فتاوى ضعيفة تشدد على رفض عودة الأصوات النسائية للترتيل..

قارئات القرآن أمام معركة إحياء الماضي

دور مقتصر على تعليم الأطفال

وكالات

 يرتبط الوجدان بمجالس تلاوة القرآن الكريم، سواء في المآتم أو المناسبات الدينية، ولعل أشهر كلمات المديح لحلاوة القراءات خرجت من حناجر رجالية ونسائية  على حد السواء لتعبر عن العذوبة والإعجاب، وهو ما رصدته تسجيلات قرآنية، امتزج فيها صوت المقرئ مع صوت الحاضرين ممن هاموا في رحاب الآيات، ووجهوا إلى الشيخ(ة) عبارات الاستحسان منها (أحسنت) أو (أعد)، لكن هل تكون المرأة بطلة اليوم لهذا المشهد الذي اقتصر على الرجل وغيابهن تماما؟
ولطالما كان هذا السؤال محل جدل في قضية شائكة وزادت مؤخرا هذه الحالة الجدلية بسبب ما دعا إليه رئيس شبكة القرآن الكريم بالإذاعة المصرية حسن سليمان، بشأن ضرورة منح السيدات فرصة ليصدحن بأصواتهن، ونكأت دعوته جرحا قديما، منذ إطلاق فتوى تقر بأن صوت المرأة عورة. 


وأصر سليمان على المطالبة بعودة الأصوات النسائية لتلاوة القرآن بالإذاعة، كما كان يحدث في أوائل القرن الماضي.

 

عانت المرأة كثيرا من الفكر المتشدد وعاشت ضحية محظورات ومحرمات أقرها أصحاب العقول المنغلقة، وكان تحريم صوت المرأة أحد تلك المحظورات التي منعت أصواتا نسائية من أن تصدح في سماء تلاوة القرآن الكريم، رغم شهادة التاريخ بأنها كانت ركنا أساسيا في دولة التلاوة

المطالبة بالعودة إلى الماضي

ويرجع عدم انتشار قارئات القرآن في بعض الدول العربية إلى تقاليد الأسرة، فمن بداية القرن الماضي في مصر مثلا، كانت تقاليد المآتم تقتضي إقامة ثلاثة أيّام للرجال ومثلها للنساء، وكان لا بد من تواجد مقرئات لإحياء ليالي المآتم لدى السيّدات، وانحدرت المقرئات من مهن النياحة أو “المعدّدات” كما كان يطلق عليهن.


وكانت قبل سنوات طويلة المطالبة بتحرير المرأة مسألة أساسية، وهو ما ظهر معها بالتوازي منح فرصة للسيدات لتلاوة القرآن بأصواتهن وصعدت أسماء وتعالت شهرتهن ونافسن الرجال في قوة وحلاوة الصوت، والنماذج كثيرة في مصر، مثل نبوية النحاس وكريمة العدلية ومنيرة عبد، وأم محمد التي ذاع صيتها في أواخر القرن الثامن عشر، وبنيت لها مقبرة خاصة لارتفاع مكانتها وعلو شأنها، وكان يتخذها العامة رمزا للمرأة القوية.


ومن المفارقات أنهن كن ضريرات، وهبتهن أسرهن لتعلم أصول القراءات والتعليم الأزهري، وهي عادة انتشرت آنذاك، ما خلق رباطا قويا بين غير المبصرين وغير المبصرات وقراءة القرآن.


كما اعتمدت إذاعات أوروبية (باريس ولندن) بث القرآن بأصوات مقرئات، ويحوي أرشيف الإذاعة المصرية شرائط سجل عليها القرآن الكريم كاملا بأصوات نسائية بديعة، لذلك في الوقت الذي تأمل فيه الشعوب المزيد من التحضر والسير في طريق التقدم والمضي نحو المستقبل، تتمنى المقرئات المصريات العودة إلى الماضي.


وحدث ذلك في فترة زمنيّة كانت المرأة في حد ذاتها عورة وليس صوتها فقط، ووقتها صدر كتاب “تحرير المرأة” لصاحبه قاسم أمين، الذي كان يتحدث في فصوله عن حق المرأة في كسر حجاب البيت، وليس خلع خمار الرأس، كما طالب بحقها في أن تذهب إلى التعليم والعمل، لكن أمين نفسه لم يجرؤ على تمني أكثر من ذلك.


وبرر طلبه بأن المرأة يجب أن تحصل على العلم الذي يكفل لها الأمان إن مات زوجها، حتى تتمكن من الخروج إلى سوق العمل وتسير البيت في غياب الرجل، وليس كما يظن البعض أن أمين طالب بأن تخلع عنها خمارها، الكاتب نفسه له كتاب يدافع فيه عن الشعائر الإسلاميّة كان يرد فيه على مستشرق فرنسي هاجم خمار المرأة وبعض شعائر الإسلام.

تحجيم الأصوات النسائية

المؤسف أن الدعوات المتشددة التي عرفت في ثمانينات القرن الماضي مع تعدد الجماعات المتشددة، تجذب عالمنا العربي إلى الخلف وتدعو لتحجيم دور المرأة العربية في كافة المجالات، بدعوى الحلال والحرام.


وأوشكت دولة التلاوة والإنشاد الديني على غلق أبوابها تماما في وجه النساء، خاصة مع تحريم ظهورهن الإعلامي في القنوات الفضائية، ورفض الإذاعة المصرية تسجيل المرأة المقرئة بسبب فتاوى عفا عليها الزمن، ويحدث ذلك على الرغم من اعتماد نقابة القراء النساء كقارئات للقرآن، استنادا على حفظ كتاب الله والإلمام الجيد بأحكام التجويد والترتيل، واقتصر تواجدهن على مجالس نسائية في المآتم.


لذا كشفت دعوة رئيس شبكة القرآن الكريم عن آراء متباينة، فالمؤيدون أكدوا أنها تفسح المجال أمام مواهب جديدة في عالم التلاوة، فضلا عن أنها فرصة لتقديم صورة حقيقية عن وسطية الإسلام، بتقديم أصوات نسائية كما كان معمولا في الماضي عبر الإذاعات الأهلية وقبل حتى إنشاء هيئة الإذاعة المصرية، أما المعارضون فلا يزالون على تعنتهم القديم متسلحين بدعوة هشة فقدت مصداقيتها.


وإذا كان دعاة التشدد يعتقدون بأنهم على حق، فإن نقيب القراء في مصر الراحل الشيخ أبوالعينين شعيشع، قال إنه لن يهدأ له بال حتى تعاد المرأة كقارئة للقرآن الكريم بالإذاعة، عودة إلى العصر الذهبي للأصوات النسائية التي تجيد تلاوة القرآن، مثلما كان موجودا قبل أكثر من 50 عاما.
ويحسب للشيخ شعيشع اعتماد ثلاثين قارئة في عهده، بعد الإعلان عن مسابقة لقبول قارئات جديدات، وقتها تقدمت كثيرات للاختبارات من مختلف المناطق والمؤهلات الدراسية، حتى أن كثيرات منهن لسن أزهريات ونجحن بتفوق.
وحاليا فإن علاقة المرأة بقراءة القرآن أعادت للذاكرة مشهد حلقات تحفيظ القرآن (الكتاتيب)، التي انتشرت في القرى المصرية، وفيه تجلس امرأة على مقعد خشبي، بينما يجلس أمامها بعض الأطفال متراصين أرضا في شكل دائري، يرددون خلف (الشيخة) التي تتلو عليهم آيات من القرآن الكريم بصوت عذب، ويؤدي الأطفال حركة لا إرادية بأرجحة الجزء العلوي من أجسادهم، تماما كما يفعل كبار المقرئين، في حين توجههم هي إلى التجويد الصحيح، مستخدمة إحدى ذراعيها كمايسترو في فرقة موسيقية.
وتشعر محفّظة القرآن بمرارة بسبب تضييق الخناق على المقرئات، وقالت حنان فتحي الدجوي لـ”العرب” إن من ينادون بأن صوت المرأة عورة ضيعوا العديد من الأصوات النسائية الرصينة.

 ولفتت محفّظة القرآن المصرية إلى اقتصار دورهن على تحفيظ القرآن للأطفال في المساجد بأجر زهيد.
وأضافت أنها على الرغم من إتمامها حفظ كتاب الله ودراسة أحكام التجويد بشكل جيد، فإنها لا تستطيع مثل الكثيرات من بنات جنسها التقدم لاختبارات إذاعة القرآن، بسبب رفضها وتشديدها على عدم اعتماد المرأة كمقرئة.


وكشفت فتحي التناقض في التعامل مع أصوات النساء، موضحة بأن هناك كمّا هائلا من برامج اكتشاف المواهب الغنائية، واعتماد الإذاعات والقنوات الفضائية للأصوات النسائية في الغناء، من دون النظر لوجود أصوات تصدح في سماء التلاوة تحتاج إلى اعتماد رسمي.


وأظهر الكاتب المصري الراحل محمود السعدني في كتابه “ألحان السماء” تفاصيل دقيقة في مملكة التلاوة القرآنية في مصر، وما عانته النساء من إقصاء وتضييق وأنه بموت نبوية النحاس في عام 1973، انتهى عصر المقرئات وانطوت صفحة رائعة من كتاب فن التلاوة والإنشاد الديني في العصر الحديث.


وكانت النحاس آخر سيدة مصرية ترتل القرآن في الاحتفالات العامة، ويحرص أثرياء عصرها على دعوتها لإحياء المناسبات الدينية وحفلات العرس، بل إن أجرها فاق أجر الشيخ محمد رفعت أحد أشهر أصوات ذلك العصر.
ولفت السعدني في أحد فصول كتابه الشهير إلى أن السيدة نبوية هي واحدة من ثلاث سيدات اشتهرن بتلاوة القرآن الكريم ومعها السيدة كريمة العدلية والسيدة منيرة عبده.


لكن لا تزال هناك نساء يجدن المديح في الموالد والاحتفالات الدينية والأفراح في أقاليم مصر، ويجدن اهتماما لافتا من قبل قطاع كبير من الجمهور، ويحوي المديح في حضرة الرسول محمد وآل البيت عددا من آيات القرآن الكريم.
وانتقدت المقرئة نادية فوزي الاتجاه المتشدد لتكميم أفواه النساء في التلاوة في وقت تسعى فيه الكثير من الدول العربية إلى تمكينها.
 وقالت فوزي إن ما يحدث يعتبر ردة فكرية لا ترتكز على مبررات منطقية، وانتقدت موقف تعرضت له مع أحد الشيوخ.
وأكدت أن إحدى السيدات اللائي كن يحفظن معها القرآن، طلبت منها تعليم ابنها البالغ من العمر 16 عاما، وهو ما رفضه إمام المسجد الذي تعمل به، بحجة أن اجتماعها بهذا الفتى المراهق محرم، وحين أقنعته بأن الدرس سيكون في حضور أمه، رد عليها بحجة أخرى وهي أن صوتها عورة.

وعلى العكس تماما من هذا الرأي، استحسن نقيب قراء القرآن في مصر الشيخ محمد محمود الطبلاوي دعوات عودة الأصوات النسائية مجددا.
وأكد الطبلاوي أن الأصل في الأشياء هو الإباحة، وما كان حلاله حلالا فإن حرامه حرام، بمعنى أن المرأة التي تتحدث بترقيق متعمد لصوتها، يعد صوتها بالأساس خضوعا بالقول ولا يجوز لها ترتيل القرآن بهذه الطريقة، في حين أن المرأة الرصينة الملمة بقواعد التجويد وأحكام الترتيل، لا غبار على قراءتها، وأنهى الجدل الدائر قائلا إن صوت المرأة ليس بعورة، لقوله تعالى في سورة الأحزاب “وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب”.

كثرة المقلدين

طالب الطبلاوي بثورة حقيقية في اكتشاف مواهب جديدة، خاصة تلك التي تذخر بها القرى والأرياف، كي يعود العصر الذهبي لمدرسة التلاوة المصرية، لا سيما وأن نقابة المقرئين تقبل في عضويتها الأصوات النسائية ممن تنطبق عليهن الشروط، بموافقة كافة الجهات المعنية مثل الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء المصرية.


وحذر نقيب قراء القرآن في مصر من أن الأصوات الجيدة بدأت تتلاشى وكثر المقلدون، واستشهد بكلمة قالها له الكاتب الراحل السعدني وهي (أنت آخر حبة في السبحة القديمة يا مولانا)، في إشارة إلى تراجع المواهب في قراءة القرآن.
ولوثت الدعوات المتشددة أفكار بعض الطلاب في مقاعد الدراسة، وفقا لمدرّسة اللغة العربية منار حلمي.

وقالت حلمي إنها تعرضت لموقف في إحدى حصصها تمثل في أنها عندما كانت تقوم بتسميع القرآن لطلبتها رفضت إحدى الطالبات ترتيل القرآن بحجة أن صوت المرأة عورة، مشيرة إلى أن الفتاة ذهبت إلى أبعد من ذلك، إذ أنها حذرت أيضا زميلاتها من عقاب الله بدخول جهنم إذا ما قمن بالترتيل.


ورفض أحد علماء الأزهر، فضل عدم ذكر اسمه، ترتيل النساء للقرآن في الإذاعة أو المجالس المختلطة، خصوصا وأن بعضهن يبالغن في التطريب دون خشوع وتدبر، وهو ما يخرج المستمع عن الهدف الرئيسي بالتفكر في المعنى. وهو الرأي الذي لاقى استنكار أستاذة علم الفلسفة والعقيدة بجامعة الأزهر الدكتورة آمنة نصير.


وترى نصير أن النساء تقلدن كافة المناصب السياسية والقيادية وحتى الدعوية، لذا لا بد من محاربة الفكر السلفي المانع لتلاوتهن للقرآن، لا سيما وأن دولة التلاوة قامت في السابق على أكتاف نساء متميزات في القراءة والتجويد، ووصفت عضو مجلس النواب المصري أصحاب هذا الفكر بالسطحية.


وأضافت أستاذة علم الفلسفة والعقيدة بجامعة الأزهر أن عدم الإلمام بالأمور يجعلهم يطلقون أحكاما جائرة في حق النساء، وهي نطاعة فكرية تحول دون التقدم في كافة المجالات، فليس من المعقول أن نناقش في الألفية الثالثة ما كان واقعا في المجتمع قبل مئة عام.


وتعجب البعض ممن يرفضون عمل المرأة كقارئة، معتبرين هذا النهج ردة فكرية، فقد كانت هناك قارئات شهيرات يقرأن القرآن بالإذاعة، وبين العامة والحكام على وجه السواء، في وقت كان محرّما على المرأة التعليم والعمل، بل إن الشيخة أم محمد كانت أشهر القارئات في عهد محمد علي (حاكم مصر في الثمانينات)، وكانت مقربة منه وتقرأ في المناسبات، مثل إحياء ليالي رمضان، وغيرها من المقرئات اللواتي ظهرن في الإذاعة المصرية، إلا أنه تم منعهن بسبب الفتاوى المتشددة التي أدت إلى ذعر المسؤولين عن الإذاعة فتوقفوا عن إذاعتها، لذلك تظل كلمة التقاليد والعادات التي يتشدق بها البعض تقود إلى تفرقة متعنتة بين الرجل والمرأة، ومعها تبقى المقرئات المصريات حبيسات في دولة التلاوة.