نبيل الصوفي يكتب :

متفائل بعودة الناس.. “السويد” تصلح ما أفسده “موفنبيك”؟

عنّي أشعر بالتفاؤل..
لقد وصل التشاؤم بي مداه وأنا في صنعاء.. لقد كُنّا نراهن على سباق “مقامر” أننا “قد” نرد للحوثي بعضاً من عقل ووطنية ودين.. وأننا سنحمي شيئاً من الماضي، أيّ شيء، كان كافياً لإقناعنا أن وطننا سيكون بخير وسيتسع هذا القليل من الشيء.

ومع مقتل “خالد الرضي”.. وما عشناه من لحظات عاصفة وصل بي التشاؤم ذروته، ويوم الثالث من ديسمبر كانت آخر أنفاس التفاؤل تذبح في وريدي، فكلّما قامرت بالبقاء محاولاً فيه من مواقف تلفظ أنفاسها الأخيرة.. ليس هذا مرتبطاً باستشهاد “الزعيم علي عبدالله صالح”، الرجل الذي عرفت منه نسخة لم يعرفها كل الذين عاشوا معه وهو بين جنبات الدولة وهيلمانها.. أنا لم أعرفه إلا وقد صار مواطناً، كل قوته هي في ذاته هو، مجرداً من كل ما عداها، رحمه الله وجمعنا به في مستقر رحمته.

فحتى لو انتصرنا على الحوثي، بتلك الطريقة وتلك النهاية، فما كان سيتغير شيء من تشاؤمي، لقد اتخذت قراري في 2011، مدركاً أنها المقامرة الأكبر في حياتي، أبني عليها وجوداً لا يشبهني ولا أشبهه، لكنها مقامرة المضطر إن نجح سيستعيد كل ما خسره من علاقات ومواقف، وإن فشل فهو، حينها، سيشبه وطنه المنهار.

من يتابعني سيتذكر أني غردت تعليقاً متحسراً ومدركاً مآلاً متوقعاً من خطاب الزعيم يومها، فالرجل كان “يداعي” “دولة ما قبل 2011” لتعود إلى الحياة.. مع أنه هو بنفسه قال في ذات الخطاب بما معناه “أما أنا فقد انتهيت”.. فقلت له: ليس هكذا.. ليس هذا ما سيكون طريقاً، حتى لو انتصرنا.
فكيف يمكن لتلك الدولة أن تعود، وقد انتهت إلى تلك الكشيفة من التحالفات المتناقضة المتصارعة الوقتية العبثية التي تُوّجت باتفاق السلم والشراكة، بل وإلى أن اضطرت السعودية والإمارات، لإرسال طائراتها لتقصف ما كان ملكاً للجمهورية اليمنية، وآل -فجأة- للذراع الإيرانية، وكِيلة القلق في المنطقة كلها.

قلت للعميد طارق صالح، يومها: “لو صمدنا يومين آخرين، سيكون هذا إنجازاً كبيراً”.

قلت في نفسي، حينها، ربما أن الصمود في قلب صنعاء، التي صارت دولة حوثية خالصة طردت من جوفها كل ما له علاقة بالجمهورية اليمنية، ديناً وثقافة ووطنية.. وأفراداً ورموزاً، وحتى ألواناً. فلم يعد لصنعاء من لون سائد إلاّ لون الرايات الخضراء والحمراء والصفراء، ألوان الطائفية في المنطقة كلها..

هذا الصمود، قد يقود لحوار بين طرفين: الجمهورية اليمنية، ودولة الجمهورية الطائفية الإمامية..

لعلمكم، هذا هو ما يحدث اليوم في السويد.. حوار بين دولتين: الجمهورية اليمنية، التي إما أن من يمثلها تائه شريد، أو أنه يخدم الأجندة ذاتها التي خدمتها ساحات 2011، مع كل تقديري للناس والشعب والقوى.. فأنا أتحدث عن “المدير” الذي يجعل كل شيء أحجاراً على رقعة الشطرنج.
والطرف الثاني، هو الجمهورية الطائفية الإمامية، ذراع إيران للقلق في المنطقة.

وقد كنت أقول، ربما أننا لو صمدنا في صنعاء يومين، حتى يقتنع التحالف بدعمنا، ويفرض على حلفائه اليمنيين عدم تكرار الإخفاق في 2012 الذي حدث بسبب خوفهم وكراهيتهم وحقدهم وعجزهم تجاه “علي عبدالله صالح”.
لكني لم أكن أرى ذلك هو الأمل.. لكنه، على الأقل، سيكون تحولاً أقل كلفة على “صنعاء”..

وشاء الله أن تسير الأمور باتجاه آخر، ويستجيب لـ”الزعيم”، فيخلده شهيداً يشبه بلاده التي كلما بذلت جهدها لتجنب الحرب مع الحوثي زاد صلفهُ عليها.. لكأنَّ القدر يقول إن اليمن التي تتجنب الحوثي، لن تحاربه.. وإذا يغري الحوثي بمزيد من الصلف حتى يصل الناس إلى القطيعة الكاملة مع كل ما يجعلهم يمنحون “الحوثي” حتى مجرد التحية بدون محبة.

وأنا في طريقي من صنعاء.. استحضرت كل ما قرأته في مذكرات الشاردين من “الإمامة”، وكانت وجهتي واضحة في مخيلتي.. الطريق إلى “الحبشة”.. وحدَّثت يومها “حسين المقبلي”، الذي سجّل هروبه متراً متراً.. قبل 80 سنة على الأقل، وبالطبع قلت لروحه إني هارب من حطام دولة أضاعها الجيل الجمهوري الوطني القومي، ولست أشبه اليمني المسكون في “الباله” التي خلّد بها مطهر الارياني وعلي السمه تاريخاً عظيماً من جهاد اليمنيين ضد الإمامة.. فنحن سبب ولسنا مناضلين بعد، لكن الطريق واحد.. نستعيد العلاقة بأهلنا في أثيوبيا التي خربها الغزو الفارسي الأول الذي جاء يقول إنه يعيد الحكم لليمني الشبواني ”سيف بن ذي يزن”.

هل ترون حجم التدافع الذي في مقالي؟ أنا عاجز عن السيطرة على هذا الجدل بين مشاعري وعقلي، يحتار قلمي بينهما فيكتب ما ترونه هنا من عصفٍ كأنّه موجُ بحرٍ هادرٍ لا يستكين.

اعذروني.. فأنا أحمل ما ينوء بحمله كاهل مشاعري، يمني أنا، يريد أن يتحدث عن التفاؤل بعد أن ينعي بلاده.

أعود للبداية.. واليوم وأنا أرى كل هذا التبشير الإعلامي الدولي بـ”السويد”، أشعر بالتفاؤل جارفاً يجتاح وجداني المجهَد.

منذ الثالث من ديسمبر، لم أرَ تفاؤلاً كما أراه اليوم.
منذ فجر اليوم الخميس، أي بعد عام وعشرة أيام بالضبط من ذلك التاريخ، لم أشعر بالتفاؤل كما أشعر به اليوم.. لا يحتاج الأمر شرحاً كثيراً، فيكفي أن أضعكم أمام الخدمة الإعلامية الرهيبة للأكاذيب عن “قرب ميلاد دولة السلام اليمنية”، ثمّ أطالبكم، هاتوا لي صفاً واحداً متفائلاً يصدق هذا الإعلام.

يا سادتي، هكذا حدث في الفترة من 2012 وحتى الـ2014، كان المبعوث الأممي الأول، جمال بن عمر، يسوق الأكاذيب ويروجها الإعلام عن “بدء عهد الدولة اليمنية التي “لم يُخلق مثلها في البلاد”، ومع أن كل المؤشرات تقول إنه إما دجّال، وحاشاه.. أو أنه يخدم “مشروعاً مجهولاً”، ولست أبداً من مناصري “المدير المخبئ” الذي يخطط للعالم ويسير كل شيء وفق ما يريد، عندي “الله” وحده هو على ما يشاء قدير، وإن آمنت بغيره فسأكون من المشركين.

وإذا لم يبقَ إلا أن جمال تكنوقراط “من أهل الكتاب”، أهل “البوك والدفاتر”.. مثله مثل ممثل مسرحي “فذّ” يقرأ ما في الأوراق ثم يحسن التعبير عنها.. هكذا يفعل “جريفث” وبما لا يمكن قياسه مع جمال، وكل منهما يتحمل وزره كاملاً “جمال” أهلك دولة قائمة، وجريفيث يسحق شرعيتها المهترئة.. ويجعل الحروب اليمنية اليمنية الآن مفتوحة كأننا في البدء والمفتتح.

ولكن تفاؤلي، أن اليمنيين كانوا من قلوبهم يصدّقون بن عمر.. كرّروا كل ما قاله، وهو أصلاً يكرّر ما تقوله أطرافهم هم، وتاهت الدولة اليمنية بينهما..

أما اليوم، فلم يتبقَ لجريفيث إلا طرفان: الأول الموظف الرسمي، الذي حتى وهو يبتسم معه ترى المرارة في عينيه، ثم الإعلام الدولي.. حتى موظفي الأمم المتحدة الذين كان اسمهم في “موفنبيك” أعضاء مؤتمر الحوار أو الأمانة العامة، لم يعودوا قادرين على شيء.. وهنا يا سادتي يرفع تفاؤلي رمشه لأول مرة منذ 2011..

أرى طرفاً يمنياً جديداً يتشكل من بين ركام رماد أطراف وأكاذيب وصدق وصراعات وصواب وخطأ كل ما مضى.. طرفاً يتحسّس بذاتية، من انتهت أطماعه إلا من بلاد يعيش فيها.

لم تعد الوظيفة كافية، لأننا اليوم بلا وطن.
فقدان الوطن، ليس أمراً هيناً مهما قالوا وقلنا.. ليس بيدنا أننا نحب ما نخلق منه وفيه، هذا وعي باطن عمره بعمر تراب الأرض لا بعمر الأجيال، فضلاً عن عمر الآحاد مننا.

اسألوا الفلسطينيين وهم سيخبرونكم كيف أن أرواحهم مهما تزيّنت، وجيوبهم مهما زاد ما فيها من مال، تشعر بالتوهان.. يصبح الشال الفلسطيني رمزاً كأنه “حرز”..

واليمني الذي تشظّت نفسيته كشعب بسبب الصراعات الحزبية طيلة عشرين سنة، وصل في 2012 إلى ذروة التشظّي، فسار بعد “أكاذيب ” المجتمع الدولي.. ولم يعد لديه اليوم متسع..

آخر ما يشوش هذا الشعب، هو “حطام نظام علي عبدالله صالح”، المسمى شرعية، وها هي السويد تهيل التراب عليه، سواءً تم الاتفاق أم لا.. حتى التحالف، صار مرهَقاً من شرعية “الفرقة الأولى مدرع وجلال هادي”. يريدون حليفاً يمنياً يستحق أن يتحالفوا معه.

ويمكن لمكونات داخل الشرعية نفسها إعادة تقييم دورها والمرحلة التي نعيشها، والتفكير في توجهات الناس وإعادة ترميم الشرعية وعلاقاتها الداخلية والإقليمية والدولية.. صحيح أن “صنعاء” ستواصل معاناتها تحت سلطة الحوثي، ولكن أصلاً هذه العاصمة لا تعود إلا لصف وطني جديد، مبرأ من صراعات الأطماع السلطوية.
صف يمثل مواطنيه لا أطماع قياداته..

توحدنا السويد كمواطنين.. وعلينا إعادة إنتاج قيادات تمثل لحظتنا لا أطماعنا.. مستقبلنا لا ماضينا..
ولله الأمر من قبلُ ومن بعد..