متغيرات استراتيجية على طاولة الإقليم..
مستقبل الحدود اليمنية العمانية بعد تأمين المهرة: صراع نفوذ أم شراكة أمنية؟
أُغلقت آخر الثغرات التي اعتمدت عليها شبكات التهريب الإيرانية. هذا التحول لم يغيّر خارطة السيطرة فحسب، بل أعاد رسم معادلة الصراع في اليمن.
المهرة تُغلق الباب الأخير أمام الحوثيين
ظلت محافظة المهرة اليمنية، المعروفة بـ"بوابة اليمن الشرقية"، ثغرة خطيرة لطالما تسربت منها الأسلحة إلى مليشيات الحوثي على مدى سنوات. وتعد المهرة ثاني أكبر محافظات اليمن مساحة وتمتلك موقعًا استراتيجيًا؛ إذ تحدها سلطنة عُمان شرقًا ولها ساحل طويل على بحر العرب، مما جعلها منفذًا مغريًا لشبكات التهريب الإيرانية برًا وبحرًا. حتى أن أهميتها في هذا السياق تكاد تقارب أهمية ميناء الحديدة على الساحل الغربي لليمن. وقد كشفت تقارير عدة عن استخدام حدود المهرة مع عُمان كمسار لتهريب الأسلحة والتقنيات العسكرية للحوثيين. فعلى سبيل المثال، أعلن السلطات اليمنية في 24 مارس 2025 عن ضبط 800 مروحة لطائرات مسيّرة صينية الصنع أثناء محاولة تهريبها للحوثيين عبر منفذ صرفيت الحدودي مع عُمان. ولم تكن هذه الحالة فردية؛ فقد وثّقت تحقيقات دولية سابقة وصول طائرات بدون طيار إيرانية الصنع عبر الأراضي العمانية عام 2017، وكذلك تهريب صواريخ باليستية (من نوع بركان-2H) عام 2018 بالطريق نفسه. هذه المعطيات رسخت سمعة المهرة كخاصرة رخوة أُستغلّت لمرور الأسلحة والخبراء وحتى الأموال إلى مناطق سيطرة الحوثيين، ما شكّل مصدر قلق بالغ للحكومة الشرعية والتحالف الإقليمي الداعم لها.
شهدت الأشهر الأخيرة تحولًا جذريًا في مشهد المهرة الأمني؛ إذ تغيّر شيء ما وأُغلقت تلك الثغرة الخطيرة التي شكلت شريان إمداد للحوثيين. جاءت الضربة الموجعة للمليشيات الحوثية نتيجة ترتيبات عسكرية وأمنية داخلية أشرفت عليها قيادات عليا في الدولة، تزامنت مع انتشار قوات درع الوطن (وهي قوات احتياطية شكلها مجلس القيادة الرئاسي) إلى جانب قوات جنوبية محلية تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، لتأمين منافذ محافظة المهرة. هذا الانتشار المنسّق خنق أهم خط تهريب للأسلحة إلى الحوثيين، الأمر الذي أكده الشيخ سالم عكوش، عضو الجمعية الوطنية للمجلس الانتقالي الجنوبي، بقوله إن "انتشار هذه القوات يسهم في تأمين محافظة المهرة التي ظلت ثغرة خطيرة وخط إمداد لمليشيات الحوثي". وقد تم التخطيط لهذه العملية بتنسيق من أعلى المستويات؛ حيث أوضح عكوش أن الترتيبات تمت بإشراف مباشر من مجلس القيادة الرئاسي وبدعم وإشراف قوات التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات. ويشير هذا التحرك أيضًا إلى كونه جزءًا من تنفيذ اتفاق الرياض 2019، الذي نص على نقل وحدات الجيش إلى جبهات القتال ضد الحوثيين وإحلال قوات أمنية محلية من أبناء المحافظات محلها.
جدير بالذكر أن العملية الأخيرة في المهرة جاءت تتويجًا لسلسلة إجراءات تصاعدت خلال عام 2025. ففي مطلع ديسمبر 2025، أطلقت القوات المسلحة الجنوبية (التابعة للمجلس الانتقالي) عملية عسكرية واسعة أُطلق عليها اسم "المستقبل الواعد" لتأمين محافظتي حضرموت والمهرة. وقد توّجت هذه العملية بدخول القوات الجنوبية فجر الخميس 4 ديسمبر مدينة الغيضة (مركز محافظة المهرة) وتأمين القصر الجمهوري وميناء نشطون ومعسكر اللواء 137 مشاة، مع انضمام اللواء 11 حرس حدود إلى صفوفها. كما سيطرت القوات ذاتها على معسكر العَبْر الاستراتيجي الواقع على الطريق الصحراوي بين حضرموت والمهرة والحدود السعودية، قبل أن تتقدم نحو منفذ الوديعة الحدودي. وبهذا أصبحت المهرة آخر محافظة جنوبية يتم تأمينها بالكامل ضمن هذه العملية، لتغلق فعليًا بوابة التهريب الشرقية دون مقاومة تذكر.
من السمات البارزة للتحركات الأخيرة في المهرة أنها جرت بشكل سلمي وسلس دون اندلاع مواجهات مسلحة. فقد تم انتقال السلطة الأمنية والعسكرية بسلاسة بفضل التنسيق المسبق وترتيبات التسليم والاستلام المنظمة. تشير التقارير إلى أن جزءًا كبيرًا من القوات الحكومية (اليمنية) التي كانت مرابطة في المهرة فضّلت عدم الاشتباك مع القوات القادمة، وتم الاتفاق مسبقًا على تسليم المواقع العسكرية بطريقة مرتبة حقنًا للدماء. ويؤكد أحد الضباط الجنوبيين المشاركين في العملية أن الرسالة وصلت لتلك القوات مفادها: "لن يتم استهداف أي جندي لا يرغب بالقتال". وقد أثمرت هذه السياسة الحكيمة في تفادي معركة كانت لتكون مكلفة، خاصة في محافظة اعتاد أبناؤها الاستقرار وتجنب الصراعات.
على الأرض، تولت قوات الشرطة العسكرية الجنوبية استلام المواقع ونقاط التفتيش التي كان يديرها سابقًا اللواء 137 ميكا (التابع للقوات الحكومية)، فيما بدأت قوات درع الوطن – وجميع أفرادها من أبناء المهرة – بالتمركز لتأمين الموانئ والمنافذ البرية ومطار الغيضة والمنشآت الحكومية داخل المحافظة. ووصلت أيضًا تعزيزات من قوات جنوبية إضافية لضمان دعم الأمن والاستقرار. وقد جاء انتشار هذه القوات الجديدة دون أي احتكاك يُذكر وبصورة سلمية تمامًا؛ إذ لم تُسجل حوادث مواجهة أثناء تسلمها المهام الأمنية، ما يعكس مدى تمسك أبناء المهرة بالأمن والسلم الاجتماعي ورغبتهم في إنهاء حالة الازدواج الأمني التي عاشتها محافظتهم لسنوات. وقد وصف مصدر محلّي في مدينة الغيضة المشهد قائلًا إن عملية الانتشار تمت "بهدوء كبير"، وإن القوات التي كانت تتولى إدارة المواقع سلمت مهامها طوعًا للقوات الجديدة التي سارعت إلى فرض نقاط التفتيش وتنظيم حركة الدخول والخروج في المنافذ المختلفة. كل ذلك يدل على وجود تنسيق رفيع المستوى بين القيادات العسكرية والأمنية قبل دخول القوات الجنوبية، ما ساهم في انتقال سلس للسيطرة دون فراغ أمني أو اضطراب. وأكد الشيخ سالم عكوش في حديث صحفي أن هذه التحركات جاءت نتيجة إشراف وتنسيق مشترك بين مجلس القيادة الرئاسي والتحالف، الأمر الذي ضمن سيرها بانضباط عالٍ ونجاح تام.
تعطي القوات المنتشرة في المهرة أولوية قصوى لتأمين كافة المنافذ الحدودية والشريط الساحلي الطويل للمحافظة. تمتد سواحل المهرة على نحو 560 كيلومترًا بمحاذاة بحر العرب، ما يجعلها الأطول بين محافظات الجمهورية اليمنية. كما تتصل حدودها الشمالية بصحراء الربع الخالي الشاسعة، وهي المنطقة التي استغلها الحوثيون في الأعوام الماضية كممر لتهريب السلاح وصولًا إلى محافظة الجوف الواقعة تحت سيطرتهم. من هنا، ركّزت الخطة الأمنية الجديدة على سد هذه الثغرات الجغرافية الواسعة من خلال انتشار واسع في الصحارى وتأمين الخطوط البرية والبحرية. وقد حصلت مصادر إعلامية محلية على صور تظهر وحدات من قوات "درع الوطن" وهي تنتشر على نطاق واسع في صحارى المهرة وحضرموت، مع تركيزها على حماية الطرق البرية والمعابر النائية التي طالما استغلها المهرّبون والعناصر المعادية. ويأتي انتشار هذه القوات كجزء من استراتيجية جديدة لتأمين الحدود الشرقية لليمن ومنع أي أنشطة عسكرية أو استخباراتية تخدم مليشيا الحوثيين في هذه المنطقة الحساسة.
لقد عانت المهرة في السابق من اختراقات أمنية نتيجة نشاط شبكات التهريب. ففي حادثة كشفت مستوى الخطر، تمكنت الأجهزة الأمنية منتصف عام 2025 من إحباط عملية تهريب حوثية خطيرة تضمنت محاولة تسلل قيادي حوثي بارز إلى خارج البلاد عبر المهرة. حيث ألقت السلطات القبض على الشيخ الحوثي محمد الزايدي أثناء محاولته التسلل عبر المحافظة بمساعدة عناصر مسلحة حوثية. وقد استشهد خلال العملية العميد عبد الله زايد – أحد القادة العسكريين المحليين – أثناء تصديه البطولي لمحاولة تهريب الزايدي. وكشفت التحقيقات اللاحقة أن إدخال الزايدي إلى سلطنة عُمان بواسطة جواز دبلوماسي حوثي مزوّر كان جزءًا من مخطط أوسع شمل تهريب أسلحة ومعدات عسكرية متطورة. وتم اكتشاف تلك المعدات بعد القبض على الزايدي بأسبوع، حيث عُثر عليها ضمن شحنة تتبع لإحدى شركات السفر والسياحة في منطقة رُمّاة، استُخدمت كغطاء للتهريب عبر منفذ شحن الحدودي الذي حاولت العناصر الحوثية وبعض المتعاونين معهم من القبائل استغلاله لنقل المعدات إلى مناطق سيطرة الحوثيين. مثل هذه الحوادث أكدت حاجة المهرة إلى رقابة صارمة وحضور أمني قوي لمنع تسرب الأسلحة والعناصر الخطرة عبر حدودها الشاسعة.
بفضل الانتشار الجديد، أصبحت الموانئ البحرية والمنافذ البرية في المهرة تحت حراسة مشددة. ففي ميناء نشطون، وهو أحد أهم المنافذ البحرية بالمحافظة، انتشرت وحدات جنوبية في محيطه دون أي اعتراض، بعد أن سلمت القوة السابقة مهامها طواعية. ويُعد ميناء نشطون تاريخيًا محورًا للجدل بسبب أنشطة التهريب التي شهدها وفق تقارير أمنية متعددة، لذا فإن تأمينه الآن يكتسب أهمية خاصة. وينطبق الأمر ذاته على المنافذ البرية كنقطة صرفيت وشحن الحدوديتين مع سلطنة عُمان؛ حيث باتت تلك المعابر تخضع لإجراءات تفتيش صارمة لمنع تمرير أي شحنات غير مشروعة. وتعمل القوات المنتشرة على إعادة تنظيم حركة الدخول والخروج في هذه المنافذ وتفتيش المركبات والبضائع بدقة، مستفيدة في ذلك من خبرتها المتراكمة في مكافحة التهريب خلال معارك سابقة. يُذكر أن كثيرًا من أفراد هذه القوات اكتسبوا خبرة ميدانية عبر مشاركتهم في معارك ضارية ضد مليشيات الحوثي والتنظيمات الإرهابية في محافظات الجنوب (كعدن ولحج وأبين وشبوة وحتى أجزاء من حضرموت)، مما أكسبهم قدرة عالية على التعامل مع بؤر الإرهاب ومنابع التهريب. ويرى المراقبون أن وجود هذه القوات اليوم في المهرة سيؤدي دورًا حاسمًا في تأمين شريطها الصحراوي وسواحلها من أي عمليات تهريب مستقبلية للحوثيين، الأمر الذي يحرم المليشيات من أحد أهم منافذ الدعم الخارجي.
لم يكن النجاح في المهرة وليد الصدفة، بل جاء ثمرة خطة أمنية وعسكرية مدروسة تم إعدادها مسبقًا لضمان فعالية الانتشار. يؤكد القادة الجنوبيون أن قواتهم تمتلك خطة محكمة لتأمين الشريط الساحلي والمنافذ البرية بما يسد أي ثغرة يمكن أن يتسلل منها الحوثيون. وقد جرى تنفيذ هذه الخطة بإشراف مباشر من التحالف العربي وفي إطار منظومة عسكرية وأمنية متكاملة، قائمة على أسس علمية تشمل خططًا مدروسة وقواعد بيانات واضحة وأهداف محددة. وتتحرك تلك القوات ضمن هذا الإطار بانضباط عالٍ، وهي عوامل - بحسب الشيخ عكوش - كانت سبب نجاحها وانتصاراتها في المهام التي أنجزتها.
ومن عوامل القوة في ترتيبات المهرة وجود تنسيق وثيق بين مختلف الوحدات العسكرية والأمنية على المستوى الوطني. ففي إطار تعزيز التكامل الأمني بين محافظتي حضرموت والمهرة المجاورتين، قام قائد المنطقة العسكرية الثانية (ومقرها حضرموت) اللواء طيار طالب بارجاش بزيارة ميدانية إلى المهرة في يوليو 2025. خلال هذه الزيارة التقى بارجاش بقائد محور الغيضة في المهرة اللواء محسن علي مرصع، حيث اطّلع على مستوى الجاهزية القتالية للقوات في المهرة واستعدادها للتصدي لأي محاولات تسلل حوثية. وشملت الجهود أيضًا تفكيك خلايا التهريب والتجسس التي قد تكون نائمة في المحافظة، لضمان عدم ترك أي مجال لاستمرار الأنشطة المعادية تحت ستار السرية. هذه الخطوات تؤكد أن خطة تأمين المهرة ليست انتشارًا عشوائيًا، بل جزء من استراتيجية أوسع تضمن التواصل والتنسيق بين قيادات المناطق العسكرية المختلفة لإحكام السيطرة على كافة المنافذ الشرقية لليمن.
من جانب آخر، حظيت تحركات المهرة بدعم سياسي واضح على مستوى مجلس القيادة الرئاسي. فإلى جانب دور رئيس المجلس الدكتور رشاد العليمي (الذي أصدر قرار تشكيل قوات درع الوطن عام 2023)، شاركت قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي - وهم جزء من مجلس القيادة - في وضع التصورات لضمان أن تتلاءم الإجراءات الأمنية مع اتفاقيات التسوية (كـاتفاق الرياض) ومع الحاجة الملحّة لوقف تهريب الأسلحة. وبالتوازي مع ذلك، واكب المجتمع الدولي هذه الخطوات بتأييد ضمني كونها تندرج ضمن الجهود الرامية إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب ومنع انتشار الأسلحة لأيدي المتمردين. إذ بات واضحًا أن ضبط الحدود الشرقية لليمن يشكل مصلحة مشتركة لليمنيين ودول الجوار والمجتمع الدولي الساعي لوقف الحرب في اليمن. وتبعًا لذلك، يمكن القول إن عملية تأمين المهرة حظيت بإجماع محلي وإقليمي نادر على أهميتها وضرورة إنجاحها، الأمر الذي ترجم فعليًا إلى دعم لوجستي ومعلوماتي قدمه التحالف العربي للقوات المنتشرة لضمان تحقيق أهدافها بالكامل.
يرى المجلس الانتقالي الجنوبي أن المهرة اليوم باتت قاب قوسين أو أدنى من أن تتحول إلى "درع حصين" للاستقرار الإقليمي، عبر قطع شرايين تهريب السلاح التي ظلّت تغذي حرب الحوثيين في اليمن. فقد أوضح القيادي الشيخ سالم عكوش أن لدى المجلس رؤية واضحة منذ تأسيسه تتمثل في أن تحكم كل محافظة نفسها بنفسها وبأيدي أبنائها، لضمان العدالة والمساواة في تقاسم السلطة والثروة وفي حالة المهرة، جرى تطبيق هذا المبدأ من خلال تمكين أبناء المحافظة (عبر قوات درع الوطن والقوات المحلية) من إدارة أمنهم وأرضهم، مما يعزز الشعور بالانتماء والمسؤولية تجاه استقرار المنطقة. هذه الرؤية المحلية للمجلس الانتقالي تتسق تمامًا مع استراتيجية التحالف العربي والمجتمع الدولي الساعية إلى الحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي. فمن خلال تحصين المهرة ومنع تدفق الأسلحة الإيرانية إلى الحوثيين، يتم تحييد خطر امتداد الصراع إلى خارطة أوسع، كما يتم حماية الممرات البحرية الدولية في بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر من تهديدات الحوثيينt.
إن استكمال بسط السيطرة الأمنية على المهرة أعاد رسم موازين القوى في المشهد اليمني. فبسط القوات الجنوبية نفوذها على المهرة بعد حضرموت يعني أن الجنوب أصبح فعليًا يسيطر على كامل جغرافيته الممتدة من مضيق باب المندب غربًا حتى الحدود العُمانية شرقًا. ويمثل ذلك تحولًا حاسمًا في معادلة الصراع بين المكونات الشمالية والجنوبية، إذ لم يعد في الجنوب أراضٍ خارج سيطرة القوات الموالية لمجلس القيادة الرئاسي والمجلس الانتقالي. وبحسب تعبير مصادر سياسية في عدن، فإن هذه العملية جعلت المجلس الانتقالي الجنوبي قوة لا يمكن تجاوزها في أي تسوية سياسية قادمة. فمن جهة، تعززت أوراقه التفاوضية كطرف يسيطر على رقعة واسعة وحيوية من البلاد، ومن جهة أخرى حُرم الحوثيون من بوابة هامة كانت تمدّهم بالسلاح والمال.
واقع الأمر أن تأمين موانئ المهرة ومنافذها البرية يعني قطع كافة خطوط التهريب والإمداد للأذرع الإيرانية (أي مليشيا الحوثي) من أسلحة وطائرات مسيّرة. وقد رأينا بالفعل تصعيد الحوثيين لهجماتهم البحرية في الفترة الماضية لابتزاز المجتمع الدولي، لكن حرمانهم من طرق الإمداد قد يضعف قدراتهم على الاستمرار في هذا النهج. ويذهب محللون إلى أن خنق شريان التهريب الشرقي سيجبر الحوثيين على الرضوخ لأي حلول سلام تُطرح على طاولة المفاوضات، ما لم يصرِّ اليمنيون والتحالف على المضي قدمًا نحو إنهاء وجود الميليشيات المدعومة إيرانيًا بشكل كامل. وبكل الأحوال، فإن تغيّر المعطيات على الأرض سيخلق واقعًا جديدًا في مسار المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة بين الحكومة الشرعية وجماعة الحوثي، بحيث يتم التفاوض مستقبلًا في ظل ميزان قوى مختلف عمّا كان عليه سابقًا.
على الصعيد المحلي في المهرة، رافق عملية الانتشار الأمني ترحيب حذر من قبل السكان. فقد عبّر كثير من النشطاء والأهالي عن ارتياحهم لوضع حد لحالة الفوضى الأمنية وإنهاء الازدواجية في السلطة التي عانت منها المحافظة. وشهدت وسائل التواصل الاجتماعي بيانات تأييد من شخصيات مهريّة رحبت بتسلم القوات المحلية زمام الأمور الأمنية، معتبرين ذلك خطوة في اتجاه استتباب الأمن وترسيخ حكم القانون. في المقابل، أبدت بعض الأطراف القبلية تخوفًا من تغيير التوازنات التقليدية في المهرة. فالمحافظة تتميز بتركيبتها القبلية والاجتماعية الخاصة، وظلت لعقود بعيدة نسبيًا عن مركزية الصراع اليمني. لذا يخشى البعض أن يؤثر التغيير العسكري الأخير على النسيج الاجتماعي أو يؤدي إلى استقطابات جديدة بين أبنائها. يقول أحد مشايخ قبائل المهرة "المهم أن تبقى المحافظة آمنة، وألا تتحول إلى ساحة صراع بين الأطراف اليمنية". ويضيف مؤكدًا أن "أبناء المهرة يريدون إدارة مستقرة تحترم مصالحهم" بعيدًا عن تجاذبات السياسة. هذا التصريح يعكس تطلعات معظم أهالي المهرة بأن يُترجم الانتشار العسكري إلى تحسين فعلي للأمن والتنمية في محافظتهم، دون أن تستجلب المهرة صراعًا هي في غنى عنه.
ولا يمكن إغفال حقيقة وجود تيار محلي كان معارضًا لدخول أي قوات من خارج المحافظة. فقد ظهرت خلال السنوات الماضية حركات احتجاجية في المهرة رفعت شعار رفض ما تعتبره "تدخلات أجنبية" في محافظتهم، وكانت اللجنة المنظمة للاعتصام السلمي أبرز من عبّر عن هذا الموقف. وقد تزعم هذه اللجنة الشيخ علي سالم الحريزي، وهو شخصية قبلية نافذة عُرف بمعارضته الشديدة للوجود السعودي والإماراتي في المهرة، ووُجهت إليه اتهامات بالتنسيق مع الحوثيين والاستقواء بدعم من سلطنة عُمان لتعزيز نفوذه. دعا الحريزي وأنصاره إلى مقاومة انتشار قوات درع الوطن ووصفوها بأنها قوات "سلفية مدعومة خارجيًا" تشكل خطرًا على المحافظة. هذا الموقف المعارض ولّد انقسامًا نسبيًا في الشارع المهري بداية عام 2025، لكنه تراجع لاحقًا مع بدء تنفيذ الترتيبات الجديدة. إذ انشقّ عن لجنة الحريزي عدد من الشخصيات والوجهاء المحليين، مثل الشيخ أحمد بلحاف الذي كان مسؤول العلاقات الخارجية في اللجنة، حيث أيّد انتشار قوات درع الوطن بل وبرر موقفه بان اللجنة الأصلية انحرفت عن مسارها و"سمحت بانتشار أجندة حوثية" داخلها. وشكل بلحاف تيارًا منشقًا أسماه "مسار التصحيح" مؤيدًا للتحركات الأمنية الأخيرة. هذه التطورات أضعفت جبهة الرافضين ومكّنت السلطات من المضي قدمًا في خطتها دون مواجهات داخلية كبيرة.
رغم نجاح الانتشار بسلاسة، تظل هناك تحديات تنتظر السلطات المحلية والقوات الجنوبية في مرحلة ما بعد التأمين. يتمثل التحدي الأول في إدارة الملف الأمني داخليًا في المهرة على المدى الطويل، خاصة أن المحافظة شهدت في العقد الأخير تغييرًا ديمغرافيًا ملحوظًا مع تدفق نازحين من مناطق أخرى، إضافة إلى استمرار تأثير العلاقات الخاصة التي تربط بعض القبائل المهريّة بالجارة عُمان. سيتعين على القوات المحلية كسب ثقة جميع المكونات القبلية وطمأنة الجوار الإقليمي بأن أمن المهرة يخدم استقرار الجميع ولا يهدد مصالح أحد. أما التحدي الثاني فهو تثبيت الأمن بصورة مستدامة في محيط المنافذ البحرية والبرية، التي ظلت لعقود نقاط عبور لأنشطة غير قانونية. إن القضاء على شبكات التهريب يستوجب يقظة دائمة وتعاونًا وثيقًا بين الأمن والسكان المحليين للإبلاغ عن أية تحركات مريبة في المناطق النائية. بالإضافة إلى ذلك، يبرز تحدي إعادة تنشيط الحياة الاقتصادية في المحافظات الشرقية ككل؛ فمثلًا ما يزال ميناء الضبة النفطي في حضرموت متوقفًا عن العمل منذ تعرضه لهجوم حوثي بطائرة مسيرة أواخر 2022. وبالتالي فإن ضمان أمن المهرة وحضرموت سيساعد على تنفيذ خطط اقتصادية وتنموية (مثل إعادة تشغيل صادرات النفط عبر الضبة) ضمن منظور أمني جديد يحظى بقبول إقليمي ودولي. وهذا بدوره سيعود بالفائدة على أبناء المهرة وبقية أبناء الجنوب عبر تحسين الظروف المعيشية وتعزيز الاستقرار الذي تنشده جميع الأطراف.
مثّل إغلاق بوابة اليمن الشرقية في المهرة إنجازًا استراتيجيًا للحكومة اليمنية والتحالف الداعم لها، كونه سدّد ضربة موجعة لمليشيات الحوثي عبر حرمانها من أهم طرق إمدادها بالسلاح. إن تأمين المهرة لم يكن مجرد حدث عابر، بل خطوة محورية في سياق إعادة تشكيل خارطة النفوذ في اليمن وترتيب معادلة أمنية جديدة في المحافظات الشرقية. فإحكام القبضة على المهرة وحضرموت من قبل القوات المحلية الجنوبية، وبدعم من التحالف، سيترك تأثيرات عميقة على مسار الحرب والسلام في اليمن. فمن جانب، تضاعفت قوة موقف المجلس الانتقالي الجنوبي سياسيًا وعسكريًا، بعدما صار الجنوب كله تحت سيطرته الأمنية. ومن جانب آخر، تراجعت قدرة الحوثيين على المناورة ميدانيًا مع تقلص مصادر تسلحهم وتهريبهم. وبينما يراقب المجتمع الدولي هذه التطورات بحذر، تتجه الأنظار إلى مائدة المفاوضات، حيث سيأتي الطرفان – الحكومة والحوثيون – بمعطيات مختلفة عما قبل. وفي المحصلة، يبقى أمل اليمنيين معقودًا على أن يُسهم هذا التحول في تقريب نهاية الحرب وإحلال السلام، عبر فرض واقع يقطع شرايين العنف ويعزز سلطة الدولة والقانون في كل شبر من أرض اليمن.


