نورالدين خبابه يكتب لـ(اليوم الثامن):
جراحُ محرقة سجن البرواقية التي لم تلتئم بعد!
محرقة سجن البرواقية ليست مجرّد فصلٍ عابر في المأساة الجزائرية، بل واحدة من أعمق الجراح التي ما زالت تنزف في ذاكرة جيلٍ عاش زمن الاستئصال والاعتقال والقمع. في هذه السطور أستعيد، من خلال شهادة النقيب أحمد شوشان وما حملته من تفاصيل موجِعة، حكاية سجناء أُحرقوا أحياء ودُفنوا في صمت، لا لأجل البكاء على الأطلال، بل حتى لا تتكرّر الجريمة في ثوبٍ جديد، ولا يضيع حقّ الضحايا بين النسيان والصمت المتواطئ.
كانت دموعي تنهمر البارحة وأنا أستمع إلى شهادة الأخ أحمد شوشان، في إطار برنامج «حتى لا تتكرّر المأساة». كنتُ أكاد أصرخ من شدّة وقع الكلمات، لكنّي أمسكت نفسي وتحكّمت في مشاعري حتى لا أفسد بقيّة البرنامج، وبقيتُ متأثّرًا إلى النهاية. لم يكن الأمر مجرّد حوار عابر على الهواء، بل كان عودةً قسرية إلى زمنٍ كنا نظن أنّه ابتعد قليلًا، فإذا به يطلّ من جديد بكلّ تفاصيله الدامية.
لم يكن بكائي ضعفًا، بل كان شيئًا إنسانيًّا طبيعيًّا يصدر عن شخص عاش تلك المرحلة في سجن مفتوح؛ كنّا آنذاك نتألّم لما وقع لإخواننا، ونندّد في المظاهرات، ونرفض خطّ الاستئصال، ونبحث عن مخرج يحقن الدماء ويحفظ للناس كرامتهم. ومع ذلك، كان سقف الخيارات، في نظر الكثيرين، ينحصر بين حمل السلاح أو الهجرة، وكأنّ الوطن لا يفتح أبوابه إلا على نعشٍ أو قاربِ نجاة.
هزّني الأخ شوشان، الذي عاش تلك الحادثة عن قرب، وهو يذكرها ويروي تفاصيل الجريمة النكراء التي وقعت في سجن البرواقية: كيف تمّ إفراغ البنزين في القاعة التي كانت ممتلئة بالمساجين، وكيف أنّ ذلك العسكري الذي تجرد من آدميّته قذفهم بقذيفة، فاختلط اللهيب بالصراخ، وتحوّلت أجساد عشرين سجينًا إلى جثث متفحّمة في دقائق معدودة. لا حديث عن مفاوضات، ولا عن محاولة لحقن الدم، ولا عن احترام لأبسط حقوق الأسير… فقط قرارٌ بإنهاء الملف بالنار.
لكن هول الجريمة لم يقف عند لحظة القصف. فهؤلاء الذين احترقت أجسادهم لم تُنقل جثثهم إلى ذويهم حتى يودّعوهم ويقيموا لهم سرادق العزاء، بل وُضعوا في حفرةٍ وتمّ ردمهم كما تُردم الميكروبات؛ وكأنّ المطلوب ليس إسكات أصواتهم فحسب، بل محو آثارهم من الذاكرة أيضًا. أمّا الشخص الذي حاول أن يمنع الجريمة قبل وقوعها، وأن يعلو بصوت العقل على صوت الرصاص، فقد تمّ ذبحه أمام مرأى الجميع على يد فئةٍ تمّ تحويلها إلى السجن قبل وقوع المحرقة، في مشهدٍ يلخّص كيف يُعاقَب من يحاول إيقاف آلة الموت.
وأنا أستمع إلى هذه التفاصيل، لم أجد أمامي إلا أسئلة موجعة تتزاحم في الداخل:
أين كانت منظمات حقوق الإنسان في ذلك الوقت؟ أين كانت الأحزاب التي صدّعت رؤوسنا بخطابات الديمقراطية والتعدّدية واحترام الحريات؟ أين كانت دولة القانون التي تتحدّث عن استقلالية القضاء وحرمة النفس البشرية؟ كيف يمكن لمجزرة بهذه البشاعة أن تمرّ وكأن شيئًا لم يكن، فلا محاكمات حقيقية، ولا تحقيقات جادّة، ولا حتى اعتراف رسميّ شجاع بما وقع؟
إنّ صمت العالم عن مثل هذه الجرائم لا يقلّ فظاعةً عن ارتكابها؛ فالتواطؤ لا يكون دائمًا بإصدار الأوامر، بل كثيرًا ما يكون بغضّ البصر، أو بتبرير الجريمة، أو بالاختباء وراء شماعة «الحرب على الإرهاب» لتبرير كل تجاوز.
نحن لا نعيد، من خلال هذا البرنامج، فتح الجراح من أجل المتاجرة بالألم أو استدعاء الأحقاد؛ نحن نعلم أن كثيرين تعبوا من سماع أخبار الدم، وأن جيلًا جديدًا يريد أن يعيش حياته بعيدًا عن كوابيس الماضي. لكنّنا نؤمن في الوقت نفسه أنّ العبور إلى المستقبل لا يكون بدفن الذاكرة، بل بمواجهتها بشجاعة.
نحن نروي هذه الشهادات حتى لا تتكرّر المأساة، وحتى لا يضيع حقّ الضحايا بين زحام الشعارات والاصطفافات. أقلّ ما نستطيع فعله هو أن ندوّن تلك الجرائم، وأن نمنح أسماء من قُتلوا فرصةً أخيرة للظهور في سجلّ التاريخ، بدل أن يبقوا مجرّد أرقام في تقارير سرّية أو قبورٍ بلا شواهد.
إنّ توثيق ما جرى في البرواقية ،سركاجي، تازولت... وسجون أخرى ليس انتقامًا من أحد، بل هو محاولة لوضع حجر أساس لدولةٍ تحترم الإنسان حقًّا، وتعي أن العدالة لا تسقط بالتقادم، وأن المصالحة الحقيقية لا تُبنى على النسيان القسري، بل على الاعتراف، والمساءلة، وضمانات عدم التكرار. فالأمم التي لا تواجه ماضيها تظلّ أسيرةً له، ولو ظنّت أنها تجاوزته.
قد يبكي المذيع على الهواء، وقد يختنق الشاهد، وقد يصمت بعضُ الضيوف حين تعجز اللغة عن حمل ما في الصدور، لكنّ هذه الدموع والصمت والارتباك كلّها جزء من الحقيقة، وجزء من ثمن أن تقول «لا» للجريمة بعد كل هذه السنوات.
سنبقى نفتح هذه الملفات، لا لنجلد أنفسنا، بل لنحمي أبناءنا من أن يعيشوا كوابيسنا في ثوبٍ جديد: شعارات مختلفة، ووجوه مختلفة، لكنّ المنطق نفسه، والسجون نفسها، والنار نفسها.
هذا أقلّ ما يمكن أن نقدّمه لأولئك الذين احترقوا في قاعةٍ مغلقة وهم يصرخون ولا يجدون من يسمعهم. اليوم، نحاول أن نسمعهم متأخّرين، وأن نقول للأجيال القادمة: لقد كانت هنا محرقة… فلا تسمحوا بأن تُعاد.


