عبد الرحمن شلقم يكتب:
الشعبوية... صوت وسوط
الظواهر والتيارات السياسية، قد تسبقها عناوينها أو تلحقها. الشيوعية ظلت سنوات طويلة أفكاراً وشعارات وهتافات ترددها النخب في محافل مغلقة، قبل أن تجسدها الثورة البلشفية انطلاقاً من روسيا، وتتحول إلى قوة فكرية وسياسية دولية ضاربة. الفاشية والنازية، والآيديولوجيات الشوفينية، كانت أنهاراً متدفقة جرفت الكثيرين. الإمبريالية والقومية والرجعية والتقدمية، مصطلحات أخذت مساحات على سطح الإعلام السياسي المكتوب والمسموع والمنظور.
السياسة كائن حي، تتوالد في تجلياتها القولية والعملية، وقودها الناس والأفكار التي تمثل المحرك الدافع. مع اتساع وارتفاع نسبة التعليم في أغلب بلدان العالم، وقوة وسائل الإعلام وكسرها للحدود بين الناس والهويات، تخلقت ظواهر وقوة غير مسبوقة جعلت من الرأي العام قوة ضاربة، تصنع مسارات الخيارات السياسية في العديد من الدول. اليوم، يطفو على سطح التعبير السياسي والإعلامي كلمة «الشعبوية». تحليلها البسيط والمباشر هو حشد العامة في تيار محكوم بقوة الخطاب الرغبوي الذي يلامس تطلعات الشريحة الواسعة من قطاعات الشعب، التي لا تثق في محترفي السياسة الذين يحتكرون قوة القرار عبر وجودهم الدائم في حلقات السلطة، خصوصاً الأجسام التمثلية، وتحديداً البرلمانات. هذه الظاهرة القديمة الجديدة تتباين تجلياتها من حقبة إلى أخرى، من حيث الأهداف، واللغة، والقطاعات المستهدفة من الشعب. لقد تفوق الديكتاتوريون على أنفسهم في صياغة حزمة من شحنات الخطاب الشعبوي في أوقات وأماكن مختلفة في بقع كثيرة من العالم.
الزعيم أو القائد عادة هو من يقود أوركسترا العصف الخطابي الذي يلهب مشاعر العامة لدفعها نحو خيارات سياسية، تكون بالدرجة الأولى في خدمة أهدافه وترسيخ سلطته المطلقة.
نار الشعبوية لها حطبها الذي يشعل هيجان الجماهير. ينزل الشعارات خلف العقل، يسترجع التاريخ ويعيد رسم ملامح الهوية الوطنية. تصوير الوطن في لوحة المظلوم المستهدف الذي يتآمر عليه الأعداء، والعزف على أوتار الكرامة، وتسخير المعتقدات والموروث الشعبي لدفع الناس في اتجاه واحد دون الركون إلى التفكير أو الحسابات العقلية. الزعيم أو القائد ينسج خيطاً خطابياً يمتد من فمه إلى الحشود الهائجة، ومن جسده يعبئ قوة هائلة تتعدد فحوى رسائلها. لقد كان بينيتو موسوليني الزعيم الشعبوي الذي كان طغيانه يقف على أعمدة التاريخ الروماني القديم. نجح في أن يجعل من التاريخ العتيق قوة هائلة تعيد تشكيل العقل الإيطالي. يقف ساعات في ميدان فينيسيا بروما بعد أن يقوم الحزب الفاشي بحشد عشرات الآلاف من المواطنين. ينطلق الدوتشي في خطاب طويل وهو يصرخ في انفعال عصبي. يضع ذراعيه على صدره. يصمت دقائق، يطوف بين الأحلام التي ستجعل من إيطاليا إمبراطورية عظمى. يعلن قرارات الحرب واعداً الحشود بالنصر المؤزر. يظهر في نشاطات مختلفة؛ يشارك المزارعين في جني المحاصيل في الحقول، يندفع وسط العمال في مشروعات البناء.
أدولف هتلر، الشاويش الصغير، استطاع أن يبطل مفعول فلاسفة ألمانيا العظام، وأن يعيد إنتاج الشخصية الألمانية عبر رفع سقف التعصب الشوفيني للشخصية الألمانية. أشعل حطب الغضب الذي كدسته الهزيمة التي لحقت بألمانيا في الحرب العالمية الأولى وفرض التعويضات الباهظة عليها وتدمير جيشها. اخترع أعداء في مقدمتهم اليهود، وسخر آلته الحزبية والإعلامية لتأسيس معامل الانتقام. خطاباته التي يتداخل فيها الصوت الذي يصرخ، المندفع من فمه مع لغة الجسد المتشنج، تجعل العامة صدى يستسلم لما ينفثه الفوهرر.
في كل الحقب التي يرتفع فيها الصوت الشعبوي عبر الزعيم وماكينته الإعلامية والحزبية، يتحول ذلك الصوت إلى سوط رهيب يجلد عقول العامة، ويعبئهم في منظومات سياسية وعسكرية لتحقيق أهداف الزعيم، وعلى رأسها السلطة المطلقة. يبالغ الزعيم الشعبوي في تصوير الأخطار التي تطوف حول هوية الوطن وكيانه، ويرفع سقف الأحلام معدداً القدرات الوطنية على هزيمة الأعداء وتحقيق النصر والنهضة والتقدم... إلخ.
بعد الحرب العالمية الثانية وويلاتها الرهيبة، تراجعت الشعبوية السياسية بل والفكرية. ولدت في أوروبا عقلية جديدة ودولة بتصميم سياسي واجتماعي جديد. أوروبا الغربية تحديداً تحالفت مع الولايات المتحدة في منظومة ما عرف بالعالم الحر، في حين ارتبطت أوروبا الشرقية بما عرف بالكتلة الاشتراكية. بعد الاستقلالات التي عمت دول العالم الثالث، برزت أنظمة تبنت شعارات شعبوية مختلفة. ماو تسي تونغ، الزعيم الصيني التاريخي، حقق انتصاراته بقوة عسكرية مدعومة بسلاح الصوت الذي استطاع عبره أن يحشد ملايين الصينيين في رحلة الألف ميل. بعد وصوله إلى بكين وتكريس حكم حزبه الشيوعي أصدر كتابه الأحمر الذي جعله «تميمة» سياسية وفكرية جسدت سطوة الشعبوية الجارفة. تفنن في إطلاق شعارات وحولها إلى سياسات عنيفة من «الثورة الثقافية» التي أراد بها تغيير نمط حياة الصينيين، وأزاح الكثير من القيادات السياسية البارزة في الحزب الشيوعي، ثم القفزة الكبرى. العالم الثالث من آسيا إلى أميركا اللاتينية وأفريقيا طفت فوقه بقع شعبوية اختلفت في أصواتها وسياطها. فيدل كاسترو الذي أسقط حكم باتيستا في ثورة مسلحة، امتشق صوت الشعبوية، خطابات تستمر لساعات. يطلق صيحات الأمل والوعد بتحقيق العدالة الاجتماعية المطلقة وهزيمة الإمبريالية، كان لصوته صداه في أميركا اللاتينية وخارجها. منغستو هيلا مريام الزعيم الإثيوبي الذي أسقط الإمبراطور هيلا سيلاسي اعتنق الآيديولوجيا الماركسية، أمم كل شيء في البلاد، كان يقف خطيباً لساعات في ميدان أديس أبابا الكبير، وعندما تتعب الحشود يمنحهم ساعة للاستراحة، ويواصل بعدها خطابه الذي يطلق فيه شعارات الأمل ومقولات النضال ضد الاستعمار. انهار كل شيء في البلاد وسحقت المجاعة ملايين البشر، الذين تحول معظمهم إلى أشباح، ومن بقي على قيد الحياة لاحقه الاضطهاد والسجن، وغابت الحياة تحت قوانين الطوارئ ومنع التجول.
هوغو تشافيز رئيس فنزويلا الراحل من أكبر رموز الشعبوية بلباسه الأحمر. كان يتحدث للشعب ساعات عبر التلفزيون، ويتبادل الحديث من الناس عبر الهاتف. أطلق زخات من الوعود بالعدالة والرفاهية، قدم النفط هبة لعدد من الدول في أميركا اللاتينية، اليوم تعيش البلاد محنة المجاعة ويهرب السكان إلى الدول المجاورة بحثاً عن الخبز. في إيران مثَّل الرئيس السابق أحمدي نجاد صورة فاقعة لشعبوية هي أقرب إلى السذاجة. كان يشارك عمال البناء والنظافة في أعمالهم أمام أعين الجمهور. ينام على الأرض حتى أثناء رحلاته إلى الخارج والإقامة في الفنادق الفخمة، ويحمل معه أكله البسيط إلى مكتبه.
كل تلك الأصوات الشعبوية لم تحقق شيئاً للكادحين. تاهت تلك الأصوات وخبت، ولم تبق إلا معاناة الشعوب. الجديد اليوم عودة هذه الظاهرة بقوة في بقع أوروبية. في إيطاليا مؤخراً وكذلك في النمسا وهولندا وبعض بلدان أوروبا الشرقية. في الانتخابات الأخيرة التي جرت في إيطاليا برز حزبان شعبويان هما «النجوم الخمس» و«رابطة الشمال».. الرابطة تحركها صرخات عنصرية جهوية ضد الأجانب بل حتى ضد الجنوب الإيطالي. حزب «النجوم الخمس» الذي برز في الانتخابات يعد العامة بتسهيلات ومزايا مالية من خفض الضرائب وتقديم منح اجتماعية. البلاد تعاني من أزمة مالية كبيرة، وأخطرها الدين العام. الصوت الشعبوي في الشمال، يعلن رفضه لما يسميه بهيمنة بروكسل على القرار السياسي والمالي في أوروبا.
الشيء المضاف لهذه الحركة الشعبوية في شمال إيطاليا التي يتولى زعيمها سلفيني وزارة الداخلية، قوله إنه يريد إحصاء الغجر المقيمين في إيطاليا، سبّب ذلك ارتفاع أصوات تحذر من هذه الخطوة التي تعيد إلى الأذهان ما قام به هتلر وموسوليني في سياستهما العنصرية. خطورة الشعبوية عندما تتحول من صوت يهيج، يشعل الأخطار ويطلق فقاعات الأحلام إلى سوط يمتلك السلطة.