هاني مسهور يكتب:
المسكوت عنه.. إعلام الشرعية اليمنية المخطوف
لطالما كان الإعلام اليمني موصوفا بالحدة في تعاطيه مع الجانب السياسي وهي صفة متلازمة لها خلفيتها في تكوين الطبيعة السياسية اليمنية، سواء ببعدها الجنوبي والشمالي على حد سواء، فالإعلام بطبيعة الحال هو انعكاس للحالة السياسية ومع أن الخلفية الأعمق للصحافة تحمل أبعادا أكثر عمقا والتزاما خاصة لدى الصحافة العدنية والحضرمية بشكل واضح، فلقد عرفت الصحافة العدنية تقدما خلال حقبة الخمسينات من القرن العشرين نتيجة ظروف سياسية كانت هي المحفز لبروز الصحافة في عدن التي كانت تحت الاستعمار البريطاني.
ومع ظهور الحركة الوطنية التي كانت تتحرك فيها بنشاط رابطة الجنوب العربي كانت الصحافة ذات حراك وتأثير واسعين، فكل المنتمين للحركة الوطنية حتى الذين هم من خارج الرابطة كانوا من طبقة الأدباء والشعراء والمحامين وهو ما انعكس بشكل كبير على الصحافة العدنية. يقابل ذلك الصحافة في حضرموت وتحديدا في نطاق السلطنة القعيطية حيث شجعت السلطنة الجانب الصحافي مما أثر على بروز الصحافيين الحضارمة. ولتأكيد ذلك فلقد انتقل هذا الحضور المحلي إلى الصحافة السعودية بعد أن التحق عدد وافر من كتاب الصحافة في عدن وحضرموت بالصحف السعودية في مطلع نشأتها وعملوا في تأسيس المدرسة الصحافية السعودية، وهي التي عرفت برصانتها وصلابتها وتأثيرها على مدى العقود التالية للتأسيس، فالصحافة السعودية نشأت على أسس الالتزام بمعايير تقليدية متماسكة ظلت سمة من سماتها.
هذه الخلفية مهمة وضرورية لما سيأتي في مضمون المقال. ففي الجانب الآخر لم تكن هناك قوة صحافية لدى شمال اليمن نتيجة سنوات الحكم الأمامي وإن كان شاعر اليمن عبدالله البردوني يمثل بحد ذاته المسار الإعلامي لليمن الشمالي بحضوره الذاتي وهيئته الشخصية التي كانت تمثل بشكل كبير حالة اليمن. فمع نبوغه الأدبي كان كاتبا صحافيا له سياقه والتزامه الذاتي، وإن لم تظهر في شمال اليمن مدارس صحافية واضحة المعالم غير تلك المتعلقة بالأيديولوجيا المتأسلمة والتي كانت تعبر عن تنظيم الإخوان المسلمين، وإن كانت بداية الثمانينات الميلادية مرحلة ظهور الصحافة الحزبية التي جاءت بعد إقرار الميثاق الوطني في الجمهورية العربية اليمنية.
تحوّل اليمن منذ الوحدة في العام 1990 إلى تشكيلات صحافية عرفت انضباطا سلوكيا في مسارات محددة، بينما ظلت العشوائية سمة أكثر ظهورا فلقد بلغت التجاوزات تحريف آيات من القرآن الكريم للتعبير عن قدسية الوحدة ومناهضة دعوات انفصال الجنوب، في حين كانت صحف الإخوان المسلمين تغذي المجتمع بمواد متصلبة مصدرها جامعة الإيمان والتي يرأسها عبدالمجيد الزنداني وكانت تبرر العمليات الانتحارية في فلسطين وأفغانستان وحتى هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، فلقد كانت تلك الصحف تمنح منفذي العمليات الإرهابية أوصافا بطولية لم تتوقف إطلاقا حتى مع ظهور القنوات الفضائية التي تحوّلت إلى منصات لم تعرف الانضباط الإعلامي.
وفي ما يسمى ثورة فبراير 2011 ظهرت الأذرع القطرية في الإعلام اليمني، التي كانت قد استقطبت عددا وافرا من الإعلاميين الموالين لحزب التجمع اليمني للإصلاح، وعلى غرار ما حصل من التهييج الإعلامي في مصر وليبيا وتونس حظيت اليمن بنصيبها الوافر من خلال قناة الجزيرة وما كانت قد أسسته في إطار تحضيرات قطر لموجة الربيع العربي من قنوات فضائية يمنية، فلقد منحت قطر للناشطة توكل كرمان الملايين من الدولارات لتأسيس كيانات إعلامية مركزها في تركيا، وبدأت في ضخ المئات من التقارير لتأييد ثورة فبراير ومعاداة الجوار العربي.
بعد انطلاق عاصفة الحزم مباشرة تم تأسيس رابطة الإعلاميين اليمنيين بغالبية من المنتمين لحزب الإصلاح وقدموا أنفسهم للسلطات السعودية على أنهم داعمون للموقف السعودي، ولكن سرعان ما تمّت إعادة تشكيل وزارة الإعلام اليمنية بسيطرة حزبية واضحة منعت الجنوبيين غير قلة لا تملك رصيدا إعلاميا بقدر ارتهانها للمال الذي كان عاملا في شراء الولاءات، غير أن الأهم كان بعد الانقلاب الأبيض الذي أطاح بحكومة خالد بحاح وجاء برئيس الوزراء أحمد بن دغر الذي جاء بخلفيته الماركسية عندما كان مسؤولا عن قطاع الفلاحين بعد استقلال اليمن الجنوبي، وعمل على استقطاب مجاميع واسعة من أشباه الإعلاميين ومنحهم مناصب ووظائف حكومية مقابل تضليل الرأي العام اليمني بشكل رئيسي وعدم لفت النظر إلى إخفاقات حكومته السياسية والاقتصادية والعسكرية.
انتهج الإعلام اليمني نفس الأسلوب المنهجي الذي تعمل عليه قطر، فما بعد المقاطعة العربية للنظام القطري ظهر التباين الواضح في أداء وسائل الإعلام الحكومية بالنسبة للشرعية اليمنية، وظهر ذلك بوضوح عندما تم افتعال أزمة سقطرى ومن بعدها الأزمات المتوالية في المهرة وتعز وحضرموت وعدن، وكانت المنهجية الإعلامية التي كان يشرف عليها أحمد بن دغر تقوم على محاولة فك ارتباط السعودية بالإمارات كهدف استراتيجي للنظام القطري، ومن خلفه النظام التركي بالتأكيد. لم تتوقف الحملات الدعائية عبر كافة المنصات الإعلامية سواء تلك الحكومية أو تلك الموجودة في تركيا، بل إن الملاحظ للأداء الإعلامي سيجد توازيا بين الفريقين. الطرفان تبنيا معا قضية السجون السرية حتى مع نفيها رسميا من قبل وزير الداخلية اليمني، كما أن الطرفين حاولا بث الأخبار الكيدية والمضللة ضد دولة الإمارات بعد أن تأكد لهما أن المستحيل هو التأثير على العلاقة السعودية- الإماراتية.
المسكوت عنه في اختطاف الإعلام اليمني يتعلق أساسا بمدى ارتباط قيادات سياسية وعسكرية بالنظام القطري، لذلك لا يمكن فصل ما حدث ويحدث من هجوم مستمر على دولة الإمارات والتشكيك المتواصل بالدور السعودي في اليمن خارج هذا الإطار، فالعلاقة مثلا بين علي محسن الأحمر وخلفيته المعادية للسعودية والموثقة في 2009 وكذلك في 1994 على خلفية حرب الانفصال مع دولة قطر لا تزال موجودة، وإن توارت نتيجة للمرحلة ومقتضياتها. كذلك هي البراغماتية اليمنية التي تتعامل بها قيادات حزب التجمع اليمني للإصلاح التي تظهر دعمها للتحالف العربي، بينما لا تتم محاسبة كوادر الحزب على تطاولهم وإساءتهم للقيادات السياسية في السعودية والإمارات، تماما كما حدث مع توكل كرمان التي بالكاد تم تجميد عضويتها في الحزب مجاملة للعتب السعودي على ما اقترفته، وحفظا لماء الوجه تم فقط تجميد عضويتها، بينما يتم أيضا تمرير تصريحات خجولة من قيادات الحزب في مواقع التواصل الاجتماعي للاستهلاك الإعلامي ليس إلا.
أخلاقيات المهنة الإعلامية تبدو أنها تتوارى في ظل اختطاف إخوان اليمن للشرعية، غير أن تجاهل تجنيد الإعلام للمئات من الكوادر المكلفة بمعاداة دولة الإمارات بهذه الفجاجة يأتي في إطار تدويل الأزمة اليمنية لتحقيق الأهداف التركية وكذلك الإيرانية والساعية لإفشال الأهداف الأساسية لعملية عاصفة الحزم، وهذا ما يستدعي وقفة حقيقية من قبل الرئيس عبدربه منصور هادي لإدراك أبعاد الخطاب المأزوم والذي لن يحقق الأهداف الأساسية بإعادة الشرعية وتقليم أظافر الإسلام السياسي بطرفيه الحوثي والإخواني.