لاحق أن يكونوا على حذر من الصبيانية اليسارية، ويلتزموا بسياسات المرحلة الديمقراطية الوطنية للثورة بدلًا عن محاولة بدء الانتقال واعتناق الاشتراكية، واعتناق سياسة الاعتماد على الذات، وعدم محاولة تقليد سياسات الثورة الثقافية. وقامت الصين بإنشاء بعض المؤسسات، كمصنع نسيج المنصورة، وسفلتة طريق المكلا بطول 315 ميلًا، وبناء مستشفى في كريتر، وتوسيع معمل الملح في منطقة خور مكسر، وتم التوقيع على ثلاث اتفاقيات مساعدة أخرى: الأولى بمناسبة زيارة الأمين العام عبدالفتاح إسماعيل في يوليو 1972م، والثانية عندما قام الرئيس سالم ربيع علي بزيارة أخرى في نوفمبر 1974م، والثالثة أثناء زيارة رسمية لرئيس الوزراء علي ناصر محمد في أبريل 1978م، وبحلول نهاية عام 1980م قدمت الصين مساعدات تقدر بنحو 84 مليون دولار، ما يقارب 20 % من برنامج المساعدات الصينية في الشرق الأوسط، وكانت الصين تؤمن بالمساواة بين الشمال والجنوب؛ لهذا كانت لها علاقات مع ج ع ي أيضًا. وحصلت الصين على دعم ج ي د ش في أحد أهم قضايا الاختلاف بينها وبين الاتحاد السوفيتي، وهي الاعتراف بالحكومة الملكية للاتحاد الوطني لكامبوتشيا برئاسة الأمير سيهانوك التي كانت على نقيض النظام العسكري للجنرال لون نول المعترف به من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وفي أغسطس 1973م زار وزير خارجية سيهانوك عدن.

وحذر الصينيون منذ عام 1968م من مخاطر ما يسمى بالقوة العظمى، فقد كانوا يرون أن الإمبرياليين البريطانيين لن يتنازلوا بسهولة عن مصالحهم الاستعمارية، وإن الإمبرياليين الأمريكيين والمعتدليين العصريين السوفيت أيضًا سيحاولون الحصول على موطأ قدم، وأن الاتحاد السوفيتي كان يتواطأ مع الولايات المتحدة، وأنه سيخون الشعوب العربية، كما حدث في كوبا في أزمة الصواريخ 1962م، وستباع مصالح الشعوب العربية أكثر فأكثر في ظل الظروف الدولية الراهنة، ورغم زيارات ج ي د ش على أعلى مستوى للصين إلا أن أعلى مستوى صيني زار عدن هو وزير البناء الريفي والمدني في مارس 1985م. وقد أشار رئيس الوزراء الصيني تشو أنلاي في مطلع 1971م إلى أن ج ي د ش واحدة من عدة دول يتزايد فيها النفوذ العسكري السوفيتي.

ومع أزمة يونيو 1978م أصبحت التغطية الصينية للأحداث في ج ي د ش أكثر انتقادية بشكل ملحوظ، وألقت باللوم على موسكو لتدخلها في الشؤون الداخلية، وعملت قيادة ج ي د ش على عدم ذكر الصين في مؤتمراتها الحزبية، وكانت المرة الوحيدة التي انتقد فيها عبدالفتاح إسماعيل الصين علنية في زيارته إلى إثيوبيا في 1979م إلا أنه تم احتواء الأمر بسرعة، وكانوا في مؤتمراتهم الحزبية لم يتعرضوا إلى ذكر الصين، وظل الالتزام الاقتصادي الصيني قائمًا، وفي 1983 و 1984م عرضت الصين من جانب واحد إعادة جدولة ديون ج ي د ش، وأعادت بناء وسفلتة الجزء المدمر من الخط السريع بين المكلا وعدن جراء فيضانات 1982م، وعلى عكس تغطيتها واهتمامها بأزمة يونيو 1978م كانت متحفظة في أزمة 1986م، التي كان فيها رئيس الوزراء ووزير خارجية ج ي د ش في طريقهما ضمن زيارة رسمية إلى الصين، واضطرا إلى التخلي عن هذه الزيارة، وقام وفد ج ي د ش بقيادة رئيس الوزراء الجديد ياسين سعيد نعمان بزيارة إلى الصين في مارس 1987م، وتم توقيع عدة اتفاقيات اقتصادية بما في ذلك تلك المتعلقة بإعادة جدولة الديون، ما يؤشر إلى أن بكين تعاملت مع الأزمة بأنها شأن داخلي، ولم تؤثر على علاقتها بعدن.

لقد كانت الصين مشغولة بنزاعها مع الاتحاد السوفيتي، وكانت ج ي د ش مهتمة بصراعها مع جيرانها، وفي فترة معينة من 1967م حتى أوائل السبعينيات انطوت السياسة الخارجية الصينية على معارضة الغرب، لاسيما الولايات المتحدة؛ ولهذا دعمت قضايا التطرف التي كانت ج ي د ش تدعهما في المنطقة، وحتى هذه الأثناء ترفض ج ي د ش التحريض الصيني ضد السوفييت، لحاجتها إلى دعم السوفييت العسكري في مجابهاتها وتحدياتها، ومع ذلك كانت لدى الدولتين ج ي د ش والصين سياسات مشتركة منذ 1967م حتى 1971م، ومع التغييرات التي طرأت على السياسة الصينية المصاحبة لنهاية ثورتها عام 1969م، ودخولها مجلس الأمم المتحدة في الخارج عام 1971م، توقفت عن دعم معظم الفصائل النضالية في غرب آسيا، وتحولت بدلًا عن ذلك إلى بناء تحالف دبلوماسي مع جميع دول الشرق الأوسط، والعالم الثالث التي عارضت الاتحاد السوفيتي، باستثناء جنوب أفريقيا وإسرائيل وكوريا الجنوبية، فأصبحت إيران وإثيوبيا ومصر دولًا اقتربت منها الصين، ونتيجة لذلك أصبحت العلاقات مع عدن أكثر فتورًا، وأدى اختلاف السياسة الخارجية للصين بعد 1971م إلى تفاقم عجزها عن تلبية الاحتياجات الأمنية لـ ج ي د ش، ومن ثم ابتعد البلدان عن بعضهما بعض، ولكن لم تصل إلى قطع العلاقة بينهما، بخلاف الدول المجاورة للصين التي لها علاقة مع الاتحاد السوفيتي، فهي ج ي د ش لم تكن مرشحة للتحالف والانحياز إلى الصين ضد الاتحاد السوفيتي، ولم يشكل تحالفها واصطفافها مع الاتحاد السوفيتي تهديدًا مباشرًا للصين على النحو الذي شكلته الدول المجاورة الثلاث(منغوليا، فيتنام، أفغانستان) المتحالفة مع موسكو، ومن هنا لم تجد الصين نفسها مضطرة للعداء وقطع العلاقات الودية مع عدن التي قد وصلت إليها في تعاملاتها مع (هانوي، وكابول، وأولان باتور). علاوة على ذلك فالصين والاتحاد السوفيتي يهمهم تطور دولة راديكالية في جنوب شبه الجزيرة العربية، وكلاهما رحب ترحيبًا حارًا بانتصار الجبهة القومية في نوفمبر 1967م، ورحبا بالنشاط الراديكالي اللاحق في يونيو 1969م، وقدما مبالغ كبيرة نسبيًا من المساعدات الاقتصادية في سنوات العوز والشدة حتى عام 1975م عندما لم يكن لهذه البلد(الجنوب) أي مصادر أخرى للدعم تقريبًا، فقد نظرت بكين وموسكو إلى ج ي د ش على أنها دولة سعت إلى حد ما، إلى الانفصال عن نمط السياسات الدولية السائد الذي يهيمن عليه الغرب، ومن هنا كان لديهما بعض التقارب بخصوصها.

الخلاصة

أصبحت الدولة(الجنوب) في ورطة، فأصبحت معزولة، وفوق ذلك كلفت نفسها القيام بالتغييرات الجذرية في الدول الأخرى، فأصبح المطار شبه فارغ، والميناء مشلولًا، فنقصت متاجر التواهي وكريتر التي كانت تعتمد على السياحة والقاعدة البريطانية، ولم تعد هناك مباني قيد الإنشاء، والموجودة في حالة سيئة، ولم تعمل المصاعد إلا في عدد محدود منها، ولا يوجد استثمار أجنبي خاص، والمساعدة من الحكومات الأجنبية أو الوكالات متعددة الجوانب متدنية، والدخول إليها والخروج منها صعبًا، فحدث انقطاع دراماتيكي في العلاقات التجارية والسياسية مع العالم الخارجي، وأصبح منذ عام 1976م فصاعدًا ممنوع التحدث مع غير ابن البلد بدون موافقة رسمية. فعلى طول ميل من شارع المعلَّى تتدلى نحو الخارج لافتات مكاتب الفئات المحاربة المرحب بها بشكل رسمي في عدن: الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي المحتل، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين... وربما يجد الزائر في أي فندق نفسه أمام رجال يدعون أنهم حرروا عصابات كبيرة من إثيوبيا، أو من فئة سرية من السعودية، وضُمَّ أعضاء من الحركات والأحزاب الثورية بواسطة الوفود من البلدان الشيوعية ومنظمات التضامن المشترك، وأصبح نفوذ الأحزاب الشيوعية العربية في لبنان والعراق ومصر والسودان أكبر من راديكاليي أواخر الستينيات، وتوالت المؤتمرات حول سلسلة واسعة من المواضيع المتعلقة بتطور وسلام العالم الثالث وموضوع مقاومة الاستعمار، وفي ندوة أقيمت في عدن في فبراير 1984م حول تجربة ج ي د ش حضر فيها ممثلو 28 تنظيمًا متعاطفون مع النظام، كانت سبعة تنظيمات من الأحزاب الشيوعية الحاكمة أو المتصلة بها(الاتحاد السوفيتي، وهنغاريا، وألمانيا الشرقية، وتشيكوسلوفاكيا، وفيتنام، وكوبا، وإثيوبيا)، وأربعة عشر تنظيمًا من الأحزاب الشيوعية غير الحاكمة(السودان، والعراق، وسوريا، وفلسطين، والأردن، ولبنان، والسعودية، والبحرين، وإيطاليا، وفرنسا، والهند، واليونان، والمغرب، والجزائر)، وسبعة تنظيمات عربية منحدرة من أو مرتبطة مع فصائل سابقة من حركة القوميين العرب(الجبهة الشعبية لتحرير عُمان، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية في البحرين، والجبهة الوطنية الديمقراطية في الجمهورية العربية اليمنية/ حزب الوحدة الشعبية اليمني، وحزب العمل في السعودية، ومنظمة العمل الشيوعي اللبناني). وشعرت عدن نفسها أنها مؤسس الموقف الراديكالي الجديد في العلاقات الدولية، وكانت تدفع ثمنًا باهضًا لهذا التعهد، وهو التعهد الذي لم يشعر به قاطنوها كلهم أنه جدير بالاحترام.

وكان الحكام السابقون يسعون للعودة بعدة طرق، وكان الانشقاق يحصل داخل النظام الراديكالي، فكان المنتصر يصنف المهزوم بأنه يعمل لعدو خارجي، ولهذا سعى النظام إلى الإطاحة بأنظمة الدول المجاورة لإيجاد نظام مشابهة..

وقد أورد المؤلف في ثنايا الكتاب جداول بيانية تبيَّن بدرجة أساسية مساعدات والتزامات الاتحاد السوفيتي والصين لعدة دول في العالم الثالث خلال عدة سنوات وتوريدات الأسلحة إليها، مصادرها وكالات ومؤسسات دولية، تعطي الثقة بمصداقيتها.

وجاء في نهاية الكتاب ثمانية ملاحق، هي: نص اتفاقية الوحدة 28 أكتوبر 1982م، ونص البيان المشترك بين هذه البلد(الجنوب) والسعودية حول العلاقات الدبلوماسية 10 مارس 1976م، ومقابلته مع وزير الخارجية(مطيع) في نوفمبر 1977م، ومعاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفيتي في نوفمبر 1979م، والاتفاقية مع عُمان حول تطبيع العلاقات "اتفاقية الكويت للمبادئ" 15 نوفمبر 1982م، ومقابلته مع الرئيس علي ناصر محمد في مارس 1983م، ومقتطفات من تقرير الأمين العام للحزب الاشتراكي(علي البيض) في المؤتمر العام يونيو 1987م حول علاقات الحزب الخارجية، والدين العام الخارجي المتأخر اعتبارًا من 31 ديسمبر 1982م، ويلي هذه الملاحق قائمة بالمراجع العربية والإنجليزية التي اعتمد عليها المؤلف في كتابة هذا التاريخ، يليها تعريف بالمؤلف المولود في دبلن بإيرلندا عام 1946م والمتوفى في برشلونة بتاريخ 26 أبريل 2010م، وتعريف بالمترجمين: أ. د عدنان سعيد ثابت المولود في 1972م في يافع بمحافظة أبين أستاذ اللغة الإنجليزية بكلية يافع الجامعية بجامعة لحج. والأستاذ نصر محمد أحمد شيخ المولود في 1986م في لودر بمحافظة أبين، مدرس اللغة الإنجليزية في كلية التربية لودر بجامعة أبين. وقام بمراجعة الترجمة د. وهيب سالم السعدي، أستاذ الأدب العربي بكلية يافع الجامعية بجامعة لحج.

وفي الأخير نؤكد، ما سق الإشارة إليه، أن هذا الكتاب يُعد سفرًا من أسفار التاريخ المعاصر؛ لما يحويه من معلومات دقيقة ومؤكدة وموثقة، فربما لا نجد كتابا يماثله أو يقترب منه في معالجة أحداث هذه الفترة من تاريخ هذا البلد(الجنوب)، فلاشك أن القارئ سيقف مندهشا أمام حجم المعلومات التي جمعها المؤلف، وكذا عدد المراجع التي استقى منها معلوماته ونوعها، فقد رجع المؤلف، على مدى ١٥ عاما من العمل وجمع مادة هذا الكتاب إلى عدد كبير من الكتب والمجلات والصحف العربية والأجنبية، واعتمد على محاضر وبيانات رسمية لعدد من الدول والهيئات والمنظمات الدولية، فضلا عن بيانات مؤتمرات الجبهة القومية والحزب الاشتراكي اليمني، وكذا بعض البيانات التي كانت تصدر عن اجتماعات القيادات الجنوبية مع نظرائهم من البلدان الأخرى، وما تناولته وكالات الأنباء الدولية حول عدد من قضايا هذا البلد(الجنوب)، فاتسمت معلوماته بالدقة والمصداقية، وتعرف المؤلف عن قرب على طبيعة هذا البلد وسياسته، من خلال زياراته إلى المنطقة في فترات مختلفة ومقابلاته التي أجراها مع عدد من الشخصيات الرسمية في ج. ي. د. ش. وفي غيرها، فنحن هنا أمام دارس جاد وباحث متمكن.