يوسف الحسن يكتب:

في الفساد.. الخراب

مدينة تقع على الحدود الأمريكية المكسيكية، تم تقسيمها إلى شطرين، قبل نحو مئة وثلاثين عاماً، قسم منها يتبع ولاية أريزونا الأمريكية، وقسم آخر يتبع ولاية مكسيكية، تتشابه في شطري المدينة المقسمة عوامل الجغرافيا والمناخ والأعراق، لكن الحياة افترقت بين سكان الشطرين.

في الشطر الأمريكي، نمط معيشة متقدم في خدماته الصحية والتعليمية، وفي حقوق أهله، ومشاركتهم في إدارة الشأن العام، وازدهار وأمن ونظام وقضاء وبنية تحتية حديثة، في حين أن الشطر المكسيكي، غارق في الفقر والتخلف والفوضى والعنف والجريمة والفساد.

في بلدان العثرات والنكبات، يعيش الناس على أرصفة التاريخ، وتُجهض فيها ممكنات الحياة والتقدم والاستقرار، وتهدر حقوق البلاد والعباد، لصالح زُمرة حاكمة، تخطف البلاد، حاضرها ومستقبلها، ثرواتها وطموحات شعوبها، زُمَر من السحرة الماكرين، تتلقف «حيَّات» عصيِّهم التي يلوحون بها أثناء خطبهم الشعبية، كل ثروات البلاد ومقوّمات وجودها ويقنعون الدنيا، بأن بقاء زُمرهم و«عصاباتهم» هو طريق الاستقرار ودرب السلام، ورمز الوطنية.

بلغ الفساد درجة يبدو فيها أن دولاً أصبحت قابلة للانفجار أو التفكك، وبخاصة حينما يتسابق كبار السياسيين فيها نحو السلطة، ويخلقون نظاماً للفساد والنهب متفقاً عليه، قاعدته الأساسية تقوم على فكرة «كلما زادت سلطتك، زادت درجة الاغتناء السريع والفاحش». فيهم الفساد والاستبداد في آن، وتغيب العدالة وتشيع ثقافة النهب والسمسرة وتبييض الأموال والرشوة والمحاصصة، ثم تكون النهاية كارثية، على الوطن ومقدراته وموارده ورأس ماله البشري والأخلاقي والمجتمعي.

مازالت ثقافتنا السياسية زائغة العينين، لا تدرك إلاَّ بعد (خراب البصرة) الزعيم الساحر، الذي يصلي في الجامع ،وفي آخر النهار، يسرقه، ويزوِّر معانيه ويشرعن ما كسبته يداه.

في عصور «الامبراطورية الرومانية المقدسة» قضى الأوروبيون ألف عام، يطاردون الساحرات والقطط السوداء، ويشترون صكوك الغفران التي تدخلهم الجنة، ويعالجون الكحة أو السعال بلبن الحمير، ويتبركون بعواء الكلاب.

كان الأوروبيون أكثر شعوب الأرض تخلفاً وفقراً وفساداً، وقد رصد (ابن فضلان) شيئاً من هذا التخلف والفساد. في الكتاب المعنون ب(رحلة ابن فضلان) والتي قام بها، على رأس وفد بتكليف من الخليفة العباسي (المقتدر) في القرن العاشر الميلادي.

وقد اطلع الوفد على عادات وأحوال شعوب وملوك في بلدان عدة مثل بلاد الترك والبلغار واسكندنافيا والروس والصقالبة والخزر.

هم تقدموا، ونحن تأخرنا، هم تغيروا وطورّوا وبنوا دولاً تحيا عصرها، وأسسوا نظماً ديمقراطية لإدارة الشأن العام، تحقق الشفافية والمحاسبة والمساءلة والمواطنة العادلة وتحافظ على حقوق الأوطان والإنسان ومن خلال دولة القانون.

قد يغضب قطاع من قطاعات شعوب هذه البلدان، وقد يتظاهر لكن لا أحد يشكك في صدقية مطالبه، مثلما لا أحد يفكر بإجراءات غير دستورية وغير قانونية، ضد الغاضبين من شعبه.

في بلدان العثرات والنكبات، ينتهي زعماء حكموا شعوبهم عقوداً عدة.. في متوسطها ثلاثة عقود، نهاية مفجعة، على صدى صيحات غضب شعبي من ضيق اقتصادي وفساد واستبداد، وانسداد أفق.. وبطالة وهدر موارد، وضعف خدمات، وامتهان كرامات، وفشل بنيوي عام للدولة.. ولا تنمية «ولا هم يحزنون».

نخبة من الأفراد، تتركز بين أيديهم السلطات، من دون أن يتم تأطير أو ضبط أو مراجعة قراراتهم وممارساتهم بقيود قانونية وضوابط المسؤولية والمحاسبة والشفافية.

تستحوذ هذه النخبة على ثروات البلد، تكدسها وتنهبها، في ظل شعارات براقة، يقودها سحرة من الفاسدين، قادرون على «تقنين» الفساد نفسه، ويتكلمون لغة الحواة، تارة بلغة «ثورية شعبوية»، وتارة بلغة «إسلاموية»، ويشترون مديح شعراء وإعلاميين كثر.

ثقافة الفساد إذا تسيَّدت، تسربَّت عدواها إلى المواطن البسيط الأعزل، حيث يتعلم في ظلها فنون «التسلل» من وراء ظهر القانون والأخلاق، خاصة حينما يكتشف أنه لا يستطيع أن يحصل على شيء بالحلال، في بلاد النكبات والعثرات ذوات الثروات المسروقة.

يتعلم هذا المواطن البسيط الأعزل، في ظل شيوع ثقافة الفساد، كيف يحصل على حاجته المتواضعة، من خلال وصفه شعبية طريفة، تبدأ بأن «يُرَقّص حاجبيه» على طريقة مذيع كذاب إخونجي في «الجزيرة» ومردداً بلهجة عراقية أو سودانية أو جزائرية أو بغيرها، جملة شهيرة: «صباح الخير والورد يا ورد، أو يا عسل أو يا زول أو يا زعيم».. الخ.

تتفاقم ظاهرة الفساد في الوطن العربي، وبخاصة في جوانبها المعلقة بأخلاقيات الوظيفة العامة مثل: إساءة استعمال السلطة أو المنصب، لتحقيق مكاسب خاصة، من خلال الرشى والابتزاز والمحسوبية والاختلاس. كما أن ضعف الحكومات وسلطتها، يُشجع على تفشي الفساد الإداري والمالي، وكذلك ضعف حكم القانون، وغياب أنظمة تكفل المصالح العامة، وتسييس القضاء، ووجود بيئة ملائمة من الحماية، توفرها أحزاب حاكمة لأعضائها مرتكبي جرائم الفساد.

تقود كل أشكال الفساد في نهاية المطاف إلى انهيار الدولة. وتقوّض التنمية وتزيد من معدلات البطالة والفقر والسخط الشعبي. وقد نبه ابن خلدون إلى مركزية عامل الفساد في انحطاط الدول.. واعتبار الفساد، مثله مثل الاستبداد، مؤذناً بأُفول الدول وخراب العمران.