د. عيدروس النقيب يكتب :
عندما تضمحل الدولة 3/4
سأحاول في هذه المنشور استكمال ما كنت قد توقفت عنده في المنشورين السابقين عن قصة أن الجنوبيين لا يستطيعون إدارة دولة وأنهم لا يقبلون ببعضهم وأنهم يتقاتلون كل عشر سنوات، وأن الفوضى السائدة في الجنوب هي بسبب إدارة الجنوبيين لشأنهم.
لا ييتردد الكثير من القائلين بهذا عن اتهامهم للمقاومة الجنوبية وكل قوى الثورة الجنوبية وعلى رأس الكل المجلس الانتقالي الجنوبي بالتقصير في مواجهة كل المشاكل التي يشهدها الجنوب، بل أن هناك من يتهم هذه الأطراف بأنها من يقف وراء ظواهر السيطرة على الأراضي وانتشار النقاط الأمنية (المشروعة وغير المشروعة) وما يتصل بالانفلات الأمني من حوادث سطو واغتيال وإطلاق النار والتسلح العشوائي وكل الظواهر الغريبة التي لم يعرفها الجنوب إلآ بعد العام 1990 وتنامت بعد 1994م وتضاعفت واستفحلت بعد 2015م، وهي اتهامات تتصل بحق جلي لكن المراد به باطلٌ زهوق.
ولا يخفى على كل ذي عينين أن ما تشهده مناطق الجنوب من انتشار لكل تلك المظاهر المقززة إنما يأتي بسبب غياب الدولة التي هي المسؤول الأول عن حفظ السلام الاجتماعي والتوازن الوطني وهو ما لا يحتاج معه المرء إلى جهد خارق للبرهان عليه فالجميع يعلم أنه عندما تغيب الدولة تنشط الجماعات البديلة للدولة وهذه الجماعات هي عبارة عن تجمعات منفلته لا يضبطها ضابط ولا يحكمها عرف ولا قانون، ولم تبرهن أي جماعة طوال التاريخ القريب والبعيد أنها قادرة على ملء الفراغ الذي يتركه غياب الدولة.
ويعلم الجميع أن أوائل ضحايا العنف وعمليات الاغتيال كان قادة من المقاومة، وهل نسينا الشهيد جعفر محمد سعد كقائد مقاوم من الطراز الرفيع، وهل سننسى أسماء مثل علي الصمدي وأحمد الإدريسي والشيخ الراوي والشيخ العدني ومحاولات اغتيال محافظ عدن السابق (اللواء عيدروس الزبيدي) ومدير أمن عدن (اللواء شلال شائع)، ومثلهم المئات ممن كانوا ذوي مواقع وسمعة عاليتين بين أفراد المقاومة الجنوبية ودعاة رئيسيين لنصرة القضية الجنوبية.
إن تحويل الاتهام باتجاه الضحايا لا يكشف إلا عن منطق التستر على المجرمين الحقيقيين الذين دأبوا على دعم وتنشيط الجماعات الإرهابية وعصابات القتل تارة تحت مسميات جهادية وأحيانا تحت مسميات "لجان الدفاع عن الوحدة" وعندما تغيب الدولة يكون أسهل عمل يمكن القيام به هو تشكيل جماعة مسلحة تفرض على الناس قانون الفتوات وطقوس القطعان.
مقولة "أن الجنوبيين يتقاتلون كل عشر سنوات" يرددها بعض إخوتنا من الطبقة السياسية الشمالية، مصورين لنا وكأن الحرب الدائرة منذ أربع سنوات، وقبلها الحروب الست ناهيك عن حروب القبائل وما تفرضه من ضحايا ليست حروب بين يمنيين.
إننا نتألم عندما نسمع باستعراض عشرات القتلى من طرفي الحرب في اليمن، لأن هؤلاء الضحايا هم مواطنون بغض النظر عن انتمائهم إلى الشرعية أو الانقلابيين، لكن بعض إخوتنا الشماليين يتشفون إذا ما سمعوا عن تنازع فردين أو جهتين جنوبيتين وهو أمر يتناقض مع ادعائهم بأنهم وحدويون وإنهم حريصون على كل المواطنين في الشمال والجنوب على السواء.
يعلم الجميع أن الأراضي (الجنوبية) المحررة تقع تحت سيطرة السلطة الشرعية بعد أن سلمها المقاومون الذين حرروها للسلطة الشرعية، ومن يدير شؤونها هي الحكومة المعينة من فخامة الرئيس الشرعي الفريق عبد ربه منصور هادي، ومن هذا المنطلق فإن مسؤولية تطبيق القانون وحماية حقوق وحيوات الناس وحفظ الأمن والاستقرار وتوفير الخدمات والتصدي للعابثين هي مهمات للسلطة الشرعية وحكومتها والبحث عن متهمين آخرين إنما يعبر عن الرغبة الدفينة في التستر على الفاعلين الحقيقيين ومن يقف وراءهم.
عندما تضمحل الدولة (4)
أثارت المنشورات السابقة المعنونة "عندما تضمحل الدولة" مجموعة من الأسئلة المشروعة والملاحظات القلقة والاقتراحات البناءة، ومعظمها تستحق التوقف، وسأحاول تناولها في هذا المنشور بصورة إجمالية بعيدا عن منهاج السؤال والجنوب، فنحن نتبادل أفكاراً وآراء ورؤى ولا يمارس أحدنا دور الأستاذ على الآخر أو الممتحن للآخر.
ويمكن التركيز على الملاحظات المتعلقة بدور المجلس الانتقالي الجنوبي في ظل الأوضاع المنفلتة والحصار المفروض على مناطق الجنوب والحرمان المتعمد الذي تمارسه حكومات الشرعية المتوالية على الشعب الجنوبي.
هناك حملة ممنهجة تخوضها أوساط وقوى سياسية ومؤسسات إعلامية نافذة لها سطوتها في صناعة القرار داخل الحكومة الشرعية، وهي في هذا تتلاقى مع ما يفعله الانقلابيون وتتفوق عليه، وكما قلت في منشور سابق كل هؤلاء يحملون المجلس الانتقالي وقوى الثورة الجنوبية مسؤولية كل ما يشهده الجنوب من فوضى وانفلات وحرمان وحصار وعشوائية، وغير ذلك، ولم يتساءل أحد: ماذا تفعل الحكومات الشرعية المتعاقبة التي تدعي أنها تسيطر على 80% من مساحة الأرض وهذه الثمانين بالمائة هي التي حررها الجنوبيون يوم إن كان المدَّعون هاربين لم يجرؤ أحدٌ منهم على إطلاق رصاصة واحدة في وجه الغزاة الانقلابيين?
نعم كانت القوى الجنوبية ومقاومتها الباسلة التي دحرت المشروع الغزاة الانقلابيين من الجنوب شريكةً مع السلطة الشرعية ومع التحالف العربي في حرب 2015م واستمرت هذه الشراكة حتى جاء استبعاد القادة الجنوبيين الذين يتبنون خط النضال من أجل استعادة الدولة الجنوبية من قبل السلطة الشرعية، وشخصيا كنت قد سميت خطوة الاستبعاد هذه بأنها "فض للشراكة من طرف واحد" ويتذكر الجميع كيف استلم الزملاء د. ناصر الخبجي واللواء عيدروس الزبيدي واللواء أحمد سعيد بن بريك والأستاذ فضل الجعدي وبقية المحافظين محافظاتهم حينما كان الإرهاب والجريمة هما سيدا المشهد على واجهة تلك المحافظات، ويعلم الجميع كم هي الأشواط التي قطعتها تلك المحافظات في استعادة الأمن والاستقرار والخدمات وتفعيل حضور الدولة، كان ذلك قبل استبعاد هذه القيادات من مواقعها، وإذا كنا لا ندعي الكمال لهذه القيادات فما ينبغي الإقرار به هو أن مسؤولياتهم انتهت بمغادرتهم مواقعهم في بنية السلطة الشرعية: وسيكون من غير المنطقي ومن غير العقلاني أن نستبعدهم من مواقع المسؤولية ثم نطلب منهم أن يعيدوا لنا الخدمات التي دمرها الفاسدون ويفرضوا الأمن الذي يغيبه القائمون على السلطة الشرعية ونطلب منهم الخدمات التي يستلم مخصصاتها الوزراء والمسؤولون التابعون للشرعية ويرجعوا لنا منظومة الإدارة التي قضى عليها غزاة ١٩٩٤م و ٢٠١٥م.
المجلس الانتقالي ليس سلطة حاكمة بل إنه كيان سياسي نضالي تحرري مهمته قيادة نضال الشعب الجنوبي من أجل التحرير وتقرير المصير، وهو ما يعني أنه ليس مسؤولا عن أية مؤسسة خدمية أو إدارية أو تنفيذية ولا عن أي جهاز عسكري أو أمني وأن كل المكونات العسكرية والأمنية وبقية الأجهزة الإدارية والتنفيذية والخدمة هي تابعة للحكومة الشرعية.
وعليه فإن الحكومة الشرعية هي المسؤول الأول والأخير عن ملفات الحياة الأساسية في عدن وبقية محافظات الجنوب.
هذا طبعا لا يعفى المجلس الانتقالي الجنوبي ومعه كل الفاعلين السياسيين المؤمنين بعدالة القضية الجنوبية ومنظمات المجتمع المدني الجنوبية من الدفاع عن مصالح المواطنين الجنوبيين والتصدي للفساد والعبث بكافة الوسائل القانونية والسلمية، وهذا هو ما يفعله المجلس الانتقالي.
على إنه لا بد من الإقرار بأن الأهداف البعيدة والقريبة للثورة الجنوبية لن تتحقق بجرة قلم، بل في سياق عملية تاريخية معقدة قد تتطول وقد تقصر يتداخل فيها ما هو موضوعي مع ما هو ذاتي، وما هو داخلي مع ما هو خارجي وما هو سلبي مع ما هو إيجابي
وللحديث بفية