ريم الكمالي يكتب:

«جلجامش» وزهرة الخليج

من أكثر الملاحم متعة في تجربتي القرائية كانت ولا زالت ملحمة «جلجامش» الطويلة جداً، والهامة في تعاطيها الإنساني والفكري والأخلاقي، لكن ما يعنيني اليوم أنها الملحمة العالمية الوحيدة التي يجري جزء من أحداثها في خليجنا العربي بعد عدة مناطق في الشرق الأوسط، من خلال سرد جاذب وجميل لرحلة الملك السومري «جلجامش» ملك أوروك في حوالي 2600 ق.م وبحثه عن الخلود.

كان جلجامش ظالماً وجباراً لكنه ينهار فجأة بموت صديقه «أنكيدو» صاحب القلب الطيب، وذي الأصل البري الذي تمدّن، ليرفض دفنه لعله يحيا، حتى بدأ الدود بالتهامه، متسائلاً حينها بحزن عن فكرة الخلود، فهو لا يريد أن يموت كصديقه.

يرحل جلجامش إلى أراضٍ شاسعة وصعبة، مُصرّاً البحث عن خلوده، هادفاً الوصول إلى شخص حكيم يقترب عمره من الألف عام، ليسأله عن سر خلوده، وبالطبع فإن الأحداث لا تنتهي هنا، خاصة بعد أن أكرمه الحكيم بمواعظ خالدة، لكن جلجامش أصر على أن الخلود شيء يؤكل، ليظفر بقوله إنها عشبة أو زهرة قابعة أمام جزيرة دلمون أسفل البحر حيث الينبوع الحلو هناك.

وقبل أن أكمل هنا، فإن الآثاريين في القرن العشرين أخذوا يبحثون عن جزيرة دلمون بوصفها الجنة كما كُتِبَتْ في عدة مواقع أثرية، ليتصوروا بالحدس الجغرافي أنها ربما جزيرة قبرص، أو جزر أخرى قرب اليونان، لكنهم لم يجدوا هناك سوى آثار إغريقية ورومانية.

وهكذا حتى عثروا على دلمون صدفة، فأثناء التنقيب في البحرين تم اكتشاف أكبر مقبرة أثرية في العالم هناك. نستكمل الحكاية مع جلجامش الذي أتى إلى البحرين «دلمون» ويغوص مقابلها، ليأتي بتلك الزهرة المعجزة لأنها لا تنبت إلا في مياه حلوة وفي قاع بحر مالح.

كان سعيداً بإخراجها، وكم كانت فواحة، ليحملها إلى مدينته أوروك «الوركاء»، وحتى منتصف الطريق وأثناء استراحة يضع زهرته جانباً، لتشم الحيّة الزاحفة أريجها، وتبلعها من روعة الشذى، ومنذ ذلك اليوم والثعابين إجمالاً لا تشيخ وتجدد جلدها كل عام حتى أصبحت الحيّة ذات الصحة والعافية علامة من علامات الصيدليات في العالم كله.

عاد جلجامش إلى مدينته وشعبه بلا زهرة، متمعناً في نصائح ذلك الحكيم، وكلماته الخالدة، ليصرفها في خدمتهم، فالحياة فانية.

أعود للزهرة الفواحة والقاع العذب الذي خَمَّنَ البعض بأنه من جهة الشمال لمملكة البحرين، ليظن البعض الآخر اختفاء هذا البئر البحري مع الإنشاءات الجديدة بعد الدفن، لكننا لا نستطيع التأكد أمام القيل والقال، إلا بالبحث من جديد وبهمة عالية، فقد قيل أيضاً إن الناس وقبل عقود قليلة، كانوا يجلبون الماء الحلو من ينبوع في أسفل البحر. يبقى الماء مطلب وثروة المستقبل، والتنقيب ضروري، فما بالنا إن وجدنا نباتات عطرية ممتلئة بالطيب والشفاء هناك، ففكرة الخلود لدى الإنسان لم تمت بعد.

*البيان