د. عيدروس النقيب يكتب :

عن فن الاختلاف

يغيب الوعي السياسي القائم على المنهجية والمنطق السليم والبناء الفكري الصحيح فتحل محله الثقافة السياسية العشوائية والسطحية والموسمية والارتجالية.

لن أخوض طويلا في تعريف المفردات المستخدمة في المقدمة أعلاه لكنني أشير إلى آفة اكتسحت الفضاء السياسي الجنوبي ساعدها على هذا الاكتساح انصياع الكثيرين من ممارسيها لتضليلات المضللين، وعبث المسربين وحملات الخداع والكذب والتدليس فضلاً عن توفر خدمات التواصل الاجتماعي المفتوح والرخيص وهي آفة القذف والاتهام والتشهير بل والوصول إلى التخوين .

تكمن الجذور الاجتماعية والمعرفية لهذه الظاهرة في غياب التعايش وادعاء البعض احتكار الحقيقة بل واحتكار النزاهة والوطنية.

من يقيم تفكيره ومن ثم تعامله مع الناس على هذا الأساس يرى في كل من يخالفه الرؤية والرأي غريماً وربما عدواً ومن ثَم لنا أن نتصور ما سيستتبع كل ذلك من مفردات وتصرفات وربما اعتداءات لفظية او جسدية.

وتزاد الآفة انتشاراً عندما يكون الطرف الآخر متسلحاً بنفس العقلية والرؤية وعندها فإن الناتج لن يكون إلا معارك لطواحين الهواء لا تنتج إلا خواءً قاتلاَ وسلوكاً مدمراً وانحرافاً عن القضايا الكبرى التي يتشدق بها المتقاذفون، وكل ما في الأمر اختلاف في الرأي والرؤية يمكن إخضاعه للنقاش والتمحيص والبحث عن مشتركات واحترام ما يمكن الاختلاف عليه من قضايا وآراء.

سأختتم سريعا بالإشارة إلى ما يمكن تسميته بفن الاختلاف، وهو ما يعني أن الناس مختلفون في مصالحهم ومنطلقاتهم الفكرية وآرائهم وتوجهاتهم وبالتالي في مواقفهم وتعبيراتهم عنها.

فن الاختلاف يعني أن نقرأ مواقف المختلفين معنا بعين ناقدة تحليلية بعيدة عن التشنج والعصبية والمواقف المسبقة، وهذا لا يقتضي بالضرورة الاتفاق مع هذه المواقف وتبنيها، بل الفصل بين الفكرة وصاحبها، اي قراءة الفكرة (علنًا او حتى ذهنياً) ومن ثم تحديد الموقف من الفكرة وليس من صاحبها، واخيرا مناقشة (او عدم مناقشة) الفكرة مع الاحتفاظ بالاحترام والتقدير لصاحبها، ما لم يكن قد صدر عنه ما يستوجب عدم الاحترام ومن ثم المقاطعة وتجنب الخوض في الجدل معه.

هذا الموقف مطلوب من طرفي الاختلاف، وبعبارة أخرى من البادئ والمجيب، أما الترهات والتفاهات والشتائم والتجريحات فهي ليست موضوع حديثنا.

العالم ليس أبيضاً وأسودًا فقط، فهناك كل ألوان قوس قزح المتفاوتة والمتقاربة والمتباعدة وهي ما تمنح العالم جماله البديع، بينما الانحياز إلى الأسود فقط أو الأبيض فقط يعني تجاهل بقية الألوان التي هي ضرورية لهذا الجمال وليست أداة لهدمه.

باختصار شديد الاختلاف لا ينبغي أن يكون مصدراً للعداء والتناحر وشن الحروب بل قد يغدو وسيلة لإغناء الفكرة وتفاعل الرؤى وصناعة المواقف الجديدة البناءة.