يوسف الحسن يكتب لـ(اليوم الثامن):
كيف نفهم أمريكا؟
أمريكا بحاجة إلى فهم وإدراك عميقين، هى أخطر من ألا نعرف كنهها، أو نترك فهمها لصور وانطباعات عابرة أو شائعة، فهمها ضرورة ملحة، فهم طبيعة سياساتها وأساليبها، ودوافعها، ونظامها السياسى والحزبى والتشريعى، فهم التركيبة الذهنية والنفسية والأخلاقية لمجتمعاتها فى ولاياتها المتنوعة، والمتغيرات الديموغرافية فى هذه الولايات، فهم دور الرئيس، سواء كان مثقفا أو حقوقيا أو ممثلا سينمائيا أو عسكريا أو تاجرا للفستق يقرأ الإنجيل ليلا قبيل نومه، أو رجل أعمال متخصص فى النوادى الليلية، أو يكره النساء إلى درجة التحرش بهن... إلخ
مثل هؤلاء الرؤساء، سكن البيت الأبيض، وجلس فى المكتب البيضاوى لسنين معدودة ومحددة، وقرأ العبارة المكتوبة فوق المدخنة (المدفأة) فى قاعة الطعام الرئيسة فى البيت الأبيض والتى نصها «أدعو السماء أن تمنح بركتها لهذا البيت، ولجميع الذين يعيشون فيه، والشخص الذى يحكم تحت سقفه، لن يكون سوى رجل شريف وحكيم».
***
أمريكا بلد محظوظ، لديه وفرة هائلة من الجغرافيا والموارد والقوة، أكثر شبابا وديناميكية من غيره، وأجرأ فى إعادة النظر فى مساراته، خال من أثقال التاريخ وأعباء التراث وحساسياته، لا يقف أمام الماضى، جاءه مغامرون ومنفيون ومضطهدون، وظل منطق الأمريكى، هو البدء من جديد، وأن كل الحقائق والحقوق تبدأ الآن، اللحظة الراهنة هى كل شىء، وكل العوائق أمامه يجب أن تزول، بشرا أو حجرا أو غابة، والتطلع إلى المستقبل واقتناص الفرص والصفقات والمصالح هى «مربط الفرس»، لا مانع من قتل أو إلغاء سكان أصليين (هنود حمر)، لا موانع أمام «استيطان» الأرض، ومن يستوطنها ويحييها هو الأحق بملكيتها، مالك الأرض الحقيقى والقانونى، ليس هو من يملك سند الملكية، وإنما هو الذى يمسك بها بقوة، لا مكان للحقوق التاريخية والأخلاقية، لا مكان للصداقات التقليدية.. أوروبا ــ الحليف الأول ــ عجوز وينبغى لها أن تتغير، وشاه إيران، المعين من قبل أمريكا، شرطيا للخليج، لا تسمح له بدخول أمريكا، حتى للعلاج، فى لحظة سقوط نظامه، كل شىء خاضع للبيع والشراء، من لحظة شراء، جزيرة مانهاتن فى قلب نيويورك، من شركة هولندية، ومرورا بشراء ولاية كاليفورنيا من أسبانيا، وولاية لويزيانا من فرنسا، وولاية ألاسكا من روسيا القيصرية، وحتى «شراء ما سمى بالسلام» فى الشرق الأوسط، بحزمة مساعدات مالية سنوية إلى مصر وإسرائيل، وما أساليب «الظاهرة الترامبية» وسياساتها وخطابها الفج، تجاه العرب والقدس والاحتلال الاستيطانى، إلا نماذج لهذه الذهنية؛ ذهنية الصفقات وغرور القوة، والابتزاز والبيع والشراء. رقصت مع ملالى إيران ومع جماعات إرهابية، «وأذنت» فى كابول، وخلقت "القاعدة" ورعت «الجهادية» الممسوخة، وراهنت على «جماعات إسلاموية» لإدارة حكم الشرق الأوسط، بما فيه تركيا العثمانية الجديدة، ووقعت فجأة فى «حب» عابر مع كوريا الشمالية، وتمردت على نظام دولى أسهمت فى توليده.. ووضعت العالم أمام كوابيس حروب تجارية وإلكترونية وفضائية وفوضى فى وقت يحتاج العالم فيه إلى استقرار وتعاون لمواجهة مخاطر بيئية وأزمات مائية وغذائية وسباقات تسلح، وهدر فى الإمكانيات، وجوع وفقر وكراهية جماعية، وإرهاب عابر للحدود الدولية، وصعود شعبويات انعزالية وعنصرية، فى أكثر من بلد فى العالم، ولم يرف للظاهرة الترامبية، جفن حينما ضحكت الجمعية العامة للأمم المتحدة، سخرية من خطاب سيد البيت الأبيض، ويذكر التاريخ أن أعضاء الجمعية العامة لم يسخروا ضاحكين يوما أمام خطاب رؤساء العالم منذ تأسيس الأمم المتحدة، وحتى حينما خلع الرئيس السوفييتى الأسبق خروتشوف حذاءه، وضرب به طاولة اجتماعات الجمعية العامة فى مطلع الستينيات، ولا حينما مزق القذافى نسخة من ميثاق الأمم المتحدة...إلخ.
***
العقلية الأمريكية السائدة منذ قرنين ونصف القرن مستعدة دائما أن تتقدم لأى مشكلة فى العالم بمقترحات لإدارتها، لكنها فى معظمها غير محكومة بثوابت أو بحقوق تاريخية أو إنسانية، وعلى سبيل المثال؛ قدمت شركة أمريكية مشهورة، مشورتها قبل عقود، إلى المملكة العربية السعودية لمعالجة أزمة الازدحام فى موسم الحج، واقترحت أن يجرى الحج مرتين فى العام بدلا من مرة واحدة! كما قدم الرئيس الأمريكى الأسبق كلينتون، مقترحا للفلسطينيين مفاده؛ إطلاق اسم القدس على مدينة فلسطينية أخرى، كما اقترح حلا لما يسمى بالهيكل اليهودى، من خلال بنائه فوق أعمدة مرتفعة وسط ساحة الحرم المقدسى، مبررا ذلك، بأن الهيكل سيبنى فى الهواء وليس على الأرض، وأن الفلسطينيين سيحصلون على شىء من رسوم الزائرين والسياحة الدينية.
كل شىء خاضع للمساومة، والبيع والشراء، ولنظرية المصالح أساليب ووسائل ابتزاز مبتكرة، ولا حسابات أخرى للخطابات والسياسات الأمريكية، سوى الرأى العام الشعبوى الأمريكى، لا تعنيها المجتمعات المحلية الخارجية، ولا انعكاسات هذه الخطابات الاستفزازية على هذه المجتمعات واستقرارها وازدهارها.
الظاهرة الترامبية، ظاهر فاقعة فى الفضاضة والفجاجة والنزق، أنتجتها ظروف وأوضاع أميركية معروفة؛ يمين إنجيلى أصولى متطرف، مؤمن فى رؤية أسطورية تنتظر حربا كونية (هرماجدون) بين (الخير والشر)، وضجر شعبى من نخب سياسية حاكمة فى أميركا، وغاضبون بيض فى ولايات الجنوب وأرياف ولايات أخرى.
ظاهرة فيها الكثير من العنجهية والسوقية، تسببت فى إحداث خلل فى معايير وآداب الرئاسة والدبلوماسية، وإرباك لأصدقاء تقليديين لأمريكا فى أوروبا والشرق الأوسط... قبل وبعد الترامبية، نحتاج إلى فهم جديد وإدراك رشيد لهذه «الأمريكا»، لإنها أكبر وأخطر من أن لا نفهمها.