الواقع العراقي..

العراق.. الطفل حسن يختصر الحكاية

الواقع العراقي المرّ يتمثل في ضياع الطفولة وتشّرد الشباب وتمزق العائلة بحثا عن لقمة العيش

ماجد السامرائي

في مقطع الفيديو الذي انتشر تداوله أخيرا يظهر الطفل العراقي حسن، ذو الثماني سنوات، إلى جانب شقيقته ذات السبع سنوات، وسط تل كبير من القمامة في إحدى ضواحي بغداد، باحثاً عن قناني معدنية فارعة ليجمعها ويبيعها مقابل مبلغ لا يتعدى الأربع دولارات في عمل مضن من الصباح إلى الليل.

 يسأل المراسل التلفزيوني هذا الطفل: ماذا تفعل بالمبلغ الذي تجنيه لليوم الواحد، فيجيبه: أشتري الحليب لأخي الرضيع لأن أبي غير قادر على العمل وهو معوّق. ثم ينفجر الطفل حسن وشقيقته بالبكاء، فيسأله المراسل: لماذا تبكي؟ فيجيب “تعبان خالي دتشوف عيشتنا”، وتتابع شقيقته وهي تكفكف دموعها: أنا أتألم على تعب شقيقي.

هذا المقطع المؤلم يهز كل صاحب ضمير إنساني حين يشاهده، ما عدا المسؤولين وقادة الأحزاب فاقدي الضمير، ويلخص أصل الحكاية في العراق الحالي، في الاعتداء الصارخ على حقوق الإنسان والذي تغيب عنه هيئات الأمم المتحدة العاملة في العراق والمنشغلة بمصالح موظفيها، وما يهم ممثل الأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش حركاته المظهرية سواء في لقاءاته بالمرجع الشيعي علي السيستاني أو بقادة الحكم وكتابة التقارير المبيّضة لوجه الحكومة وأحزابها التي انكشفت أمام الشعب الثائر.

في حين يتمثل الواقع العراقي المرّ في ضياع الطفولة وتشّرد الشباب وتمزق العائلة بحثا عن لقمة العيش، في وقت تتناقل فيه مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع لأفلام حول عربدة ولهو ولعب بالأموال من قبل أبناء مسؤولين عراقيين كبار ورجال دين يفترض فيهم الزهد والورع.

ويتبجح أحد زعماء الأحزاب الدينية إنه يمتلك سجادات للصلاة بقيمة خمسة ملايين دولار من المؤكد أنها إيرانية الصنع، فكيف نتوقع أن تهز مشاعرهم أو تعجبهم مشاهد الطفولة والأمومة المعذبة، وهم أنفسهم سراق ثروات البلد ونفطه، وهم المسؤولون عن غلق المصانع وانهيار الزراعة وشح المياه وانقطاع الكهرباء.

مثال الطفل حسن هو الذي أدى إلى انفجار الشباب وتدفقهم إلى الشوارع في انتفاضة هزّت أركان النظام السياسي القائم، وأعلنت عدم مشروعية استمراره، وهو الاستفتاء الأكبر الذي تجاوز الانتخابات التي وقعت في غيبوبة التزوير.

أحد الشباب المنتفض وهو شاب غير “مندس” وقف أمام شاشة التلفزيون متحدثاً بصراحة وقوة بأن سبب كل الأزمات هو هذه الأحزاب الدينية ومن خلفها إيران، قائلاً “أنا خرجت وأعرف أنني يمكن أن أموت برصاصة رجل أمن أو غيره من خصوم الشعب وهذا لا يهمني لأنني لن أخسر شيئاً”.

الأحزاب والحكومة تتهم هؤلاء الشباب بأنهم أبناء البعثيين، فلو افترضنا أن عدد البعثيين كان مليوناً في عهد نظام صدام حسين، فهذا يعني أن عدد البعثيين حالياً لا يقل عن أربعة ملايين، فأي خدمة مجانية يقدمها حزب الدعوة للبعثيين؟

إنه التعبير عن الفشل والعزلة عن الشعب، ولهذا لجأ أحد قادة هذه الأحزاب إلى الاعتراف بالأخطاء والخطايا وطلب السماح من الشعب على ما ارتكبوه بحق أبناء الشعب، والمطالبة بتغيير قواعد العملية السياسية، وهذا أمر إيجابي وفيه شجاعة، لكن الاعتراف بالفشل في الأنظمة الديمقراطية يعني التنحي عن المسؤولية.

استخدمت القوات الأمنية الرسمية والحزبية أساليب وأدوات قاسية جدا ترتبط عادة بالأجهزة القمعية والدكتاتورية، هؤلاء الشباب الذين خرجوا هذه الأيام غير مقتنعين بالحلول الترقيعية ووعود رئيس الحكومة وتنظيمه للقاءات العلاقات العامة مع الوجوه العشائرية وغالبهم ممن يقبضون ثمن دعمهم للحكومة، بل إنه وزع عليهم الدرجات الوظيفية لأنه في الساعة الأخيرة من حكمه، وهو غير قادر على إقناع الشعب بأسباب تردي خدمات الكهرباء مثلا ومن المسؤول عن ذلك، ومن هي قوى المصالح من الأحزاب والجماعات المنتفعة من قطع الكهرباء، وكان بإمكانه حل هذه المشكلة خلال الأربع سنوات الأولى من حكمه، أما التعلل بالحرب على تنظيم داعش فهذا لا يقنع أحدا.

في المثال المصري نرى كيف تمكن رئيس البلد من الوصول إلى اكتفاء ذاتي لشعب مصر من الكهرباء بعد أربع سنوات، حيث تم بناء ثلاث محطات كبرى تغذي الكهرباء لاثنين وأربعين مليون مواطن مصري وبكلفة 4 مليارات يورو، وهي ذات الكلفة التي قدمها العراق لإيران لتزويده بنسبة 5 بالمئة من حاجة أهل البصرة من الكهرباء، ثم قطعتها عنهم في مخالفة للاتفاقية المبرمة. ومجموع ما تم تخصيصه لقطاع الكهرباء في العراق 54 مليار دولار ذهبت إلى جيوب السراق.

وأخيراً تحرك العرب لإسعاف إخوتهم بعد قطع إيران للطاقة، حيث تقوم الكويت بتزويد العراق بمادة الكازويل لتشغيل محطات الكهرباء، حيث نشرت صحيفة الأنباء الكويتية تقريراً تحت عنوان “الكويت تنير ظلام العراق”، مع أنه كان بإمكان وزارة النفط العراقية بناء مصانع لهذه المادة بسهولة.

توجيه المسؤولية إلى رئيس الوزراء الحالي لا تعني تبرئة السابقين، بل لأنه رفع شعارات أكبر من قدراته وهي الحرب على الفاسدين وجميع ملفاتهم في درج مكتبه، ولم يقدم مسؤولا إلى القضاء لأنه لا يستطيع الإيقاع بأي حزب شريك مع حزبه في السلطة. الشعب حين يجوع ينتفض ويثور، بل تتعاظم ثورته حين يرى المسؤولين وقادة الأحزاب تصل مدخولاتهم الملايين والمليارات، فهل ينتظرون من الشعب أن يقبّلَ أياديهم ويتبارك بعباءاتهم وعمائمهم.

ليس من السهولة تسوية الخصومة بين المتظاهرين المحتجين والأحزاب الحاكمة، ببساطة هي ليست تظاهرات “مندسين” أو أولاد “بعثيين”، بل هي انتفاضة شعبية من الشباب المحبط ولن تتوقف حتى وإن خمدت بعد قمع المحتجين بالرصاص الحي أو خراطيم المياه الساخنة أو القنابل المسيلة للدموع منتهية الصلاحية لتؤدي إلى أضرار صحية أكبر، حيث تم خلال عشرة أيام قتل أربعة عشر شاباً وجرح المئات واعتقال المئات.

قد يتم إخماد جذوة الاحتجاجات الملتهبة الآن، طالما هناك تواطأ بين الأحزاب والحكومة على إيقاف حركة التظاهر وهناك قوى نفوذ وأموال تدفع لمنع خروج المواطنين للمظاهرات، لكن محركات الإحباط قائمة، ولن تحل الأزمة عملية الإسراع بتشكيل حكومة من ذات الأحزاب، فلن تكون حكومة قوية كما أنها ستعيد إنتاج المنهج السياسي الذي ثبت فشله.

ولهذا فإن الحلول السياسية قبل الخدمية هي الحل، واعتراف تلك الأحزاب بفشلها وفسادها هو المقدمة لفتح الطريق أمام حلول وطنية يضعها الخيّرون والحكماء في هذا البلد من غير الأحزاب الدينية، من بينها قد يتمكنون من تشكيل هيئة عراقية وطنية عليا للإنقاذ مدعومة من منظمة الأمم المتحدة مشروعيتها المؤقتة من مشروعية التظاهرات المطالبة بالتغيير، تدعو إلى انتخابات مبكرة وتعمل على تشكيل هيئة عليا مستقلة لتعديل الدستور، ووضع أسس جديدة للنظام السياسي بعيدة عن تحكم الأحزاب الدينية. الطفل العراقي حسن اختصر الحكاية بقوله؛ “نحن تعبانين”.