زينة الغلابي تكتب:
رحلة إلى عاصمة اليمن (صنعاء)
ذهبت يوما إلى صنعاء بذاكرة طفلة نصفُ ذكرياتها مالحة بمذاق شواطئ عدن، لم أر يومًا قبل سفري إلى صنعاء سوى الحي الذي أسكن به، والمدرسة، بيت جدتي ، والبحر الذي يقع على مسافة قريبة من المنزل، كان كل هذا متنفسي الوحيد، بل وعالمي الذي اعتقدت أنه كبير بما يكفي لأعيش كل عمري متنقلةً منهُ و إليه . كانت مخيلتي تصور لي صنعاء على أنها أبعد مكان قد يصله الإنسان، كان ذلك قبيل أن أتحسس موقعها على الخارطة في دروس الجغرافيا الشيقة . حين كان يأتي خالي من سفرهِ - في اواخر رمضان كما سرت العادة- قادمًا من صنعاء كان يظهر عليه جليا آثار التعب، لذا كنت أتصور أنه قدمَ من أبعد نقطة على الأرض ! .
في صنعاء رأيت زحام مهيب في زقاقٍ ضيقة، وستائر ملونة تلوح فوق رأسي لنساء دونما هوية واضحة، كُن بالنسبة لي كالحلم، الذي أحاول ألا أستفيق منه قبيل أن أمسك بخيط أستدل به على حقيقة تجعلني أعي مالذي يحدث ؟ .
دسست مرةً رأسي تحت ستارة احداهن، عليّ أكتشف بذلك عوالمٌ خفية، لكنني جمعتُ شتات نفسي من على الأرض، بعد أن رحلت المرأة بعيدًا، وبقيت مشدوهة لهول ماحدث، غاضبة لأنني لم أكتشف مالذي تخبئهُ هذه الستارة شديدة الإغراء لمخيلة طفلة . في صنعاء كان هنالك الكثير من الأشياء المختلفة، لم أتذكر أنني قد نظمت وقتي يومًا لشيء، كما فعلت هناك، حتى أصحو مبكرًا، فقط لأتحسس الندى على النافذة الزجاجية بجانب موضع رأسي، وأشتم رائحة الشوارع المغسولة بالمطر من خلف الأبواب الموصدة بأمرٍ من أمي .
حين عدت كان لدي الكثير من الحكايات التي سردتها لصديقاتي، عن مطاردتنا لإمرأة عجوز، هي وغنمها كل يوم دونما ملل، كان يقال أنها مجنونة، وتأكل الأطفال، أو تحولهم لشيء ما، وكنا ننكر هذه الخرافة بكل شجاعة، ونطاردها، ونتحقق كل يوم من صحة معلوماتنا، ونزداد يقين ! ، وعن اختلاسي للزبيب، واللوز كانت هنالك روايات كثيرة، وعن مغامراتي بالمجازفة باللعب بجانب عمارة مهجورة كانت تدعى عمارة الجن، تروى حولها الكثير من الحكايات التي كانت سببًا كافيًا لنومنا مبكرًا، ولصلاتنا المنتظمة . ،
حقيقة الأمر لم أخف من حكايات الجن كما فعلت عندما سمعت لأول مرة اطأ بها صنعاء ، آذان المغرب بصوت غريب متحشرج آثار في نفسي الشعور بأنها ليلة الحشر، وهذا هو النداء الآخير ! ، فهمت فيما بعد - حين توقفت عن النحيب - أن تلك قراءة من أنواع القراءات المختلفة للقران الكريم، لكنني لم أحبهُ يومًا ! .
كانت تغضبني فكرة وحيدة في صنعاء، أنني اجبرت على ارتداء العباءة السوداء بسنٍ مبكر جدًا . كانت أمي قد عقدت معي اتفاق بهذا قبيل سفرنا، شارحةً لي كل الأسباب التي لم أستوعب معظمها، وأذكر أنني كنت استهجن الفكرة بشدة وأبدي رأي، وموقف صريح ، ذلك يعود لأمي التي علمتني أن ندير حوار حول كل قرار مشترك، منذ الصغر كانت تعطيني مساحة لقول ما أريد، لكنها بالطبع تنفذ ماتراه هي صواب . كان هذا هو اللقاء الوحيد الذي تعرفت بهِ على صنعاء، وبعد ذلك عدت إلى حيث الشاطئ الذي كبُرت بالقرب منه، أرتديت بشرتي السمراء مجددًا، وتعرقت كل الذكريات تحت شمس عدن الحارقة ، ونسيت صنعاء .. أو ظلت حبيسة درج عتيق في الذاكرة، وأطلقت سراحها اليوم .
رمضان كريم على كل الاصدقاء هناك، من أختلف معهم قبل من أتفق معهم . سلاما على صنعاء وأهلها .