كرم نعمة يكتب:
السعادة تكمن في الدراجة الهوائية وليس في الأجهزة الذكية
بالنسبة لي كان مشهدا يستحق التأمل في العصر الرقمي، وفي مدينة ذكية مثل لندن. لأنه يعيد لنا السعادة الطبيعية المسلوبة من قبل الأجهزة الرقمية، فالرجل الذي تعرفت على وجهه منذ سنوات أعتاد مثلي على المقهى الهادئ في الرواق المجاور للكنسية. نشعر أننا نعرف بعضنا البعض بالرغم من عدم تبادل الحديث العميق، كان مثلي يجلب كتابه للقراءة، لكنه تغير لاحقا، الأدق تطور باتجاه استخدام جهاز القارئ الإلكتروني في المطالعة، بينما مازلت أنا محتفظا بالكتاب الورقي.
ومثل أغلب أيام عطلة نهاية الأسبوع جمعنا المقهى، كعادته أخرج من حقيبته جهازه الإلكتروني للقراءة، وبقيت أتصفح هاتفي في يوم لندني مفعم ببرودة لذيذة، في تلك الأثناء ركن أحدهم دراجته الهوائية أمام المقهى وجلس ملقيا التحية على الرجل المستمر بالقراءة في جهازه الإلكتروني.
وسرعان ما بادره بالسؤال، إن كان الذي في يده آي باد؟ فرد عليه الرجل، بالنفي، قائلا: هذا جهاز القارئ الإلكتروني، يحمل مئات الكتب لمطالعتها بطريقة ميسرة.
تساءل صاحب الدراجة: إذا ما هو آي باد؟
مثل هذه المحاورة المقتضبة بين شخصين بريطانيين في منتصف العمر، ترفع مستوى الانتباه إلى أقصاه.
فهذا الإنكليزي صاحب الدراجة ليست لديه فكرة عن جهاز آي باد! وهو أمر يدعو إلى المسرة في أن بعضنا مازال يحتفظ بعالمه الخاص من دون أن تربكه الحياة الرقمية. بلا شك هو أسعد منا جميعا، نحن المهووسون بأجهزتنا الرقمية، لأنه ببساطة لا ينتابه القلق الرقمي مثلما يسيطر علينا، نحن جيل الهواتف الذكية!
وضّح صديقي لصاحبه الفرق بين جهازي القارئ الإلكتروني وآي باد بكل أريحية ومن دون أن يمارس دور المعلم، بينما تراكمت أمامي الأسئلة المثيرة عن فكرة أن يمتلك الإنسان دراجة هوائية يقودها في الفضاءات المفتوحة وبين الحقول، ولا يبالي بمعارك التغريدات على تويتر، أو الهراء المتصاعد والمستمر على فيسبوك.
أيهما أكثر سعادة من يعتز بدراجته الهوائية كصديق وفيّ لا يخذل، أم من يصطحب جهازه الرقمي إلى سرير نومه؟
أيهما أصح دماغا ورئتين مفتوحتين، نحن المهووسون بكمبيوتراتنا الشخصية ومتابعة كل جديد في الأجهزة الإلكترونية لشرائه، أم هذا الرجل الذي يضبط وقته على الطقس ليقوم برحلته الحيوية على دراجته الهوائية؟
الواقع، أن أجهزتنا الرقمية لم تجلب لنا السعادة المرتجاة، بينما خسرنا الكثير في التخلص من حياتنا القديمة، بالطبع لا أقلل هنا من أهمية التجربة الحية التي وفرها الإنترنت للبشرية، لكن ثمة مساحة كبيرة من عدم الرضا تكمن وراء خياراتنا المندفعة باتجاه الاستخدام المفرط للأجهزة، أو بتعبير الكاتب تيلر كوين في “بلومبرغ” إن الحياة على الإنترنت تدفعنا إلى الاستثمار الأقل في الذكريات الجيدة، والإحساس بالرضا والارتياح على المدى البعيد.
ويرى أن ما تقدمه شبكة الإنترنت لنا ليس أكثر من تعزيز المتع والملذات الآنية قصيرة الأجل، التي تغفو عنها الذاكرة في سرعة عجيبة. “والنتيجة الأكثر سلبية تفيد بأن الحياة على الإنترنت صارت تحجب عنا همَّ وإدراك الحياة التي نعيشها” غير أن كوين يدعو إلى ألا نترك الحياة تبتعد بنا إلى هذا الحد. فبعد كل شيء، يتخذ البشر خيارات مماثلة بشأن موازنة السعادة على الأجلين الآني والبعيد.
ومثل هذا الأمر سبق وأن شخصه عالم النفس دانيال كانيمان، وهو يقرّب مفهوم السعادة عبر الاستمتاع باللحظة الآنية، وبين الشعور بحس عام من الرضا والارتياح عن الحياة، هذا التباين في فكرة السعادة يظهر بالنسبة لي بين الرجل صاحب الدراجة الهوائية الذي لم يتعرف بعد على ماهية جهاز آي باد “ما أسعده!”، وبيننا جمعيا نحن جيل الويكيبيديا، حسب تعريف بيان الإنترنت.
فالأجهزة المرتبطة بالإنترنت تزداد بريقا في أيادينا وجيوبنا، وتضيف المزيد من الشغف الذي لا يخلو من القلق لحياتنا، بينما تستمر المخاطر المحدقة بعقولنا وقلوبنا، من دون أي رغبة في العزوف عن هذه الأجهزة، فأنا لا أعرف أي شخص يحاول اليوم التخلص من هاتفه الذكي، لذلك أعد الرجل صاحب الدراجة الهوائية سعيدا بدرجة نادرة وفق تعريف السعادة لدانيال كانيمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد.
في النهاية يبقى كل الكلام الداعي إلى التخلص من “السموم الرقمية” نصائح مكررة لا يطبقها حتى أكثر المتحمسين للترويج لها. سبق أن وضعت جو إليسون الكاتبة في صحيفة فايننشال تايمز ما أسمته بثنائية Fomo التي كانت تصيبنا في الماضي بالخوف من أن يفوتنا أي شيء، والتي تحولت إلى Jomo اليوم وتعني الاستمتاع بالابتعاد عن كل شيء والشعور بالتحرر الذي يأتي مع قطع الاتصال ووضع الهاتف جانبا، في محاولة لمجاراة الموضة الجديدة للعناية الذاتية العقلية والتخلص من السجن التكنولوجي، لأن الهواتف سيئة للغاية واستنزاف قوتها أمر جيد، كما تقول.
لقد أصبح العالم سيئا بقدر كبير وساهمت الحياة الرقمية في ذلك السوء، حسب الناشط البيئي والكاتب مارك بويل.
يعتقد بويل إذا كان جورج أورويل على قيد الحياة اليوم، لجعل الدمار معادلا للإبداع! بعد أن جعل في روايته “1984” الحرب هي السلام، والحرية تعني العبودية والجهل هو القوة.
لذلك أعاد اكتشاف ما يجري حوله: الجيران، النباتات والحيوانات، الأرض التي تحت قدميه، بل كل ما يجري خارج عتبة باب منزله. لأنه تخلص من أن يكون جزءا من العالم الرقمي.