أزراج عمر يكتب:
النظام الجزائري وتكريس التكالب على الانتخابات الرئاسية
لا يمكن أن يختلف اثنان على ضرورة إخضاع المجتمع الجزائري بصفة عامة، وما يسمى بالطبقة السياسية الجزائرية بصفة خاصة، للتحليل النفسي من أجل مساعدة الجميع على معالجة العقد المتشابكة التي لم يسلم منها أحد منذ الاحتلال الفرنسي للجزائر مرورا بنكبات مرحلة الاستقلال والعشرية الدموية حتى اليوم.
وفي الواقع فإن أكبر انزلاق خطير ومدمر حدث في المجتمع الجزائري هو حلول النرجسية المفرطة محلّ الروح الوطنية الجماعية التي تميّزت بها، نسبيا، مرحلة حركة التحرر الوطني ضد الاحتلال الفرنسي، وما يؤسف له أن هذه النرجسية الجزائرية تتميز بأنها أصبحت عصابا جماعيا مثبتا بشكل صارم وحادّ. وما يؤسف له أيضا أن هذا المرض النفسي الجماعي لم يجد إلى يومنا هذا تحليلا علميا من طرف علماء النفس والسوسيولوجيا والطب العقلي.
وزيادة على ذلك فإن الجزائر لم تستفد، قيد أنملة، من مختلف تجارب مصالحة الذات مع محيطها، ومنها تجربة المصالحة الوطنية التي تمت بنجاح في جنوب أفريقيا بفضل تطهير الذوات بواسطة آليات الاعتراف الذاتي والجماعي بأخطاء ارتكاب مختلف أنماط العنف المادي والرمزي، وفي الصدارة مرض العنصرية المقيتة التي أوصلت البلاد على مدى سنوات إلى نبذ وتحقير الإنسان الأبيض للإنسان الأسود على نحو وحشي معروف في الأدبيات السياسية الدولية بنظام التمييز العنصري.
لا شك أن مرحلة العشرية الدموية لم تأت من الفراغ بل لها مقدمات وتأسيس مسبقان، ولكن مرحلة ما بعد هذه العشرية أدخلت الشخصية الجزائرية في نفق العدمية والعبث بالقيم والعلاقات بين الحاكم والمحكوم وبين المواطنين أنفسهم، حيث نجد المصالح الشخصية هي سيدة الموقف والمعيار الناظم العام لكل الأشياء.
بناء على هذا الوضع فإن التعددية الحزبية التي اخترعها النظام الجزائري يمكن وصفها بكل موضوعية بأنها أقرب ما تكون إلى انشطار وتفكك الروابط سواء بين أشباه السياسيين أو بين أتباعهم من المواطنين. وهكذا فإنه لا يمكن عزل أمراض الانتخابات الجزائرية بشكل عام عن تداعيات رضات الاحتلال الفرنسي، وانفجارات مرحلة الاستقلال التي لم يكن لها أي مشروع وطني لتحديث وتطوير الإنسان الجزائري ومجتمعه المتخلف.
في هذا السياق نستطيع أن نفهم الظاهرة العجيبة التي مافتئ المشهد السياسي الجزائري يفرزها منذ فتح المجال للتعددية الحزبية في الجزائر، وهي الظاهرة المتمثلة في التكالب على مختلف الاستحقاقات الانتخابية، وخاصة الاستحقاقات المؤدية إلى المناصب التي تضمن لأصحابها النفوذ في مختلف المجالات وخاصة الاقتصادية والدخل الشهري الأعلى وفي المقدمة الانتخابات البرلمانية والانتخابات الرئاسية الجزائرية.
من الملاحظ أنه بعد أن توضح أنَ خيار تأجيل الرئاسيات أو خيار التمديد للرئيس الحالي غير مُدرجيْن في أجندة النظام الجزائري، وبعد أن تبيّن أيضا أن الانتخابات الرئاسية ستجرى في موعدها المحدد بشهر أبريل القادم، أعلنت وزارة الداخلية منذ أقلّ من أسبوع أنها تلقت 61 طلبا لسحب استمارات التوقيعات الخاصة بالسباق الرئاسي، وينتظر أن يشهد هذا العدد ارتفاعا دراماتيكيا خلال الأيام القليلة القادمة، خاصة وأن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لم يعلن بعد ترشحه أو عدم ترشحه لهذه الانتخابات.
وفي هذا الخصوص هناك من المحللين السياسيين من يعتقدون أن كثيرا من الذين قد سحبوا استمارات التوقيعات لن ينسحبوا حتى في حالة ثبوت ترشح الرئيس بوتفليقة، مع إدراكهم أنه لا يوجد حظ لهم للفوز في هذا السباق المحسوم من طرف النظام سلفا.
ويتميز كرنفال الانتخابات الجزائرية بشكل نمطي بخاصية تتمثّل في أن المرشحين لمختلف الاستحقاقات الانتخابية، بدءا من الانتخابات البلدية فانتخابات المحافظات، ثم البرلمانية وانتهاء بالانتخابات الرئاسية، لهم أهداف لا علاقة لها بالنضال السياسي أو بأي مشروع يخرج الجزائر من تخلفها البنيوي، وتتمثل هذه الأهداف أساسا في التحايل من أجل تولّي المناصب التي تضمن لهم الحياة المخملية ومنها الحصول على ميزانية الدولة الخاصة بكل مرشح للرئاسيات والتي تقدّر قيمتها بمليارات الدينارات، حيث أن أغلب هذه الأموال التي تقدّمها خزينة الدولة لا يصرفها المرشحون على الدعاية الانتخابية إلاَ جزئيا، بل إن معظمها تذهب في الغالب، وبواسطة ألاعيب شتّى، إلى جيوبهم وبذلك يضمن كل مرشح غلق نافذة الفقر دونه والدخول من الباب الواسع في سفينة أهل الثروة.
وفي الحقيقة فإن دراسة مثل هذه الظاهرة ستفضي إلى رصد الثقافة الجديدة المكرّسة في المجتمع الجزائري راهنا وهي المسؤولة مباشرة على تمييع العمل السياسي وخلط الأوراق بشكل لم يسبق له مثيل، حيث تبيَن الوقائع، مثلا، أن العشرات من الأشخاص الذين كانوا يقدّمون أنفسهم للشعب كمعارضين سياسيين قد باعوا أفكارهم ومواقعهم ومواقفهم فجأة بعد أن سمح لهم النظام الحاكم بإنشاء وقيادة الأحزاب، أو مكّنهم من تولّي رئاسة المجالس العليا مثل المجلس الأعلى للغة العربية أو المجلس الإسلامي الأعلى أو المحافظة السامية للغة الأمازيغية، أو عندما عيّنهم الرئيس بوتفليقة، في إطار ثلثه الرئاسي المخوّل له في الدستور الذي دبج على مقاسه، في البرلمان بغرفتيه العليا والسفلى، أو عيّنهم في الحكومة والسلك الدبلوماسي باعتباره صاحب القرار الأول والنهائي في اختيار الوزراء والسفراء وكل المسؤولين الكبار في أجهزة الحكم.
لا شك أن الانتهازية السياسية في الجزائر قد أصبحت مشكلة غارقة في الانحطاط والبشاعة وهي مستفحلة في مفاصل السياسة الجزائرية وتدمر أخلاقيات الالتزام السياسي والعقائدي في المشهد السياسي، وها هي تمتد إلى نسيج المجتمع المدني وتجد في الوقت نفسه دعما إستراتيجيا من النظام الحاكم الذي هو المستفيد الأول والأخير من انهيار القيم الوطنية والأخلاقية العليا في البلاد.