خير الله خير الله يكتب:

الغرام الأميركي - الروسي بـ"بيبي"

غريبة تلك المنافسة بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على دعم بنيامين نتانياهو قبل أيّام من موعد الانتخابات الإسرائيلية في التاسع من الشهر الجاري. لم يكن الرئيس الروسي مضطرا إلى استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي، في هذا التوقيت بالذات. كذلك، لم يكن مضطرا إلى الإعلان، وقبل ذلك تسريب خبر، عن تسليم روسيا رفات عسكري إسرائيلي قتل في معركة السلطان يعقوب في أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف العام 1982.

هناك جنود سوريون قاوموا الإسرائيليين ببسالة في معركة السلطان يعقوب وهي بلدة في البقاع اللبناني وذلك من دون غطاء جوّي بعدما أسقط سلاح الجوّ الإسرائيلي معظم الطائرات الحربية السورية التي أقلعت من أجل التصدي للإسرائيليين عندما تقدّموا مسافة أكثر مما كان متفقا عليه وقتذاك في الأراضي اللبنانية. في يوم واحد، أسقطت إسرائيل 82 طائرة سورية. كان ذلك إهانة للسلاح السوفييتي قبل أن يكون إهانة لسوريا.

تكبّد الإسرائيليون خسائر كبيرة في معركة السلطان يعقوب التي تصدّى فيها سلاح المدرعات السوري للدبابات الإسرائيلية. كانت معركة غير متكافئة قرّر الضباط والجنود السوريون خوضها متكّلين على أنّهم كانوا يمتلكون وقتذاك دبابات سوفييتية حديثة من طراز ت – 72.

تبيّن في معركة السلطان يعقوب أن الجندي السوري يمتلك شجاعة كبيرة وأنّه قادر على المواجهة وأنّه يختلف عن الجنود السوريين الذين انتشروا عند الحواجز التي أقيمت في مختلف المناطق اللبنانية وكان همّهم الأوّل إذلال اللبنانيين من كلّ الطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية.

تبحث إسرائيل منذ العام 1982 عن جنودها المفقودين في لبنان. لم يعد سرّا أن روسيا لعبت دورا في إيجاد بقايا أحد هؤلاء بعد 37 عاما على معركة السلطان يعقوب. يبدو أن الجندي الإسرائيلي الذي عثر على رفاته كان مدفونا في مخيّم اليرموك قرب دمشق حيث كانت هناك سيطرة لـ”الجبهة الشعبية – القيادة العامة” التابعة للأجهزة السورية.

في كلّ الأحوال، تبيّن كم العلاقة متينة بين روسيا وإسرائيل وكم أنّ هذه العلاقة مهمّة في تحديد مستقبل سوريا. يشمل ذلك في طبيعة الحال بقاء بشّار الأسد في دمشق إلى حين الانتهاء من المهمّة التي كلّف نفسه بها وهي تفتيت سوريا والتأكّد من أنّه لن تقوم لها قيامة في يوم من الأيّام.

هل يعتقد بشّار الأسد، الذي نفت وسائل الإعلام التابعة له أيّ علاقة بالعثور على رفات العسكري الإسرائيلي، أنّ حدثا من هذا النوع سيساعد في تعويم نظامه؟ ليس مستبعدا أن يكون ذلك هو تفكير النظام السوري الذي يتّكل على إسرائيل كضمانة له وذلك منذ العام 1967 عندما سقطت هضبة الجولان في يد الإسرائيليين في ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها غامضة.

هل أراد بوتين المزايدة على الولايات المتحدة في حبّ إسرائيل وبنيامين نتانياهو بالذات؟ ليس ما ينفي ذلك، خصوصا أنّ الإعلان عن استعادة رفات الجندي الإسرائيلي جاء بعد أيام من قرار الرئيس دونالد ترامب الذي يعترف فيه بالسيادة الإسرائيلية على الجولان. لا يمكن التعاطي مع هذا القرار ببساطة، أقلّه لسببين.

الأول مرتبط بالانتخابات الإسرائيلية والآخر بأنّ أي صاروخ أو قذيفة تطلق في اتجاه الجولان المحتلّ صار يعتبر، من وجهة نظر واشنطن، صاروخا أو قذيفة تطلق على إسرائيل.

ما سرّ هذا الغرام الأميركي – الروسي بنتانياهو الذي لم يرد في يوم من الأيّام أن يكون هناك شيء اسمه عملية سلام في الشرق الأوسط. أجبر نتانياهو في مرحلة معيّنة على الكلام عن أنّه يحبّذ خيار الدولتين. لم يكن في الواقع سوى شخص يؤمن إيمانا عميقا بأنّ الدولة الفلسطينية خطر على إسرائيل وأن لا خيار أمام إسرائيل سوى تكريس احتلالها لجزء من الضفة الغربية، بما في ذلك القدس، عن طريق الاستيطان.

واضح انضمام أميركا وروسيا لخيار بنيامين نتانياهو الذي يسمّيه الإسرائيليون “بيبي”. هذا الخيار يعني بين ما يعنيه طيّ صفحة القضيّة الفلسطينية إلى أبد الآبدين وتجاهل وجود شعب يمتلك هوية خاصة به موجود على الخارطة السياسية للشرق الأوسط.

عندما يراهن الأميركي والروسي على "بيبي"، معنى ذلك أن هناك رهانا على نظرة جديدة مختلفة كليا عن الماضي إلى القضية الفلسطينية. إذا كان المستوطنون دفنوا في الضفة الغربية خيار الدولتين على أرض الواقع، فإن أميركا وروسيا تدفنان هذا الخيار على الصعيد الدولي

هناك استغلال أميركي – روسي لوجود نظام سوري في حاجة كلّ يوم إلى استرضاء إسرائيل من أجل البقاء في دمشق والقول إنّه لا يزال موجودا.

بين اعتراف أميركا بضمّ إسرائيل للجولان، بما يخالف كلّ قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، وبين تسليم روسيا لإسرائيل رفات العسكري الإسرائيلي في هذا التوقيت بالذات، يتبيّن بوضوح، ليس بعده وضوح، أن الشرق الأوسط الجديد بدأ يولد. يدل على بداية ولادة هذا الشرق الأوسط الجديد التفاهم الأميركي- الروسي على الدور الإسرائيلي في المنطقة من جهة وعلى أن النظام السوري لم يعد موجودا إلاّ شكليا في دمشق من جهة أخرى.

عندما يراهن الأميركي والروسي على “بيبي”، معنى ذلك أن هناك رهانا على نظرة جديدة مختلفة كلّيا عن الماضي إلى القضيّة الفلسطينية.

إذا كان المستوطنون دفنوا في الضفّة الغربية خيار الدولتين على أرض الواقع، فإن أميركا وروسيا تدفنان هذا الخيار على الصعيد الدولي لا أكثر ولا أقلّ. وإلّا كيف يمكن تفسير مثل هذا الدعم من بوتين وترامب لسياسي إسرائيلي فاسد إلى حدّ كبير لم يؤمن في أيّ يوم بتسوية معقولة ومقبولة مع الفلسطينيين خارج إطار إذلالهم وحرمانهم من الحقّ الأدنى من حقوقهم المشروعة.

لم ينقذ الروسي، الذي تدخّل في الحرب الشعب السوري على نحو مباشر ابتداء من خريف العام 2015، بشّار الأسد من أجل بقاء خارطة الشرق الأوسط على حالها. أنقذ الروسي بشّار الأسد من أجل الانتهاء من سوريا التي عرفناها.

جاء الآن وقت قطف ثمار التدخّل الروسي في الحرب على الشعب السوري. هناك في السنة 2019 معطيات جديدة محورها سؤال هو: ما العمل بالوجود الإيراني في سوريا. فما يجمع بين روسيا وأميركا وإسرائيل في سوريا هو التخلص من الوجود الإيراني فيها.

هذا ما يفترض في السياسيين اللبنانيين الذين ما زالوا يراهنون على بشّار الأسد ونظامه استيعابه، أقلّه من أجل حماية لبنان في هذه الظروف المعقّدة التي تمرّ فيها المنطقة. من حقّ العرب عموما إدانة القرار الأميركي باعتبار الجولان أرضا إسرائيلية، لكنّ ليس من حقّ أي مسؤول لبناني أو عربي الكلام عن الغياب السوري عن القمّة العربية الأخيرة التي انعقدت في تونس والتحسّر على ذلك. مثل هذا الكلام ليس سوى دليل عجز عن فهم معنى ما يدور في المنطقة لا أكثر.

النظام السوري صار من الماضي. صار هذا النظام مضطرا إلى نفي أي علم بالعثور على رفات العسكري الإسرائيلي وأي علاقة له بإعادة الرفات إلى إسرائيل. يحصل ذلك كلّه في حين يعتقد النظام أنّ إسرائيل ما زالت مقتنعة بأهمّية بقائه منذ تسليمها الجولان من دون إطلاق رصاصة واحدة في العام 1967…