خير الله خير الله يكتب:
نتانياهو في عُمان... البعد الإقليمي
عاجلا أم آجلا، ستأخذ قضية المواطن السعودي جمال خاشقجي حجمها الحقيقي في ظل الأحداث الكبيرة التي تشهدها المنطقة في هذه الأيّام. كان آخر دليل على ذلك استقبال السلطان قابوس لبنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في ما يبدو أنّه وساطة بين إيران وكلّ من إسرائيل والولايات المتحدة.
هذا لا يعني أنّ هناك ما يبرر بأي شكل من الأشكال قتل جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول أو خارجها. لا يمكن للقتل أن يحلّ أي مشكلة في أي دولة في العالم وهذا ما تعرفه السعودية قبل غيرها. قتل النظام السوري ما يزيد على نصف مليون مواطن سوري ولا تزال أزمة النظام قائمة ولا حلّ لها، ولا بداية حلّ في سوريا، من دون رحيل النظام بكلّ رموزه.
ما حصل على صعيد قضية جمال خاشقجي كان أسوأ من جريمة. ما حدث كان خطأ سياسيا يصعب إيجاد تفسير له باستثناء القول إنّه فعل هواة لديهم علاقة بكلّ شيء باستثناء العمل الأمني والاستخباراتي والسياسة بشكل عام.
المملكة العربية السعودية ليست دولة بوليسية. ولكن بعد قتل جمال خاشقجي في قنصلية إسطنبول، كانت هناك إساءة إلى المملكة من جهة وفتح الأبواب أمام كلّ نوع من أنواع المبتزّين الذين يريدون تصفية حساباتهم معها من جهة أخرى.
هناك بالطبع من يتحمّل مسؤولية ارتكاب كلّ هذه الكمّية من الأخطاء في فترة زمنية محدودة قصيرة جدّا. كلما حصل إحقاق العدالة سريعا، كان ذلك أفضل، أقلّه من أجل الحد من الأضرار الناجمة عن الخطأ السياسي الذي ارتكب والذي هو “أسوأ من جريمة”. هذا التعبير هو لجوزيف فوشي، وزير الشرطة أيّام نابوليون، في وصفه لتنفيذ الإعدام بأحد أفراد الأسرة المالكة في فرنسا بعد القبض عليه داخل الأراضي الألمانية.
نفّذ الحكم سريعا في حين كان مطلوبا التحقيق مع هذا الشخص لمعرفة ما الذي كان يدور بين مجموعة من خصوم نابوليون. كان أفراد هذه المجموعة يعدّون شيئا ضدّ نابوليون في مرحلة ما قبل تتويج نفسه إمبراطورا. كان مطلوبا، وقتذاك، إحضار الرجل المعني وليس تنفيذ حكم الإعدام به بعد محاكمة صورية. لذلك جنّ جنون فوشي الذي قال عبارته المشهورة “إنّه أسوأ من جريمة، إنّه خطأ”.
المهمّ الآن، أن يأخذ العدل مجراه وأن تظهر الحقيقة في وقت هناك حاجة كبيرة إلى لملمة الوضع العربي والمحافظة على كلّ ما تمثله المملكة العربية السعودية من قوّة قادرة على إيجاد نوع من التوازن على الصعيد الإقليمي.
هناك حاجة ماسة إلى أن تكون السعودية قويّة في ضوء الخلل الكبير الذي يعاني منه الوضع الإقليمي في ضوء سقوط العراق في العام 2003 والانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الإيراني الذي كشف عن وجهه الحقيقي في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وفي كلّ بقعة تستطيع إيران بلوغها إن مباشرة أو عبر ميليشياتها المذهبية.
تلك الميليشيات التي تشكّل امتدادا لسياسة إيرانية تقوم على الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية، فضلا عن تدمير المجتمعات العربية الواحد تلو الآخر بدءا بالقضاء على المدينة العربية.
ليس صدفة ما لحق بحلب وحمص وحماة ودمشق، وقبل ذلك ببيروت وبغداد والبصرة والموصل. لا شيء يحدث بالصدفة، هناك مشروع توسّعي إيراني تلعب السعودية دورها في التصدي له. لذلك، لم يكن مسموحا بارتكاب هذا الخطأ السياسي، عندما جرى تنفيذ عملية اغتيال لجمال خاشقجي بما يخالف أبسط القواعد الإنسانية وبما يدلّ على أن المملكة العربية السعودية لا تتقن تنفيذ مثل هذا النوع من عمليات الاغتيال في الوقت ذاته.
جاء الخطأ في وقت تستعد فيه الولايات المتحدة لفرض عقوبات جديدة على إيران. ستكون هذه العقوبات التي لا تتناول إيران فقط، بل “حزب الله” في لبنان أيضا من النوع الذي سيفاجئ الإيرانيين.
لن يعود أمام “الجمهورية الإسلامية” التي أسسها آية الله الخميني في العام 1979 من خيارات غير الدخول في مفاوضات حقيقية وفي العمق مع الولايات المتحدة… أو خوض مواجهة معها. هل زيارة نتانياهو لقابوس بداية المفاوضات الأميركية – الإيرانية التي لا يمكن لإسرائيل أن تكون بعيدة عنها؟
في مرحلة ما بعد العقوبات الأميركية التي يبدأ تطبيقها في الخامس من تشرين الثاني – نوفمبر المقبل، ستدخل المنطقة مرحلة جديدة، لا لشيء سوى لأن الولايات المتحدة قرّرت الذهاب بعيدا في التصدي للمشروع التوسّعي الإيراني.
يبدو أن إيران أدركت مدى الجدّية الأميركية… فوسّطت سلطنة عُمان مجددا. لعبت السلطنة دورا في بداية المفاوضات التي أدّت إلى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني في عهد باراك أوباما.
هناك للمرّة الأولى إدارة في واشنطن تعرف تماما أين تكمن المشكلة مع إيران. هذه المشكلة ليست في الملفّ النووي الإيراني الذي كان خدعة لجأت إليها إيران للتغطية على سلوكها الإقليمي.
المشكلة في السلوك الإيراني. لا يقتصر هذا السلوك على ممارسة القمع داخل إيران نفسها، بل على قمع الشعوب العربية أيضا. ما الذي تفعله إيران في لبنان؟ ما الذي تفعله في سوريا؟ ما الذي تفعله في اليمن؟ ما الذي تفعله في العراق حيث عاقبت حيدر العبادي ومنعته عبر ميليشياتها من العودة إلى موقع رئيس الوزراء. كلّ ذلك لأن العبادي اعتبر أن لا مصلحة للعراق في مساعدة إيران في الالتفاف على العقوبات الأميركية التي سيبدأ تنفيذها قريبا.
هذا ليس وقت الانضمام إلى المصفقين للمشروع الإيراني والداعمين له من أجل الانتقام من المملكة العربية السعودية. نعم حدث خطأ لا يمكن السكوت عنه بأي شكل قبل الاقتصاص من الذين تسبّبوا به. الجريمة التي ذهب ضحيتها جمال خاشقجي مدانة بكلّ المقاييس. لكنّ ما لا يمكن تجاهله في المقابل أنّ المنطقة مقبلة على أحداث كبيرة، بدليل زيارة نتانياهو لسلطنة عُمان. تبدو كلّ دولة من دول المنطقة أمام خيارات حاسمة تفرض وجود نظرة شاملة إلى الوضع الإقليمي. مثل هذه النظرة لا يمكن إلاّ أن تأخذ في الاعتبار الحاجة الماسة إلى المملكة العربية السعودية التي تحولّت إلى رأس حربة في المواجهة مع المشروع التوسّعي الإيراني.
في نهاية المطاف، ستكون الإدارة الأميركية بدورها أمام اختبار جدّي. هل تذهب إلى النهاية في المواجهة مع إيران من أجل إعادتها إلى دولة طبيعية من دول المنطقة؟ هذا السؤال سيطرح نفسه عاجلا أم آجلا بغض النظر عن تلك الفضيحة التي سمحت لهذه الدولة أو تلك بممارسة لعبة ابتزاز لا وجود سوى لمستفيد وحيد منها هو إيران.
كلما سارعت المملكة العربية السعودية في الاقتصاص من الذين أوقعوها في فخ قتل جمال خاشقجي، كان ذلك أفضل. لا يتحمّل الوضع الإقليمي مزيدا من الضعف العربي في ظلّ الاندفاعة الإيرانية وفي ظلّ الوضع المعلّق لكلّ من العراق وسوريا ولبنان واليمن. هناك حاجة، أكثر من أيّ وقت، إلى المملكة العربية السعودية وإلى سياسة حكيمة بعيدا عن الاندفاع في عالم يتغيّر يوميا…