رشيد الخيُّون يكتب:
عراق 2003.. التاريخ لم يُكتب بعد!
بلغ عراق 2003، قبل يومين، الخمسة عشر عاماً، مرت خلالها حوادث جسام، هُدت فيها الجسور بين فئات المجتمع، وفجرت أسواق مكتظة بالمتعبين، وهدمت منائر وقباب وكنائس. هذا، والآية أشارت إلى هول هدم تلك الأبنية: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ» (الحج: 40)، كلّ هذا حدث بعراق 2003، فمن ولد في صبيحة ذلك اليوم، بلغ الآن الشباب، ولا يعرف شيئاً عن الجحيم الذي ولد فيه، ومِن أي قفراء جاءه هؤلاء الجوعى للأموال، أصحاب الضمائر المتعطشة للدماء؟
ما زالت حوادث 9 أبريل/نيسان، وما أسفرت عنه، بلا راوٍ، ولا مؤرخٍ، فشهود العيان يرحلون واحداً تلو الآخر. قال لي فنان معروف: أصبحنا على رتل من السيارات "الهمر"، تحمل مسلحين عراقيين لكنهم غرباء، فأحاطوا بالمنازل باحثين عن طرائد وغنائم، ينتمون للذي خطب معتمراً قبعة رعاة البقر، واعداً بعبارة «أنتم تختارون حكمكم»، لكنَّ رجالَه أعادوا ممتلكات أسرته القديمة ونواديها، في صبيحة ذلك اليوم.
آخر خرج من بغداد متقلباً بين أحضان الأحزاب، من اليسار واليمين، ليعود قائداً إسلامياً يحمل لواء ولاية الفقيه، عرف الطريق إلى أرض يدعي أنها أرض أسرته، مع مقاتلين من فئة التوابين واسترجعها بالبلطجة لا بالقانون. آخر خرج مخبراً للنظام السابق على شتات المثقفين بالخارج، فعاد إسلامياً، يسبح باسم حزب إسلامي ليرفعه نائباً، ورئيساً إعلامياً. استبدلت الأسماء، فمن ينتظر ولادة ابنه ليسميه صداماً، سماه حُسيناً!
كاتب وإعلامي قال: «خرجت أبحث عن والدي، الذي ترك الدار ليلاً، كي يحمي كليته، فهو عميدها»، من جموع المسلحين، الذين لديهم خرائط جاهزة، ولم يعد والده، فاضطر للبحث بين الجثث الملقات على الطريق. تذكرتُ، وهو يتحدث لي، القصيدة التي قيلت يوم هتكت بغداد خلال معارك ابني الرشيد (ت 193هـ) الأمين والمأمون، وما عُرف بـ«وقعة دار الرَّقيق» (198هـ)، وكانت مذبحة عظيمة، ومنها البيت: «ومغترب قريب الدار ملقى/ بلا رأس بقارعة الطريق/ فلا ولدٌ يقيم على أبيه/ وقد هرب الصديق بلا صديق» (المسعودي، مروج الذهب).
انتهى أمر الفنان والإعلامي إلى الهجرة، بعد أن خُير الأول بين بيع داره بالكرادة لتكون ضمن قصور كيان إسلامي، أو لا تُضمن سلامته، ففضل السلامة. كانت المنافسة على المواقع ببغداد حامية بين المسلحين، دخلوها من البوابات المهتوكة المفتوحة كافة. لا أحد يعرف أعداد القتلى، الملقاة على الطرقات، وقد بدأت المليشيات بالانتقام ضمن قوائم معدة، وكلٌّ يُنفذ واجبه، قتلاً أو سلباً، فقد أخبرني قيادي من «حزب الدعوة» (الداخل)، وهو يتجه إلى بغداد ليُنصب وزيراً: «إن شاحنات محملة بوثائق مركز الخليج العربي في جامعة البصرة عبرت إلى إيران»، بينما الجنود الأميركيون يُقلبون تحف القصور الرئاسية. يومها، كُتبت مسرحية «مجلس الحكم»، ووزعت الرئاسة حسب الحروف الأبجدية، ليتحول أصحاب فكرة «العدالة الانتقالية» إلى رؤساء جمهوريات خوف. تحولوا من بقالين ومضمدين وحاملي حقائب أمام المطارات وحملدارية، إلى ملاكين ورؤساء مؤسسات كبيرة، بينما كان المطروح في خطاب الأميركيين وقوى المعارضة، إعادة إعمار المجتمع، وإذا الدكتاتور يصبح دكتاتوريين، ويُبالغ بهدم المجتمع.
انقضت خمس عشرة سنةً، وما زال تاريخها يروى شفاهةً، بينما سُجلت لحظات الغزو المغولي لبغداد (656هـ) لحظة بلحظة، فمَن يقرأ «الحوادث الجامعة والتجارب النافعة» لا يشك أن كاتبه كان يتنقل بين أزقة بغداد، ويراقب من على سطوحها.
نعم، كتابة تاريخ ذلك اليوم، وما أعقبه، مغامرة، فصانعو الشر، ومبددو الآمال بسقوط الدكتاتورية، ما زالوا يمتلكون «العير والنفير»، لكن لا بد من ذلك، فعدد الرواة والإخباريين الذين شهدوا الواقعة، وما أتى بعدها من واقعات، أخذ بالتضاؤل، والملفات بدأت تفقد بحريق طارئ أو تهريب.
دعوة أطلقها محمد صالح بحر العلوم (ت 1992)، في يومٍ أقل فاجعة من يومنا المذكور، فقال رباعيته «أيها التاريخ سجل» (1941)، وقبلها «يا شعب سجل» (1933). إلا أن أعمق ما قاله مناسبة لهذه الكارثة كان «أين حقي؟» (نحو 1949)، فالكائنات التي عادت إلى العراق ووعدت بإرجاع الحقوق وإرجاع العقل إلى مساره، لم تبقِ حقاً ولا عقلاً. قال بحر العلوم: «أجاب العقل في لهجةِ شكاكٍ محاذر/ أنا في رأسك محفوف بأنواع المخاطر/ تطلب العدل وقانون بني جنسك جائر/ إن يكن عدلاً فسله عن لساني: أين حقي؟!». كانت الخسارة كبيرة فظيعة، والمغلوبين جميعاً يسألون: «أين حقي؟».
أقول: لا يجب أن تمرَّ الفواجع والأوجاع بلا تاريخ موازٍ، لما يدلسه ناهبو العقارات والثروات وزعماء فرق الموت عبر فضائياتهم وفي صحفهم، فالأقلام المدونة للحق لم تُكسر، والعقول لم تُعطل بعد كافة، داعياً إلى التنادي لتحمل مسؤولية كتابة تاريخ عراق 2003، والبدء بالمهمة بلا تأخير.
رشيد الخيّون