عبدالوهاب بدرخان يكتب:
اتفاق الحديدة.. أين إيران؟
أين ايران؟.. طرح السؤال نفسه في ريمبو بالسويد لحظة الإعلان عن اتفاق هو الاختراق الأول من نوعه في النزاع الداخلي- الإقليمي في اليمن. لا لبس في نصوص الاتفاق وروحه، فالجديد الذي جاء به كان قبولاً «حوثياً» ببداية عودة الحكومة الشرعية. إلى أين؟ إلى الحديدة التي لم يبقَ أحد إلا اعتبرها مفتاح النهاية للحرب، حتى لو ألزمت فضيلة الشك الأمين العام للأمم المتحدة باعتبار ما تمّ من اتفاقات «بداية النهاية». ذاك أن الانسحاب من المدينة والموانئ الثلاثة يعني أن الحوثيين غلّبوا الواقعية، للمرّة الأولى، على العناد والعقائدية. وما كانوا ليفعلوا لولا الضغط العسكري، وليس فقط الضغط الدولي الذي أحاطهم به المبعوث الدولي وما لبثوا أن استشعروه لدى وصول وفدهم إلى السويد، وكانوا قبل ذلك فهموه من تشاورهم مع طهران. وكان عليهم إدراك أن الحرب يمكن أن تستمر لكن إيران لم تعد قادرة على إعادة تأهيل الورقة «الحوثية» المحترقة أو إنعاشها، خصوصاً أنها راكمت الخسائر طوال عامَين ونيّف، أي منذ دفعت طهران «الحوثيين» إلى تعطيل فرصة مشاورات الكويت.
لم يكن أداء «الحوثيين» هذه المرّة مبادراً إلى المماطلة والتسويف إضاعةً للوقت أو لكسبه، بل على العكس أراد المضي أبعد من أجندة «مارتن غريفيث» وبوتيرة أسرع. غير أن القاعدة في مفاوضات كهذه هي لبناء الثقة ثم لاختبار هذه الثقة، فما كلّ ما يُوقّع عليه يكفي بل ينبغي أن يقترن بالتزامه وتنفيذه، إذ يصعب الركون إلى طرف ميليشاوي لا يعترف بأي قوانين أو مواثيق دولية، وهو فوق ذلك استغلّ مسالمة مواطنيه ولم يتردّد في ترهيبهم وترويعهم بعدما استتبّت له السلطة، إلى أن غدا أخيراً طرفاً مهزوماً. تأخر «الحوثيون» كثيراً في وعي ما حصل في مناطق سيطرتهم، فالناس لم يقبلوا بسلطتهم وإن سكتوا لأنها أُفقرت وأُضعفت وأُغرقت في الهموم اليومية لمجرد البقاء لها على قيد الحياة وإنقاذ أطفالها من خطر الموت جوعاً. وتأخروا أيضاً في استيعاب الانعكاسات السلبية لاغتيالهم الرئيس السابق وانقلابهم على حلفائهم في الداخل.
بموجب اتفاق «ريمبو» يُفترض أن تتحوّل الحديدة من معركة مفصلية بين الشرعية والانقلاب إلى اختبار حاسم لسلوك «الحوثيين»، وقد ألحّوا خلال مشاورات السويد على مناقشة إطار اتفاق شامل، لكن طلبهم رُفض من الحكومة الشرعية والمبعوث الأممي. أرادوا أن يتعرّفوا إلى ملامح الحل السياسي وفرض شروط مسبقة عليه ليتمكّنوا من رسم سقف التنازلات التي باتوا مُتيقّنين بأنهم مقبلون عليها، لكن كل ما حصلوا عليه تأكيدات بأن يكون لهم موقع في المشهد اليمني، وهو ما لم تنكره عليهم الحكومة الشرعية رغم أنهم تنكّروا لها وتمادوا في الإجهاز على الدولة ومؤسساتها. ولا شك أن أكثر ما دهمهم أنهم تعرّفوا للمرّة الأولى إلى معنى أن توجد إرادة دولية لإنهاء الحرب، وأن تكون هذه الإرادة مستندة إلى دعم من التحالف الداعم للشرعية، وبالتالي فإن تمرّدهم عليها سيكون مكلفاً جداً.
سقط إذاً خيار الحرب الدائمة، التي بلانهاية، وارتسم خيار الفوز «بالسلامة» ولو على انقاض يمنٍ مكلومٍ ومنهكٍ. وبطبيعة الحال لا تزال هناك المراحل الأصعب التي قد تتطلّب مزيداً من جولات القتال، غير أن كل سلوك حوثي مناقض لاستعادة الدولة وإعادة الإعمار سيؤثّر في وضعهم المستقبلي. وإذا التزموا اتفاقي الحديدة وإطلاق الأسرى فإنهم يضمنون دخولاً آمناً إلى مشاورات الحل الشامل الذي لم يعد باستطاعتهم أن يطمعوا، كما فعلوا في الكويت، بما لا يتناسب وحجمهم بين المكوّنات اليمنية. أما إذا تلاعبوا وأخلّوا بالاتفاقين في التنفيذ، وهذا وارد، بتحريض إيراني أو بغلبة متشدّديهم، فإنهم يجازفون بتعزيز الإرادة الدولية ضدّهم، لأن أكثر العواصم اندفاعاً لإنهاء الحرب لا يراهن عليهم أو على تجربتهم.
تختبئ إيران وراء «الحوثيين» لئلا تُسلّط الأضواء على هزيمتها في اليمن، توحي بأن ما يفعلونه يعبّر عن حرّ إرادتهم ولا علاقة لها بخياراتهم. لعلها لم تقل كلمتها الأخيرة بعد، أو أنها تنأى بنفسها لئلا تُلفت أتباعها إلى أنها تسهّل بدورها إعمال الإرادة الدولية من دون أن تنال أي مكسب في المقابل. إيران هُزمت في اليمن منذ اللحظة التي انطلقت فيها «عاصفة الحزم»، إذ كانت قبلها تأمر أتباعها فينفّذون من دون أن يتصدّى لهم أحد. وكان بإمكانها أن تواصل حض «الحوثيين» على القتال إلا أن تغيّر أحوال إيران نفسها أجبرها على الرضوخ للواقع.