أزراج عمر يكتب:
المثقفون الجزائريون ولعبة السياسة الخطرة
بادئ ذي بدء ينبغي تسجيل ملاحظة أولية وهي أن كل مناسبة انتخابية جزائرية، منها مناسبة التهيئة للانتخابات الرئاسية التي ستجري في أوائل أبريل 2019، تكشف لنا إما عن هشاشة وهامشية المثقفين الجزائريين وإما عن تبعية الكثير منهم للنظام الحاكم أو لمن يوفّر لهم فرصة عمل ويدفع لهم ثمن لقمة العيش أو ينشر لهم كتاباتهم وهلمّ جرّا.
وهنا نتساءل: ماذا يفعل المثقفون الجزائريون في هذه الأيام، وخاصة في هذه المرحلة التي ما فتئت تشهد تفاقم الأزمة المركبة التي تعصف بالبلاد في صورة فراغ سياسي متعدد الذيول، وبشكل لم يسبق له مثيل وذلك منذ تفكَك الحزب الواحد وظهور تعددية حزبية فوضوية ومرتجلة على أساس مقاييس النظام الحاكم، وانفجار الصراع المسلح بين الإسلاميين وبين نظام مرحلة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ومرورا بتعرض الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة للمرض وانتهاء بابتعاده عن ممارسة نشاطه السياسي بشكل طبيعي وبعيدا عن الآلية السلبية المكررة والمتمثلة في توكيل هذا أو ذاك للنيابة عنه سواء داخل الوطن أو على المستوى الدولي؟
في هذا المناخ البائس نرى عددا كبيرا من الإعلاميين المصنّفين ضمن زمرة المثقفين يقفزون إلى التموقع السياسي وفقا لمصالحهم ولحساباتهم المستقبلية، بدلا من القيام بالتحليلات العلمية والجريئة للمشكلات المحورية والمزمنة التي تعاني منها الشرائح الاجتماعية، وكذلك الواقع السياسي الجزائري الذي لم يقدر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا أن يبني أسس الدولة العصرية. من الملاحظ، مع الأسف، أن معظم ما يكتب من طرف هؤلاء هو أشبه ما يكون بإعادة إنتاج للتخلف في شكل الندب والسخرية الصفراء والبكاء على الأطلال. إنه بمجرد أن أعلن عن الانتخابات الرئاسية التي ستجري في الأسبوع الأول من أبريل القادم بدأت الأقلام والتصريحات تكشف جليّا عن نمط من الانتهازية المتمثلة إما في التصفيق للوزراء وللرئيس بوتفليقة وإما في تقديم أنفسهم لهم كموظفين صالحين لتولّي المسؤوليات تحت إشرافهم.
وفي هذا السياق يستغرب المرء تمسَك فصيل كبير من المثقفين الجزائريين بازدواجية الموقف المتناقض حيث أنه يرفض النظام الحاكم في الليل ويتغذّى معه في النهار، والتمسّك بترجمة الذهنية العدمية في صور عدة منها الرفض المطلق لكل شيء والاستسلام للأمر الواقع في آن واحد، ويؤدي مثل هذه السلوك إلى السقوط غالبا في فخ أداء دور المناشدين والطبَالين، بدلا من إنتاج الفكر المتحضّر الذي ينير دروب الشعب الجزائري المغلوب على أمره.
وفي الحقيقة، فإن سلبية وهشاشة المثقفين في المجتمع الجزائري ليستا حدثين طارئين، بل هما نتاج وعرض متزامنين لانتشار الذهنية المتخلفة والمركبة والتي لها تاريخ طويل في الحياة السياسية الجزائرية، حيث تتمثل كل من التوجس من المثقفين واعتبارهم مجرد أتباع أو عناصر ثانوية في الحياة الوطنية. أما تحقير المثقفين في الوقت الراهن فهو ثمرة مرَّة لرضوخهم للنظام الجزائري بعد الاستقلال، والسماح له بتدجين النقابات والمنظمات الجماهيرية ومختلف الاتحادات والروابط الثقافية والفنية والمهنية، التي من المفترض أنها المعاقل التقليدية التي يتحرك فيها المثقفون والمثقفات، والقبول بسيطرة أجهزة النظام بما في ذلك مؤسستي الجيش والأمن على مؤسسات الدولة الكبرى مثل المؤسسات الإعلامية، بما في ذلك ما يسمى بقطاع الإعلام التابع للقطاع الخاص شكليا فقط والثقافية والعلمية والاقتصادية والأكاديمية، الأمر الذي أبعد هذه الفضاءات أن تكون مواقع يتم فيها التفكير العلمي والمتطور للدولة، ورسم المشاريع الكبرى التي يمكن أن يبنى على أساسها المجتمع الحداثي بكل مقوماته وأسسه الأخلاقية والثقافية والفكرية والمادية.
ومن الواضح للعيان أن الجزائر لا توجد فيها تقاليد المثقفين الراديكاليين الذين يفكرون ويشرّعون للدولة، يمكن تشبيهها مثلا بتقاليد دولة مثل فرنسا حيث يلعب المثقفون أدوارا محورية في تشكيل الرأي العام الشعبي من جهة، ويؤثرون بقوة على تثقيف الأحزاب السياسية سواء تلك التي توجد في سدة الحكم أو تلك التي توجد في فضاء المجتمع المدني.
ويلاحظ أن المثقفين الجزائريين، باستثناء حفنة قليلة منهم، لا يدافعون راهنا عن أي قضية وطنية بإيمان ووعي وحسم في إطار تنظيمات مستقلة وحرة تسندها مؤسسات المجتمع المدني، وأكثر من ذلك فهم يتحركون في ما يمكن تسميته بالمواقع الفارغة التي تنعدم فيها حركة التاريخ، وربما لهذا السبب قال عنهم الرئيس الراحل هواري بومدين يوما بأنهم ينقلون عن الشعب خطأ وينقلون عن السلطة خطأ.
لاشك أن هناك مثقفين جزائريين في أحزاب الموالاة وفي أحزاب المعارضة وفي عدد من النقابات والمؤسسات التربوية والإدارية والإنتاجية وفي الروابط والاتحادات المهنية معا، ولكن وجودهم في هذه الهياكل يعني شيئين اثنين وهما إما الانغماس حتى الأذنين في الموالاة لأجهزة الحكم وإما الرفض المطلق لها دون تقديم بدائل، من خلال استلهام الرؤى الفكرية على ضوء الحوار مع العمق الشعبي، بقصد تشكيل وبناء النموذج الوطني المتميز للدولة الحديثة في الجزائر المعاصرة.
وفي الواقع هناك في الجزائر عداء تاريخي بين المثقفين وبين المسؤولين في مختلف أجهزة الحكم. ففي مرحلة الكفاح التحرري، مثلا، كان حامل السلاح هو صاحب السيادة على المناضل المثقف، حتى وإن كان هو نفسه مسلحا أيضا والدليل على ذلك هو رفض القيادة العسكرية الجزائرية في ذلك الوقت تسليم شؤون القيادة للسياسيين. وفي هذا الخصوص قد تعرّض مثقفون مرتبطون عضويا بحركة التحرر الوطني للإنكار والإلغاء مثلما ذبح البعض منهم جرّاء اتهامهم بالشيوعية، كما تعرّض غيرهم لشتَى أنماط الوصاية العسكرية أو للتصفية الجسدية حينا آخر. وفي هذا الصدد أبرز مصطفى الأشرف أحد الزعماء الخمسة لحركة التحرر الوطني الجزائري، في كتابه المعروف “الجزائر: الأمة والمجتمع″، أن الجيش الجزائري قد أبعد السياسيين المدنيين عن مواقع القيادة والصدارة، وبيَّن أن جبهة التحرير الوطني قد حوّلت إلى واجهة له. وزيادة على هذا فإن كثيرا من مثقفي حركة التحرر الوطني قد تعرّض للقتل مثلما حدث للمجاهد المثقف عبَان رمضان.