تحديات..

انتشار الأوبئة المميتة في العالم يكشف تراخ في الجهود الدولية

بدأت منظمة الصحة العالمية أوائل أكتوبر الجاري حملة لتطعيم

لندن

 يبدو العالم اليوم أكثر استعدادا لمواجهة وباء من نوع الإيبولا أو زيكا أو حتى الأنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياة 50 مليون شخص سنة 1918، غير أن عجزه عن القضاء بصفة نهائية على هذه الأوبئة المميتة يضع المجتمع الدولي أمام تحديات تبعث الخوف والقلق.

واجتمعت لجنة الطوارئ التابعة لمنظمة الصحة العالمية الأربعاء، لاتخاذ قرار بشأن ما إذا كان تفشي وباء الإيبولا في جمهورية الكونغو الديمقراطية يمثل حالة طوارئ عامة تدعو للقلق الدولي. وقدمت اللجنة المؤلفة من خبراء مستقلين توصيات لمواجهة هذا التفشي الذي أُعلن عنه في أول أغسطس الماضي، لكنه تفاقم في الأسابيع القليلة الماضية مع وجود خطر انتقال الوباء من شمال شرق الكونغو إلى أوغندا ورواندا.

وبدأت منظمة الصحة العالمية أوائل أكتوبر الجاري حملة لتطعيم 1.4 مليون شخص في زيمبابوي وسط تفشي وباء الكوليرا الذي أودى بحياة 49 شخصا. ووفقا للمنظمة، أصيب ما يقرب من 140 شخصا بالمرض الذي ينتقل في الغالب عن طريق المياه الملوثة.

وانتشر وباء الكوليرا أيضا في نيجيريا تحديدا في منطقة مرادي (وسط) كما أثر على منطقة تاهوا (شمال) وزندر (شرق) ودوسو (جنوب غرب). وكانت وكالة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) ومنظمة الصحة العالمية قدرتا أن 37 في المئة فقط من سكان منطقة مرادي يحصلون على مياه الشرب النقية وأن 10 في المئة فقط تتوفر لهم خدمات الصرف الصحي الأساسية.

وثمة مخاوف من إمكانية انتشار الفيروس في البلاد بشكل أكبر بسبب الأمطار الموسمية. كما أظهرت أحدث بيانات من منظمة الصحة العالمية أن تفشي مرض الكوليرا في اليمن بدأ يتسارع مرة أخرى حيث يتم حاليا الإبلاغ عن عشرة آلاف حالة اشتباه للإصابة بالمرض أسبوعيا.

ورغم انخفاض عدد الإصابات بفيروس الإيدز غير أن الوباء يشتد وطأة في بعض البلدان وبعض المناطق.  ويكشف انتشار الأوبئة المميتة في العالم عن وجود تراخ في الجهود الدولية لمواجهة هذه المخاطر التي لا تقل خطرا عن التهديدات الإرهابية أو الكوارث الطبيعية المحتملة.

وقد أقرت ليزا موناكو مستشارة سابقة للأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب لدى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في تقرير على مجلة فورين بوليسي الأميركية، أن مواجهة الولايات المتحدة لتفشي الأمراض قد تراجعت في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب، بسبب توجهاته الانعزالية المحافظة.

وتقول موناكو إن انتشار أحد الأوبئة المميتة كان من بين أهم الموضوعات التي ناقشها المسؤولون السابقون لإدارة أوباما والمفوضون في الحكومة الأميركية بشكل يومي، وقد ركزت على جهود التنسيق بين وكالات الإغاثة والإسراع من استجابة السياسات الفيدرالية للأزمات المحتملة.وسبق أن حظي هذا الموضوع  بأهمية كبرى في فريق عمل كل إدارة أميركية جديدة، ويبدو أن الأمور اتخذت في عهد أوباما منحى جيدا في ظل الالتزام بالاستمرارية والتركيز على الخطط الدفاعية والتأهب وإعداد جدول أعمال الأمن الصحي العالمي، وهي مبادرة بدأها أوباما للمساعدة في بناء قدرات الأمن الصحي في الدول الأكثر تعرضا لخطر انتشار الأوبئة في جميع أنحاء العالم ومنع انتشار الأمراض المعدية. غير أن هذا الالتزام لم يدم طويلا عند وصول ترامب إلى سدة الحكم.

تقلص الاستثمارات الأميركية

لا شك أن الأمراض الوبائية واحدة من أكبر الأخطار التي تهدد الاستقرار والأمن الدولي. ولطالما أجمع المسؤولون بالإدارات الأميركية المتعاقبة على أن مكافحة التطرف وحراسة الحدود البرية والبحرية والجوية للولايات المتحدة والدفاع عن الديمقراطية والحرية الاقتصادية، كلها تصبّ في مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة، كما أن وقف انتشار الأوبئة مثل وباء إيبولا أينما يظهر هو أيضا بمثابة دعامة لإستراتيجية الأمن القومي الأميركي.

 وعلى الرغم من إقرار الرئيس ترامب للزعماء الأفارقة في الخريف الماضي أنه “لا يمكننا أن نحقق الازدهار والرخاء إذا لم نكن نتمتع بصحة جيدة”، إلا أن فريق عمله لا يبدي جدية في منع انتشار الأوبئة على مستوى خارجي. وقد انخفضت الاستثمارات التي تتعامل مع مثل هذه الأنواع من الأزمات إلى أدنى مستوياتها منذ حادثة تفشي مرض إيبولا في عام 2014، مع خفض نظام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بأكثر من 50 بالمئة عن تلك المستويات القصوى.

وأشار الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا في تقريره السنوي، سبتمبر الماضي، أن مكافحة هذه الأمراض تحتاج إلى “المزيد من الاستثمارات” لأن نسبة الوفيات والإصابات لا تزال مرتفعة جدا.

ويخلق موقف اللامبالاة السائد تجاه تمويل خطط التأهب للأوبئة داخل البيت الأبيض في الوقت الحالي نقاط ضعف جديدة في البنية التحتية الصحية للولايات المتحدة ويترك العالم يعاني من فجوات حرجة يتصارع معها عندما ينتشر المرض على المستوى الدولي.

وقد تم خفض حجم الاستثمارات التي جرت بعد أزمة إيبولا 2014 في الميزانيات الفيدرالية المقترحة حديثا في”وكالة مكافحة الأمراض واتقائها”، وهي الوكالة التي تعمل على وقف الأمراض الفتاكة، وأيضا في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، التي تستجيب للكوارث الدولية، بما في ذلك تفشي الإيبولا.

وعلاوة على ذلك، استقال تيموثي زيمر المسؤول البارز في البيت الأبيض عن خطط التأهب للوباء، من وظيفته، وتم حل مكتب الأمن الحيوي الذي كان يديره. هذا القصور في الدعم والانخفاض النسبي في التمويل يعتبر أمرا خطيرا، بالنظر إلى زيادة عدد التقارير العالمية التي تشير إلى  انتقال الأمراض الحيوانية التي قد تكون مميتة، حيث تنتقل الكائنات المسببة للأمراض من الحيوانات إلى البشر، بمعدل ينذر بالخطر.


ويعزو البعض ذلك إلى تغير المناخ، حيث أن المناخات أصبحت أكثر دفئا في كل مكان مما يساعد على تمديد دورة حياة الأمراض المنقولة بواسطة البعوض وتسمح لها بالوصول إلى ارتفاعات أعلى وإلى أي مدى. وهذا يعني أن الأمراض الفيروسية مثل مرض زيكا وحمى الضنك وفيروس غرب النيل قابلة للانتقال عبر مناطق جغرافية أكبر في وقت لاحق من هذا العام.

وكنتيجة لذلك، فإنه من المستحيل في عام 2018 أن تتم إعادة توجيه الأموال والاستثمارات بعيدا عن الاستعداد لمواجهة الأوبئة، حيث انتشر فيروس الإيبولا مرة أخرى الآن في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ووصف مسؤولو منظمة الصحة العالمية تفشي هذا المرض بأنه “على وشك” الانتشار المحتمل إلى الدول المجاورة.

وبينما كانت استجابة هذا العام أسرع بكثير وأكثر فعالية من الاستجابة للأوبئة السابقة في أفريقيا، استمرت الحالات في الارتفاع في الأماكن التي يصعب الوصول إليها مع عدم وجود بنية تحتية مناسبة للرعاية الصحية بالقرب من حدود الكونغو مع رواندا وأوغندا، مما أثار مخاوف من الانتشار الإقليمي.

خطر العدوى

لعل أكثر أنواع الأمراض فتكا وصعوبة في العلاج، فيروس أنفلونزا الطيور الذي ينتشر حاليا في جميع أنحاء الصين. وتسبب هذه السلالة من مرض أنفلونزا الطيور مرضا تنفسيا سريعا مع حدوث اختلال وظيفي في جميع أعضاء الجسم. وهذا هو السبب في صعوبة السيطرة على هذا المرض، لا سيما أن خمسة أوبئة من فيروس أنفلونزا الطيور انتشرت في الصين وحدها منذ عام 2013، وكان آخرها ما بين خريف عام 2016 وخريف عام 2017. ومن بين هذه الأوبئة، تأكد وجود 1565 حالة مصابة، توفي منها حوالي 40 بالمئة.

هذا الرقم المذهل يجب أن يخيف المجتمع الدولي، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الصين على عكس الدول الأخرى المحدودة الموارد في قارة آسيا، لديها على الأقل بعض القدرة على الاستجابة السريعة للأزمات الناشئة من خلال مركزها الخاص للسيطرة على الأمراض والوقاية منها، والذي يمكن أن ينشر الرعاية وغيرها من خدمات الطوارئ الصحية العامة.

 ويجب الانتباه إلى أن هذا الخطر لا يحتاج سوى ناقل واحد مصاب بفيروس أنفلونزا الطيور للهروب من الفحص أو الكشف في محطة قطار أو مطار لتحويل أزمة صحية محلية إلى وباء عالمي. وبما أن هناك أكثر من 60 رحلة طيران دون توقف بين الصين والولايات المتحدة يوميا، مع ما يقدر بنحو 30 ألف مسافر يسافرون بين الدولتين كل يوم، فإن احتمال الانتشار هو أكثر من مجرد تهديد بعيد ووجودي.

وبإمكان انتقال فيروس أنفلونزا الطيور إلى الولايات المتحدة أن يحدث خلال رحلة جوية، وهذا هو السبب في أن الاستثمارات الدائمة في جدول أعمال الأمن الصحي العالمي مهمة للغاية للحد من خطر العدوى والانتقال السريع للوباء، مما يسمح للحكومة الأميركية بالتعامل مع مسببات الأمراض القاتلة في وقت مبكر، ويجب أن تكون مستعدة لذلك بالفعل قبل وصول هذه الأوبئة إلى شواطئ الولايات المتحدة.

وحاولت منظمة الصحة العالمية أن تزيد من اهتمامها للأمر وأن تعزز من حالات التأهب والاستعداد من خلال دعم “التقييم الخارجي المشترك” بقوة، وهو تقييم لقدرات كل دولة على منع انتشار المرض المحتمل والكشف عنه والتصدي له.

ووفقا للتحليلات الأولى لهذه النتائج، وُجد أن دول العالم غير مستعدة بشكل كاف لمكافحة الأوبئة بشكل عام. وكان أكثر النتائج التي تم التوصل إليها هو أن قرابة 90 بالمئة من القدرات الأساسية للصحة العامة التي تعتبر ضرورية للتأهب لوباء محتمل، عبر قطاع عريض من الدول، لم يتم تطويرها بما يكفي للتعامل مع تفشي هذه الأمراض الخطيرة.

الأمراض الفيروسية مثل مرض زيكا وحمى الضنك وفيروس غرب النيل قابلة للانتقال عبر مناطق جغرافية أكبر في وقت لاحق من هذا العام

وعلى الرغم من أن أداء الدول في أفريقيا وجنوب شرق آسيا كان الأسوأ ​​مقارنة بالدول الأخرى، إلا أن مستويات التأهب لم تكن كافية لدرجات متفاوتة في كل مكان تقريبا. وكان من ضمن المؤشرات التي احتاجت إلى إيلاء الكثير من الاهتمام هي الأدوية المضادة للميكروبات، حيث كان توفير اللقاحات الوقائية لبعض الأمراض أمرا نادرا، في ظل محاولات معظم الدول أن تفي بالبدايات الأساسية لتغطية الأمراض ذات الأولوية بين سكانها.

وتبين هذه النتائج الأخيرة ما يمكن أن ينجح في جهود مقاومة الأوبئة، إذ تحسنت معدلات اللقاحات منذ أوائل عام 2000 في بعض الأماكن التي يصعب الوصول إليها بسبب “التحالف العالمي للقاحات والتحصين” أو (غافي)، وهو جهد متعدد الأطراف وشراكة صحية عالمية بين القطاعين العام والخاص ملتزمة بزيادة فرص التحصين في الدول الفقيرة.

واستمر هذا التحالف إلى ما يقرب من عقدين من الزمن، حيث تساعد وكالة “غافي” في إعادة توجيه الأعمال الخيرية والخبرات الفنية الخاصة والمخصصة للعموم إلى الدول التي تعاني من الأمراض التي يمكن الوقاية منها عبر اللقاحات.

ولا يمكن إنكار مكاسبها المثيرة للإعجاب وعلى الأخص خفض الأسباب التي تؤدي إلى الوفاة لمن هم دون سن الخامسة بسبب أمراض الإسهال والأمراض التنفسية. وقد صُمم جدول أعمال الأمن الصحي العالمي بشكل جزئي من أجل التأهب للأوبئة، وهو يشبه أيضا ما فعله “التحالف العالمي للقاحات والتحصين” بشكل جيد من أجل تحسين معدلات التطعيم.

وفي أعقاب تفشي الإيبولا، كان الهدف هو دعم استجابة التأهب وكشف المرض، والأهم من ذلك كله، التركيز على الوقاية في الخارج، حتى لا تضطر الولايات المتحدة إلى مكافحة الوباء في الداخل.

لكن من المؤسف أنه تم خفض الالتزامات المالية لجدول الأعمال بشكل كبير في ظل إدارة ترامب، مما يجعلنا الآن جميعا عرضة لمجموعة لا نظير لها من التهديدات الصحية الناشئة التي لم نشهدها منذ عام 1918، عندما تفشى مرض قاتل يعرف باسم “الأنفلونزا الإسبانية” والذي تسبب في قتل ما يقرب من 50 مليون شخص على مستوى العالم.

وللتيقن عبر دلائل واضحة أن العالم غير مستعد لمواجهة الوباء القادم، فإن الأوبئة المدمرة أصبحت قريبة جدا، وبما أن التمويل لمكافحة هذه الأوبئة قد تم تقليصه إلى حد كبير في عهد الإدارة الأميركية الجديدة، لذلك فإن الفشل في أخذ هذه الأزمة على محمل الجد قد يكون مميتا.

ولا ينبغي أن ينظر إلى منظمة الصحة العالمية على أنها مجرد وكالة تسعى إلى تحقيق الخير في مجال التنمية أو في مجال السياسة الدولية. وبدلا من ذلك، يجب أن تكون الدروس واضحة لتفشي الإيبولا والأوبئة السابقة للإدارة الأميركية الحالية وهي أن مكافحة تفشي الأمراض تتطلب نوعا من توحيد الرأي العام وحشد الموارد العالمية التي كان من المفترض أن تحتفل بها الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال اجتماعها الأخير.

 وتستنتج ليزا موناكو أنه من خلال الانتقادات الساخرة للإدارة الأميركية الجديدة لهذا التعاون الدولي فإنها تتجاهل بذلك الترابط المتبادل بين مجتمعنا العالمي، والذي لا يمكن قلبه من خلال خطاب أو مجموعة مؤقتة من منصات السياسة الداخلية. وتؤكد أن “التأهب لمواجهة الأوبئة هو مسألة تتعلق بالأمن القومي ويجب معاملتها بأكثر جدية، إذ كلما زاد الشعور بالغرور والرضا عن الوضع الحالي، كلما أصبحت الأزمة القادمة أكبر”.