عبد الرحمن شلقم يكتب:
الدنيا حبلى... ماذا ستلد؟
الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح أبواب المسكوت عنه في دنيا العلاقات الدولية. لقد قرع أبوابه بيد اقتصادية، لكن ما وراء ذلك به الكثير من السياسة والاستراتيجيات العسكرية وأدوات قوى فاعلة دولياً. الكثير من الساسة فضلوا تجاهلها أو الهروب منها ليتركوا مواجهتها لمن يأتي بعدهم. خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام اللقاء السنوي بالسفراء الفرنسيين في الخارج، فتح صندوق المسكوت عنه في العلاقات الدولية، وتحديداً بين الولايات المتحدة وأوروبا والدول الأخرى ذات القدرات الاقتصادية والعسكرية على المستوى الدولي. ماكرون تحدث بتوسع وصراحة ومباشرة تنتمي إلى مدرسة ترمب الذي يعبر بصوت عال عن ما يدور بعقله. تحدث الرئيس الفرنسي عن عالم متعدد الأقطاب، ودعا أوروبا أن تعمل على بناء منظومة للدفاع عن نفسها، ولوَّح بتشكيل دنيا سياسية وعسكرية واقتصادية جديدة، لا تكون فيها أوروبا تحت مظلة الهيمنة الأميركية.
قيل، إن الشيطان يكمن في التفاصيل، لكن كثيراً ما تكون التفاصيل أقوى من قدرة الشيطان على الدخول في فجواتها.
تعددت المعارك في العالم على مرّ التاريخ، لكن لكل حقبة أسلحتها ولغاتها ومساحاتها وقادتها. تجمعت القوى الكبيرة بعد الحرب العالمية الثانية في كتلتي الشرق والغرب تحت قيادة الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وبعد انهيار الكتلة الأولى غابت ذبذبات الحرب الباردة. ساد السلام البارد، وقامت تشكيلات دولية ذات عماد اقتصادي توجتها أوروبا بقيام اتحادها العملاق.
العولمة عنوان فرض نفسه بحكم التطور الاقتصادي والتقني وتغيير طبيعة الإنتاج والاستهلاك في العالم، وكانت منظمة التجارة العالمية المنظم المبتكر للعلاقات في عالم اقتصادي جديد. بروز قوى اقتصادية جديدة وتحديداً الصين غيرت المعطيات إلى حد غير مسبوق مما فرض معادلات جديدة. تغيرت أرقام حسابات القوة ومسارب الحركة المالية في العالم. أصبحت المعجزة الاقتصادية اليابانية نموذجاً تجاوزته الظاهرة الصينية. قدمت تجربة الصين درساً سياسياً بل واجتماعياً في الانتقال من الاقتصاد الاشتراكي المركزي إلى النشاط الرأسمالي المنضبط، في حين تراجعت روسيا التي عاشت عقوداً من الشيوعية، وسيطرة الحكومة على كل مفاصل الاقتصاد. لقد طارت الشيوعية إلى فضاء الماضي في كل من روسيا والصين، لكن العقابيل كانت مختلفة تماماً في البلدين، لماذا؟ السياسة هي القلم الذي يرسم خرائط الاقتصاد بأيدي شخصيات قيادية لها تكوين وخبرات خاصة في مراحل معينة من حركة الأمم.
الزعيم الصيني دنغ هسياو بنغ الذي خلف ماو تسي تونغ كان تكويناً صينياً خاصاً. عاش في أحشاء الحزب تحت قيادة ماو، لكن شخصية الزعيم الأحمر لم تلغِ ما وقر في أعماق تكوينه الفكري والسياسي. عاش هسياو بنغ فترة من شبابه في الاتحاد السوفياتي، وكان لتلك الحلقة من حياته أثر كبير في تكوينه. ارتقى في درجات القيادة الصينية، لكن في حمى الثورة الثقافية ضربته عصا التطهير، ونقل إلى صفوف العمال في أحد المصانع. الكبار لهم أرواح متعددة تقاوم ولا تستسلم، تستفيد من ضربات المحن. عاد هسياو بنغ إلى القيادة بعد الثورة الثقافية حتى صار الخليفة الأول لماو تسي تونغ. حرص بنغ على توطيد العلاقة مع قادة الجيش، فقد أيقن أنهم أقوى من قادة الحزب الشيوعي، وأن القرارات الوطنية الحاسمة بين أيديهم، والتغيير الشامل في البلاد لا يمكن أن يتحقق إلا بكامل موافقتهم، لذلك حرص أن يتحرك بينهم وأن يبني علاقات قوية مع مجمل طيفهم. شخَّص بنغ حالة الصين السياسية والاجتماعية، وقبل كل شيء الحالة الاقتصادية، وكتب وصفة العلاج في رأسه أولا، هي: ضرورة الانتقال إلى الاقتصاد الرأسمالي مع الحفاظ على الحزب الشيوعي ككيان تنظيمي يضمن الوحدة الوطنية ويقوم بدور الضابط الأمني، فالصين بلد ضخم سكانياً ومتعدد الأعراق، ولن يكون مكاناً لديمقراطية تعددية على غرار تلك الأوروبية.
منذ عام 1979 بدأت عبارة «الملكية الخاصة» تظهر في خطابات القادة الصينيين. وعندما قام مواطن بفتح مطعم خاص في بكين، تعرض لموجة من النقد، وصرخ بعض المتشددين الشيوعيين بأن تلك فاحشة رأسمالية بينة لا مندوحة من القضاء عليها. كانت الناقوس والومضة للزعيم الجديد، وقرّر أن البداية لا بدّ أن تكون من الأطراف وليس من العاصمة معقل العقلية القديمة، وتحرك فعلا نحو المدن والقرى البعيدة ليبدأ مسيرة التغيير الكبيرة الثانية.
في الاتحاد السوفياتي الذي كان يترنح سياسياً واقتصادياً، جاء القادم الجديد غورباتشوف، بعد أن طالت عصا العمر القادة الكبار للحزب الشيوعي السوفياتي. اهتم بتجربة الإصلاح والتغيير في الصين خاصة الزراعية، ولكن روسيا لم تشهد نفس الحالة الصينية تاريخياً. لم تعش ثورة ثقافية أو مخاض الهزات الزراعية، لذلك توجه غورباتشوف إلى الإصلاحات السياسية بتوسيع مساحة الديمقراطية تحت شعار الشفافية. اتسع الصراع السياسي وانهار الحزب وتفكك الاتحاد السوفياتي. الولايات المتحدة وأوروبا لم تكونا بعيدتين عمّا يجرى في روسيا والصين. طلبت أميركا من ألمانيا تقديم قرض للاتحاد السوفياتي بقيمة خمسة مليارات دولار، لكن ألمانيا رفضت. الصين سارت في طريق مغاير. لم تستجب لكل العروض من الغرب ولم تدخل في احتكاكات معه، وإن قبلت ببعض المساعدات الغربية.
لماذا لم يكن غورباتشوف دنغ هسياو بنغ الروسي؟
لم تكن له خبرة وتجربة سياسية كتلك التي عاشها دنغ، ولم يوطد علاقته بالجيش السوفياتي، وكانت معرفته بآلية السياسة الغربية الأوروبية والأميركية محدودة. وهكذا تكررت «قصة مدينتين» بين روسيا والصين، كتلك التي كانت يوماً بين باريس ولندن. مثلما شكلت التجربتان الفرنسية والبريطانية في عصر التغيير منعطفاً أساسياً في رسم مسار الحركة العالمية نحو صناعة عصر جديد، كانت التحولات في روسيا والصين بداية لحلقة جديد في دنيا السياسة والاقتصاد والتوازنات الاستراتيجية العسكرية الدولية الجديدة.
رغم اختلاف النتائج في كلا البلدين الصين وروسيا، فقد ساهمتا في صناعة المسمار الأكبر في تابوت الشيوعية وهيمنة الرأسمالية على الاقتصاد. تراجع دور النقابات في العالم، انتصرت رئيسة الوزراء البريطانية في معركتها مع عمال السكة الحديد، وتراجع دور النقابات في إيطاليا بعد زوال الحزب الشيوعي.
قويت سيادة رأس المال على الديمقراطية في العديد من الدول الغربية.
الدنيا اليوم حبلى، تحمل في أحشائها تطورات كبيرة. أميركا ترمب تمثل منعطفاً جديداً وكبيراً في العلاقات الدولية، مع الصين وأوروبا وروسيا وأميركا اللاتينية. الصين العملاق الاقتصادي يتحرك دولياً اقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً، بعد سنوات من التخندق الداخلي، وروسيا دخلت من أبواب الأزمة السورية إلى المشهد الدولي بعضلات جديدة، وابتدع الرئيس الأميركي دونالد ترمب سياسة «العقوبات الخلاقة»، هل ستكون هذه السياسة إعادة لإنتاج نظرية الاقتصادي جوزيف شومبيتر (التدمير الخلاق)؟ وأين ستكون الهند سياسياً وعسكرياً في السنوات القادمة؟
لقد زالت الشيوعية، وحطت الحرب الباردة أوزارها، والاتحاد الأوروبي على حافة التشقق وربما التداعي. فما هو المولود الجديد الذي يجسد المنظومة الدولية الجديدة؟ سؤال قد لا تكون إجابته بعيدة.