الصحافي المسجون عدلان ملاح..

ملاح صحافي أعزل خلف قضبان نظام مُقَعد

القضية التي استقطبت اهتمام الرأي

صابر بليدي

يعول إعلاميون وناشطون حقوقيون في الجزائر على الاستئناف المطروح من طرف الدفاع في مجلس قضاء العاصمة، لإطلاق سراح الصحافي المسجون عدلان ملاح، من أجل وضع حد لانزلاق وضع الحريات الصحافية في البلاد، وترميم العلاقة بين الصحافيين والسلطة، عشية الاستعداد للانتخابات الرئاسية خلال شهر إبريل القادم.

ولم يكن أحد يتوقع أن ذلك الصحافي النحيل الذي كان يدافع بشراسة عن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، ويهاجم بقوة معارضيه، سيتحول هذا التحول في مواقفه السياسية والإعلامية تجاه السلطة والموالين لها، بعد سجنه في قضية شبكة الابتزاز والتشهير.

وتبقى الأنظار مشدودة إلى ما سيقرره مجلس قضاء العاصمة بشأن القضية التي استقطبت اهتمام الرأي العام والمنظمات الحقوقية والمهنية محليا ودوليا، خاصة مع الوضع المأساوي الذي يعيشه الصحافي في سجنه، في المؤسسة العقابية بضاحية الحراش، نتيجة إضرابه المستمر عن الطعام ومعاناته من عدة أمراض.

يجمع الحقوقيون وهيئة الدفاع المتطوعة على أن التهم الموجهة إلى موكلهم “ملفقة”، وتحمل بصمة تصفية الحسابات السياسية بين أجنحة السلطة، وأنها لا يمكن أن تكون سالبة للحرية، لأن تلك التهم تتنافى مع تشريعات البلاد التي لا تجرم الفعل الصحافي ولا تحظر حرية ممارسته.

ومع ذلك أكد أحد محامي عدلان ملاح، لـ”العرب”، أن “هناك حدسا يلمح إلى أن الصحافي لن يطلق سراحه إلا بعد أن ينتهي صخب الانتخابات الرئاسية وينصب الرئيس الجديد، سواء خلف بوتفليقة نفسه، أو جاء رئيس جديد، لأن السلطة تخشى في الوقت الراهن من أن يكشف الرجل عن ملفات خطيرة، ستنغص أجندة السلطة وتزيد من متاعبها الشعبية”.

وأضاف المحامي الذي طلب عدم ذكر اسمه أن “الحكم الابتدائي الذي عاقب ملاح بعام سجن نافذ كان متوقعا، ويوحي بأن السلطة لا تريد لصوته أن يصدح مجددا، إلا بعد مرور الاستحقاق الرئاسي، ولذلك يمكن أن يتم تخفيف العقوبة من طرف مجلس القضاء في الـ23 من شهر يناير الجاري، إلى ستة أشهر وهي الفترة التي تنظم فيها الانتخابات الرئاسية”.

وسبق لملاح أن وعد بعد إطلاق سراحه في المحاكمة الأولى، التي شملته رفقة عدد من الصحافيين والمدونين والفنانين، في ما يعرف بشبكة التشهير والابتزاز والقذف التي يقودها المدوّن أمير بوخرص، بأنه يحوز ملف فضيحة كمية الكوكايين التي زلزلت أركان السلطة بسبب تورط مسؤولين كبار ورجال أعمال نافذين، وأنه سيكشف حقائق المحاكمة الانتقائية وتصفية الحسابات في الملف.

أحد محامي ملاح يؤكد لـ"العرب" أن "الحكم الابتدائي الذي عاقب ملاح بعام سجن نافذ كان متوقعا، ويوحي بأن السلطة لا تريد لصوته أن يصدح مجددا، إلا بعد مرور الاستحقاق الرئاسي

الصحافي الشاب عمل في عدة مؤسسات إعلامية مكتوبة ومرئية، وانتهى به الحال بإطلاق صحيفتين إلكترونيتين، واحدة ناطقة بالعربية والأخرى بالفرنسية، وكان إلى غاية الانتخابات الرئاسية التي جرت في 2014، أحد المدافعين الشرسين عن السلطة وعن الولاية الرئاسية الرابعة لبوتفليقة.

لا للخامسة
لم يكن الأمر مفاجئا للرأي العام وللمحيط الإعلامي في البلاد، قياسا بكون والده بلقاسم ملاح، القيادي في حزب التجمع الوطني الديمقراطي الموالي للسلطة، وأحد منافسي أحمد أويحيى، على قيادة الحزب في المؤتمر الأخير، فضلا عن أنه شغل منصب كاتب دولة للشباب في حكومة عبدالمالك سلال.

المفاجأة الحقيقية هي انقلاب ملاح الابن على مواقفه رأسا على عقب، وتحوله من النقيض إلى النقيض، حيث صرخ أمام الصحافيين، حين قدم إلى محكمة عبان رمضان بالعاصمة، في قضية شبكة بوخرص، وهو مقيد اليدين، بأعلى صوته “لا للخامسة”، ويقصد بذلك الولاية الرئاسية المنتظرة لبوتفليقة.

ويرى متابعون للملف أنه لم يكن بإمكان ملاح، ولا للمجموعة ولا بوخرص، صناعة كل هذا الصدى الإعلامي والرجع المدوي، لو لا المفعول السلبي للدعاية غير المهنية التي مارسها مجمع “النهار” الإعلامي الخاص في حق هؤلاء، لأنه استبق القضاء في إطلاق تهم التشهير والابتزاز والقذف عليهم، ومارسه هو بكل أركانه في حقهم، بعد إظهارهم على قناته ومنصاته في صور مهينة ومسيئة أثارت غضب واستياء الرأي العام، وحولتهم إلى ضحايا استقطبوا تعاطفا وتضامنا كبيرين.

ومع ذلك أفضت جرأة الرجل في الإفصاح عما جرى له في كواليس الاعتقال، إلى إحراج شديد للسلطة، بعدما كشف لوسائل الإعلام المحلية وفي تسجيلات شخصية على شبكات التواصل الاجتماعي، عن أن “اعتقاله من طرف عناصر الدرك كان قبل إيداع الشكوى من طرف الخصم، وأنه التحق بمقر الجهاز بعد الزوال، بينما الشكوى لم تقدم إلا في السادسة زوالا من طرف مالك مجمع النهار الإعلامي أنيس رحماني”، وهو ما يلمح إلى ترتيب مبكر للقضية وتواطؤ بين بعض الأطراف.

وأضاف في خطاب وجهه لوزير العدل طيب لوح، أنه تعرض للتعنيف والتعذيب أثناء الاعتقال، وطلب منه المحققون ذكر الجنرال عثمان طرطاق، منسق الأجهزة الأمنية في التفاصيل، والقول إنه هو من كان يسرب له الملفات والأسرار التي كان ينشرها في صحيفتيه، ليتم اعتقاله هو الآخر في نفس الليلة.

[ أنظار الجزائريين تتوجه إلى ما سيقرره مجلس قضاء العاصمة، بشأن القضية التي استقطبت اهتمام الرأي العام والمنظمات الحقوقية والمهنية محليا ودوليا.
أنظار الجزائريين تتوجه إلى ما سيقرره مجلس قضاء العاصمة، بشأن القضية التي استقطبت اهتمام الرأي العام والمنظمات الحقوقية والمهنية محليا ودوليا.
ما الذي يعكر أجندة السلطة؟
إعلان ملاح عن حيازة الملف الكامل لفضيحة الكوكايين، التي هزت أركان السلطة، بسبب ضلوع مسؤولين كبار في مؤسسات الدولة، وتهديده بكشف الأسرار الكاملة للمحاكمة الانتقائية ولتصفية الحسابات بين الأجنحة المتصارعة، قطعا كل آمال التسوية الودية بين الطرفين، خاصة مع تحوله إلى ناشط ومناصر للقضايا الحقوقية، ما استدعى برأي أحد محاميه إلى عزله لغاية الانتهاء من تمرير أجندة السلطة في الاستحقاق الرئاسي.

قضية تثير الاستفهام لدى المتابعين حول ما اذا كان ملاح طرفا في صراعات الأشهر الأخيرة بين زمر السلطة، أم هو ضحية لمعارك المصالح والنفوذ، بما أن الرجل وقع بين قبضتي جهازين كبيرين وبين مسؤولين كبار، وهو ما جهر به النائب البرلماني حسن عريبي في رسالته لوزير العدل، لما قال “لا يجب أن يذهب المواطنون الأبرياء ضحية لصراعات الأجنحة في السلطة”.

لقد تحول ملاح إلى رمز الدفاع عن كرامة الصحافيين وعن الحريات الأساسية للناشطين الحقوقيين، بعد حملة تضييق وتوقيفات طالت العشرات منهم في مختلف بلدات ومحافظات البلاد، فانتقل إلى الجلفة وتيارت والأغواط والعاصمة ووهران، وتضامن مع مساجين آخرين في العاصمة، كما هو الشأن بالنسبة لمغني الراب الفنان رضا حميميد.

ورغم أوضاعه الصحية الحرجة ومعاناته من عدة أمراض، إلا أنه يصر على المضي في مسار الإضراب عن الطعام، كاحتجاج منه على الملابسات السياسية التي تحيط بمحاكمته، ولم يستطع لا فريق الدفاع ولا العائلة ثنيه عن قراره، ويبقى متمسكا بمحاكمة عادلة أو يموت بشرف في سجن الحراش.

ويعاني الرجل من عزلة تامة أثرت على قواه الجسدية والنفسية، حيث يتواجد في غرفة انفرادية وفي طابق أفرغ من المساجين، فضلا عن الأضواء المشتعلة باستمرار، مما سبب له التهابات وإصابات على مستوى العينين، فضلا عن معاناته من بوادر شلل نصفي، بحسب شهادات محامين وبيانات العائلة.

وذكر محاموه أن موكلهم “يتعرض لحرب نفسية ومعنوية لأهداف خطيرة، قد تجعل منه ضحية، لا تعتد بها الآن المصالح المختصة، لكنها ستكون وصمة عار أو برميل بارود ينفجر على أصحابه، لأن أي مكروه يلحق بعدلان ملاح ستكون عواقبه وخيمة على السلطة”.

نخبة جديدة في الجزائر
يعتبر ملاح من الجيل الجديد الذي رفع راية الدفاع عن الحريات والحقوق، ويمثل إلى جانب بعض الصحافيين والمدونين والفنانين النواة الأولى لقوة تدفع باتجاه الضغط على السلطة، للتخفيف من حدة القبضة المضروبة على الأصوات المعارضة في الطبقة السياسية والنخب المثقفة.

ومع ذلك تلوح بوادر هوة ما فتئت تتوسع بشكل متسارع بين أجيال الناشطين والسياسيين في الجزائر، تمهد لقطيعة بين جيل ملاح وبين الجيل المخضرم في الطبقة السياسية ومختلف النخب، لا سيما مع بروز انتقادات صريحة لبعض الرموز والوجوه التي التزمت الصمت لحد الآن تجاه قضية الصحافي المسجون.

رفيق دربه الصحافي والناشط الحقوقي سعيد بودور يلمح إلى بعض الأصوات المرتفعة في مختلف القضايا، إلا قضية ملاح، بما فيها تلك التي انتقدت مظاهر كباش الأضحية في عيد الأضحى في مدن وأحياء البلاد، وبلعت ألسنتها حين يتعلق الأمر بالحقوق المدنية والسياسية والسجن التعسفي للناشطين والصحافيين، في عتاب مبطن للأديب والروائي أمين الزاوي الذي أثار جدلا خلال الأشهر الماضية، على خلفية انتقاده لما أسماه بـ”البدونة الإسلامية”، المتصلة بالمظاهر “المزعجة” لكباش الأضحية في عيد الأضحى، وتدهور وضعية الأحياء والمدن الجزائرية في مثل هذه المناسبات، بينما لم يصدر عنه أي موقف تجاه القضية المذكورة، على حد تعبير بودور.

شبكة النت وصحافة المواطن والهاتف الذكي، باتت بالفعل خارج آليات التحكم فيها بضغوط الإعلان أو التراخيص الإدارية، ولذلك قفزت مواقع إخبارية وصفحات اجتماعية إلى الواجهة، وتركت وراءها أكشاكا تعج بالعشرات من الصحف الورقية أو شاشات تعج بفضائيات كثيرة، لكنها عديمة التأثير في الرأي العام وفاقدة للمصداقية لدى الرأي العام، رغم أنها تكلف خزينة الدولة أموالا طائلة.

ويرى متابعون للشأن السياسي والحقوقي في الجزائر أنه كما كسرت وسائط التواصل الاجتماعي حاجز الصمت تجاه الكثير من الملفات والقضايا التي كان مسكوتا عنها في السابق، فإن الجيل الجديد من الناشطين والمدونين والصحافيين يبصم على ميلاد مرحلة جديدة ينتهي فيها حاجز الخوف.

ويضيف هؤلاء أن الصحافة الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، التي أنتجت جيل عدلان ملاح، أفلتت من قبضة السلطة، ولم يعد بالإمكان ترويضها.