عبد الرحمن شلقم يكتب:
كوريا الشمالية وإيران... الصراع خارج الحلبة
الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، دخل التاريخ من باب خاص. صنعه لنفسه بنفسه. بعد رحلة طويلة من التهديد والوعيد، رفقة تجارب نووية وصاروخية، جعل الدنيا تقف على حافة خطر مرعب، قام بانعطافة مسرحية، وقدم لعالم السياسة خريطة جديدة هو من صنع حبرها وأقلامها وورقها. ورث الرجل عن جده وأبيه القنابل الذرية والصواريخ، وورث معها أيضاً شحنات العداوة ولغة الحرب والصدام. جارته الشقيقة العدوة كوريا الجنوبية حبست أنفاسها، وشاركها في ذلك اليابان العدو التاريخي لكوريا، وربما الهدف الأول أو الثاني لسلاح كيم إيل أون. دأب الرئيس الأميركي على وصفه بالديكتاتور، وأطلق نحوه قذائف التهديد والوعيد.
قفز إلى حضن الشقيق العدو في سيول بمبادرات إنسانية «أسرية»، حيث قامت شقيقته بدور العراب العائلي، وتبادل الطرفان الحديث ليس بلغتهما الواحدة فقط، بل بالفن والرسائل الاجتماعية. القفزة الأكبر كانت مبادرة اللقاء بالعدو الأول والأكبر الرئيس الأميركي دونالد ترمب. غادر الرجلان حلبة الصراع وخلعا لباسها، لم يتأخر الرئيس الأميركي في قلب صفحة اللغة، وأصبح الغريم رجلاً محترماً ومُقدَّراً على لسان ترمب.
السياسة كيمياء، لها معاملها وموادها وموازينها. لقد كان للعقوبات الدولية حضور ثقيل في ذلك المعمل. بعد انضمام الصين - شريان الاقتصاد الكوري الشمالي - إلى تطبيق العقوبات، لم تعد بيونغ يانغ قادرة على مواصلة الحركة والسير في أدغال الصدام المميت.
الديكتاتور هو من يفتل الحبال لذاته وشعبه، يقيد بها أطرافه وعقله، ثم يهوي في حفرة الضعف والاستسلام. لقد زرت كوريا الشمالية أكثر من مرة، وقابلت الرجل الثاني الذي رحل الزعماء قبله وبقي في الكرسي الدائم على يمين الجديد. الكلمات مصنوعة في ماكينة الآيديولوجيا - الحزب. والجوع هو الحاكم الحقيقي للبلاد. حصلت كوريا الشمالية على قرض من ليبيا قامت بتسديده عن طريق عمال ترسلهم وتدفع أجورهم مباشرة للحكومة الكورية. لكن الجهات الليبية دأبت على تقديم مساعدة عينية لهؤلاء العمال.
الأسباب التي دفعت الرئيس كيم يونغ أون إلى تغيير أوراق وحبر وأقلام خرائطه كثيرة. العقوبات الدولية الثقيلة التي انضمت إليها الصين وروسيا، أدّت إلى أنيميا اقتصادية ووهن في اللحم والعظم. أصبحت الحياة تقترب من العذاب الشامل لكل الناس. التطور الاقتصادي الهائل الذي تندفع فيه الجارة الجنوبية والقوة الناعمة التي غزت أسواق العالم له انعكاس على الدائرة السياسية، بل والعائلية للزعيم كيم. السؤال، هل سيكتفي الزعيم بالخروج من لعبة القوة النووية والصاروخية وحرب الكلمات المتفجرة المهددة، وينتقل إلى إعادة إنتاج نظامه الاقتصادي وتوظيف قدراته العلمية والتقنية لتحقيق نقلة اقتصادية عبر التعاون مع جارته الجنوبية وجذب الاستثمارات اليابانية والصينية وحتى الأميركية؟
ونحن نتحدث عن كوريا الشمالية، يشدنا الصدى إلى إيران، حيث المشتركات بين النظامين بها الكثير من التشابه والاختلاف أيضاً.
إيران استثمرت الكثير في الأسلحة، وبخاصة الصاروخية، ولم تخف عملها الحثيث على تطوير قدراتها النووية، وصدامها الطويل مع الولايات المتحدة. الاختلاف بين الدولتين، هو أن كوريا الشمالية لم تقم بشحن آيديولوجيتها إلى خارج حدودها عبر صناديق المال والسلاح، ولم تقم بتأسيس قوى تابعة لها خارج حدودها. وحتى تهديداتها الصوتية العالية كانت تعبيراً عن الخوف من الآخر أكثر مما هي تهديد عملياتي له، وتحديداً أميركا. النزول من حلبة الصراع بالنسبة لكوريا الشمالية كان أكثر سهولة عبر سلم شقيقتها الجار الجنوبي، هي السلم الذي مثل درجات النزول بقمة مباشرة بين قيادتي البلدين، وأخرى مرتقبة بين الزعيم الكوري الشمالي والرئيس الأميركي.
الحالة الإيرانية في غاية التركيب والتعقيد. في الداخل نسيج القوة السياسية والعسكرية والروحية متعدد ومتناقض رغم السلطة المطلقة لمرشد الثورة خامنئي. المحافظون لهم قوتهم ومصالحهم، والإصلاحيون بينهم من هو في كراسي السلطة وآخرون في الإقامة الجبرية. الوضع الداخلي وبخاصة الاقتصادي يدفع فيه الناس ثمن التوسع العسكري والآيديولوجي خارج الحدود. وكلما فتحت المبادرات السياسية كوة للخروج إلى آفاق جديدة تولت الطموحات العابرة للحدود غلقها. اليوم أُعيد فتح ملف قديم متجدد، وهو الاتفاق الخاص بموضوع القدرات النووية الإيرانية. ذاك الملف الذي جرت تسويته بعد مشوار طويل ومرهق من المفاوضات المعقدة بين الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن وألمانيا وإيران.
الرئيس الأميركي يصف ذلك الاتفاق بالكارثي، ويصرّ على مراجعته وتعديله، وإلا ستنسحب منه الولايات المتحدة. الدول الأوروبية التي شاركت في صياغة ذلك الاتفاق بقيادة فرنسا تبذل جهداً مكثفاً لإقناع ترمب بالاستمرار في الاتفاق، وذلك لا يمنع الحديث مستقبلاً في ملف الصواريخ الإيرانية. الأصوات التي ترتفع في طهران تهدد وتتوعد. الرفض الكامل لمراجعة الاتفاق حول برنامج إيران النووي، بل التهديد بالانسحاب من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، وكذلك البروتوكول الإضافي الذي يقضي بالتفتيش المفاجئ على المركبات النووية الإيرانية. القادمون الجدد إلى الإدارة الأميركية يذهبون إلى أبعد من موضوعي الاتفاق النووي وبرنامج الصواريخ الإيرانية، يصرون على فتح ملفات إضافية مع إيران، وعلى رأسها الإرهاب والتدخلات الإيرانية في المنطقة، وحقوق الإنسان في إيران. الدول الأوروبية المعنية لا يجمعها موقف موحد، لكنها تجنح للمعالجات الدبلوماسية التي تكبح الصدام العسكري بين إيران وأميركا. لا شك أن أوروبا حليف للولايات المتحدة ولا تقبل بالسلوك الإيراني في سوريا، واليمن، ولبنان، والعراق، وإذا قررت الولايات المتحدة فرض المزيد من العقوبات على إيران بديلاً للصدام العسكري معها فستكون مع أميركا في نهاية المطاف.
طهران ترفع سقف لغتها وأفعالها؛ مما يجعل نزولها من حلبة الصدام في غاية الصعوبة، إن لم نقل من المستحيل. فقد استثمرت الكثير في أدغال مغامراتها خارج حدودها، وتأسست قوة سياسية وعسكرية وآيديولوجية في الداخل تعيش على ذاك الاستثمار. في المقابل، الرئيس دونالد ترمب جعل من مواجهة مشروعات إيران العسكرية والسياسة جزءاً من برنامجه الانتخابي، والولايات المتحدة مقبلة على الانتخابات النصفية للكونغرس، وهذا يجعل خيارات التراجع أمامه محدودة. فرنسا هي السلم المتاح لإيران للنزول من حلبة الصدام؛ فقد قام وزير خارجيتها لودريان بزيارة طهران حاملاً معه مشروعاً شاملاً للتفاهم مع الولايات المتحدة، لكنه قوبل برفض كامل، ولم يتردد الرئيس الفرنسي ماكرون أثناء زيارته الأخيرة إلى واشنطن في الحديث مع الرئيس والكونغرس الأميركي عن الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران، والتحرك نحو الملفات الأخرى، لكن طهران سدَّت أذنيها ورفعت صوتها. التاريخ حكم قاسٍ. استدرج الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان الاتحاد السوفياتي إلى حلبة سباق التسلح، ونجح في إرهاقه ثم تفكيكه. السياسة مواسم مثل الزراعة، لا أحد يستطيع أن يزرع القمح في الصيف.
*نقلا عن صحيفة "الشرق الأوسط ".