ريم الكمالي يكتب:
الكساد الإبداعي والبوهيمية
المبدعون في كل العالم، يواجهون اليوم كساداً كبيراً في إبداعهم، يتسبب في انزعاجهم من عدم القدرة على صنع معنى للحقائق في هذا الوجود، للحفاظ عليه فناً وأدباً، ولتتجه المؤسسات الثقافية إلى خلق ورش للتدريب الإبداعي، ورغم تأثيره البسيط في الإبداع، لكن يبقى الحل الأقرب لترويج البضاعة الإبداعية الأدبية والفنية في هذه الفترات الراكدة.
وبعيداً عن الإبداع التكنولوجي، إن ناقشنا أسباب إخفاق الإبداع الأدبي والفني، فبرأيي أنها المدينة المنظمة جداً، والقوانين الرائعة والشوارع الواسعة والأحلام التي أصبحت من الممكن تحقيقها، وبسهولة.
الإبداعات الكبرى لم تنتج إلا من مبدعين انفصلوا تماماً عن الآخرين، وعاشوا في الطبيعة مع البوهيمية الحقيقية، التي تحدها من الاتجاهات الأربعة: العمل والأمل والإبداع والشجاعة الضرورية، أو في أمكنة مبعثرة وزاهدة وحرة... ليلجأ دائماً للأزقة الملتوية والضيقة والمنازل المتهالكة، وبشر من النوع غير المستقر والتقليدي، وعلى طبيعتهم في الملبس والمأكل، بين المألوف وغير المألوف.
وبغض النظر أن المبدعين من الناحية العاطفية غير مستقرين، وعرضة لاضطرابات عديدة مع الوقت تصل إلى الاكتئاب والانفصام، لكن يتفهم البعض فيتغاضون ذلك، مهما كان تفاعلهم مع الأفراد صعباً، متجهاً للعزلة، لكي نعلم أن الإبداع والتغيير والقدرة على التفكير الحر، وكل المزايا الجديدة التي نتلقاها نحن القراء من إبداعات، لا تأتي بسهولة.
قد قرأت ذات مرة، بأن رواية "البؤساء" الخالدة، لفيكتور هوغو، كانت وليدة التأثير البوهيمي لفكر الكاتب، وكذلك بيكاسو، وما طرح من لوحات تكعيبية، صانعاً مدرسة جديدة، كان بسبب الفكر البوهيمي، وفي العالم العربي، كانت موهبة الروائي محمد شكري على الفطرة البوهيمية، في روايته الشهيرة "الخبز الحافي".
وحين بدأ المبدع الفرنسي مراقبة تلك البراري، حيث قبائل الغجر المنطلقة بلا قيود، أخذ يراقبهم ويهيم معهم، بهدف إضفاء أسلوب خاص لنتاجه من تلك الرؤى، مبتعداً عن المدن الصناعية والعالمية، حيث مطاعم النخبة والسرعة المستحيلة والمحال التجارية الباهظة الثمن... فكل ذلك مصدر قلق للمبدع، حتى وإن كان ثرياً ومقتدراً، ففي هذه الأمكنة العطرة، يكبر الكساد الإبداعي، ولا يمكن صناعة الإنتاج العميق... وإلا ما بقي الحي اللاتيني في باريس، مكاناً جاذباً للمبدعين الكبار، خاصة بعد انتشار المجمعات السكنية البرجوازية الواسعة، ليهرب المجتمع الإبداعي نحو الأحياء القديمة في باريس. الإبداع الحر والمتسع، مسافة وفكراً ولوناً، لا يتكون في مكان يبرق جمالاً، وإلا لما خرج شعراء العرب العظام من بوهيمية الصحراء الشاسعة التي عاشوا فيها، بوعي وبغير وعي.
أما الحياة البوهيمية التي عرفها أدباء فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر، وطريقة العيش لهؤلاء الرحل، فكان الحل الإعجازي لهم، وهم مأخوذون بهذه العشوائية الحرة، فالغجر ببساطتهم الفقيرة وطقوسهم الغريبة وفنونهم المختلفة... كانت لها من الخصائص التي كانت الشرارة الأولى لبداية إبداعية كبيرة، انتشرت إلى كل قارات العالم.