أزراج عمر يكتب:

الجزائر: حزب حركة مجتمع السلم وطوباوية شعار الوفاق الوطني

إن دعوة عبدالرزاق مقري، رئيس حزب حركة مجتمع السلم (حمس) التي تقدم بها مؤخرا إلى مختلف الأطياف السياسية الجزائرية، وفي المقدمة أحزاب السلطة، للموافقة على مبادرته المتمثلة في الوفاق الوطني، تبرز أنه ليس مع مطلب تعددية أقطاب الكفاح السياسي السلمي، وليس مع مبدأ الديمقراطية الحديثة المؤسسة على تنوع الهيمنات التي تهدف إلى تشجيع سياسات التنافس لا سياسات العداء في الساحة السياسية الوطنية أو الدولية معا.

على ضوء هذا يبدو أن الممارسة السياسية عند عبدالرزاق مقري تفتقر إلى النظرية القادرة على فهم التغيرات الراديكالية التي خلخلت البنية الكلية الذهنية والسلوكية والنفسية الشعبية الجزائرية بعد فرض أمراض الرأسمالية المستوردة على مجتمع متخلف مثل المجتمع الجزائري، وبعد ترسيم حكم الرجل الواحد بدل الحزب الواحد مجددا، وهي في حاجة أيضا إلى استيعاب للسياسات الدولية الجديدة التي أصبحت تبني استراتيجياتها على المصالح المادية البراغماتية بالدرجة الأولى، خاصة بعد تراجع الصراعات الأيديولوجية الكبرى.

في هذا الخصوص يتضح أن رئيس حزب حمس يريد، بوعي أو دون وعي، القفز على حقائق الواقع الجزائري بواسطة مبادرته الطوباوية التي تدعو فسيفساء المشهد السياسي الجزائري إلى اختراع “التوافق الوطني”. علما أن المناخ العام المتحكم في المشهد السياسي الجزائري لا يتوفر فيه الانسجام بل إن السمة الأساسية التي تميز الحكم فيه على مدى سنوات طويلة هو النفي المنهجي لأي مشروع وطني يمكن أن يسهل ولادة التعددية السياسية. علما أن الانتفاضات الشعبية المتكررة التي شهدتها البلاد بعد الاستقلال وخلال ثمانينات القرن الماضي ضد النظام الحاكم كانت بمثابة دعوة ضمنية لتأسيس مجتمع لا يخضع للحزب الواحد، أو لحكم الرجل الواحد وجماعته، ولكن هذا الصنف من الحكم أصبح نمطا متكررا لم تدرس أسبابه الثقافية والنفسية والتاريخية في الجزائر حتى اليوم. في سياق تكرار بروز هذا النموذج الكلي في المجتمع السياسي الجزائري ينبغي القيام بالكشف عن أهم الأسباب الخفية التي تحرك مقري منذ وصوله إلى زعامة حزب حركة مجتمع السلم، إلى غاية إعلانه عن مبادرته الذي توجها بعقد سلسلة من الاجتماعات مع عدد من الأحزاب التابعة للسلطة الحاكمة، ومع بعض تلك التي توجد في المعارضة.

تفيد الوقائع أن مقري قد أعلن في كل اجتماعاته أن نيته من وراء دعوته إلى “التوافق الوطني” تتلخص في كونه يريد تحقيق صيغة جماعية تضمن سلاسة العمل السياسي في الجزائر، وتجنب توريط البلاد في الصراعات المتناحرة. من الجلي هنا أن رئيس حزب حركة مجتمع السلم يحاول أن يظهر أمام الرأي العام الجزائري كحمامة سلام عابرة للتناقضات الحزبية وكداعية إلى الحوار والتشاور، ولكن تأويلات عدد من أحزاب المعارضة تتهمه بأنه يسعى بشكل ملتو إلى إيجاد موقع قدم خاص به في الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2019.

لا شك أن تحركات رئيس حزب حركة مجتمع السلم تحتاج إلى تأمل عميق على ضوء المشكلات التي تطرح في الساحة الجزائرية راهنا. مثلا هناك حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (الأرسيدي) الذي يقف موقفا نقديا من تحركات مقري حيث يعتبرها مخالفة لمعايير الديمقراطية التعددية خاصة وأنها تتضمن تسويغا لتدخل الجيش في الشأن السياسي ولو في صورة مراقب وحكم عادل. أما رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي، والوزير الأول أحمد أويحيى، فيكتفي بالموافقة جزئيا على بعض مقترحات مقري الشكلية والتي يعتقد أنها تصب بشكل غير مباشر في تقوية هيمنة النظام الحاكم وتخدم التنفيس بدلا من الانفجار السياسي، ولكنه يتناقض معه في الجوهر، أي في ما يخص سيناريو الترشيح للرئاسيات القادمة الذي يقترحه رئيس حزب “حمس”، حيث يفضل أويحيى التمسك بخيار العهدة الخامسة لصالح الرئيس بوتفليقة.

في هذا السياق يطرح السؤال؛ ما معنى الدعوة إلى التوافق الوطني في ظل تفاقم الانقسامات العقائدية وفي ظل غياب مشروع وطني توافقي للتنمية بكل أشكالها وللحكم الديمقراطي معا، وما الذي يجمع بين حزب حركة حمس الإسلامي الإخواني المهيكل ضمن الكتلة الإسلامية الإخوانية الدولية، وبين أحزاب السلطة الحاكمة المؤسسة على العصبية الجهوية والحكم الفردي، أو على أساس خيار رأسمالية دول الأطراف البدائية المستوردة من الخارج والتي يستفيد منها أصلا المسؤولون الكبار في الدولة، وماذا يربطه أيضا بالأحزاب المدعوة بالعلمانية التي ترفض وجود الأحزاب الدينية جملة وتفصيلا في المشهد السياسي الجزائري.

كيف يمكن بناء التوافق الوطني على أنقاض كل هذه التناقضات العقائدية والسياسية التي تكبّل الأحزاب وتجعل المصالحة بينها أمرا شبه مستحيل؟ وفي تقديري فإنه ينبغي قراءة الوضع الجزائري ومقترح رئيس حزب حركة مجتمع السلم على أساس ملاحظة أساسية تتمثل في أن مقري يتهرب من مواجهة التمزقات الدراماتيكية التي تحدث داخل الحياة السياسية الجزائرية منذ سنوات طويلة. ولقد أدى به هذا إلى الجري وراء وهم حجز مكان له ولحزبه في مخدع السلطة الحاكمة وأحزابها وغيرها من أحزاب الموالاة.

لا شك أن محاولات مقري هذه هي ترجمة لمجموعة من الحقائق المرَة التي لا يريد أن يعترف بها، أو أن تعترف بها الأحزاب المختلفة، وكذا التيارات الإسلامية الأخرى، وفي مقدمة هذه الحقائق المحورية فشل الفسيفساء السياسي الجزائري المدعو بالمعارضة في تشكيل قطب سياسي قوي ترتكز قاعدته الصلبة على رأسمال شرائح العمال والفلاحين والشباب عبر الجزائر العميقة، وعدم استخلاص العبر والنتائج من تداعيات ما قام النظام الجزائري من كبت للحوار السياسي والثقافي والفكري منذ الاستقلال، فضلا عن قيامه بعملية إجهاض المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية عام 1992، وبتفتيت المجتمع المدني وشراء ذمم النقابات والروابط والجمعيات المختلفة.

وفي الحقيقة فإن مظاهر تذبذب الأحزاب، بما في ذلك حزب حركة مجتمع السلم، بين التأرجح بين معارضة النظام الحاكم والشراكة معه في الحكم في آن واحد، هو إسقاط نفسي لازدواجية مواقفها من جهة، ونتاج لخوفها من استخدام النظام الجزائري مجددا للقوة في التعامل مع المعارضة السياسية من جهة أخرى.

لعب هذا الإرث دورا محوريا في تحطيم الحلم الجمعي المتمثل في تداول الحكم عن طريق الانتخابات الحرة والنزيهة. وأكثر من ذلك فإن دعوة زعيم حزب حمس إلى التوافق الوطني كسبيل إلى بناء الدولة في الجزائر المعاصرة توحي لنا بأنها تفكير رغبي في محو تأثيرات أحداث مرحلة الثمانينات من القرن الماضي التي لا تزال تداعياتها تؤثر سلبيا، نفسيا وسياسيا واجتماعيا، إلى حد يمكن معه القول إن بقايا ذلك الزلزال العنيف لا تزال يحرك تناقضات الممارسات السياسية الجزائرية راهنا مثلما تتحكم في وعي ولاوعي الأحزاب الإسلامية المنقسمة إلى ملل ونحل.