عبدالله بن بجاد العتيبي يكتب:

قمم مكة… قوة السياسة السعودية

الزمان: العشر الأواخر من رمضان، والمكان: مكة المكرمة، والحدث: ثلاث قمم خليجية وعربية وإسلامية، ورؤساء وفود لما يقارب الستين دولة، إلى جانب مليوني معتمرٍ في أحد أكثر مواسم السنة ازدحاماً في مكة، ومع ذلك لم يطغَ حدثٌ على آخر، ونجحت القمم الثلاث وأدى المعتمرون شعائرهم في سهولة ويسرٍ، ما يعني الاستعداد الدائم للسعودية الجديدة للنجاحات المتكررة في الإدارة والسياسة والاقتصاد، وأنها قادرة على العمل على المجالات كافة في وقتٍ واحدٍ.

القمم الثلاث متداخلة الأهداف ومشتركة الغايات مع بعض الاختلافات المعتبرة، ولكنها هذه المرة كانت مركّزة وصريحة في مواجهة النظام الإيراني وعدوانه المتكرر على دول الخليج العربي والدول العربية، وبخاصة حوادث استهداف السفن النفطية والتجارية على سواحل الإمارات في بحر العرب وكذلك استهداف خط النفط الذي يربط شرق السعودية بغربها، وجرائمه المستمرة في استهداف المدن السعودية والحرم المكي الشريف بصواريخ باليستية تطلقها ميليشيا الحوثي التابعة له.

نجحت القمم الثلاث في حشد تأييد واسعٍ لمواجهة النظام الإيراني في مجلس التعاون الخليجي وفي الجامعة العربية باستثناء العراق المختطفة دولته إيرانياً، وفي القمة الإسلامية وهو نجاح يُحسب للدبلوماسية السعودية النشطة والفاعلة التي استطاعت في وقتٍ محدودٍ أن تجمع عشرات الدول في الدوائر الثلاث للقمم لتأييد موقفها الحاسم والحازم من العبث الإيراني الذي طال وتمدد، ولم يدع مجالاً للتعامل معه إلا بالمواجهة القوية المباشرة.

النظام الإيراني يرزح تحت عقوباتٍ أميركية لم يسبق أن وصلت إلى هذا الحد من قبل، ويشكك كثيرون في قدرة الاقتصاد الإيراني على الصمود أمامها وأنه سيخضع في النهاية مرغماً وبخاصة بعد الجدية التي أظهرتها إدارة الرئيس الأميركي ترمب تجاه قطع يده عن العبث الإرهابي الذي ظل النظام يلجأ إليه كلما احتدمت عليه الضغوط في أربعة عقودٍ مضت.

ما قالته القمم الثلاث هو أن السعودية تمثل قوة سياسية ضاربة في المنطقة والعالم، فهي الدولة القادرة على حشد عشرات الدول خلف رؤيتها ومشروعها في البحث عن السلام والتنمية وبناء المستقبل، وفي أنها لن تسمح للأنظمة المشاغبة والداعمة للإرهاب والطائفية بأن تعطل رؤيتها المستقبلية أو تعترض سبيل تنميتها الطموحة.

تأكيد أهمية القضية الفلسطينية وأولويتها في القمم الثلاث هو أحد الثوابت السياسية للمنظومات الثلاث، الخليجية والعربية والإسلامية، منذ إنشائها جميعاً في فترات متباعدة، وهذا ليس أمراً جديداً، وبخاصة لأن الدولة المنظِّمة للقمم الثلاث هي السعودية، وهي الدولة الأكبر تاريخياً في دعم القضية الفلسطينية على الصعد كافة، وهذا الموقف الثابت المبنيّ على الحقوق يجب أن يكون مُعيناً على البحث عن الحلول الواقعية، بدلاً من الاستمرار في مسلسل تفويت الفرص المعروفة تاريخياً عبر عقودٍ من الزمن.

إحدى كبرى المشكلتا التي تواجه القضية الفلسطينية هي قضية الانقسام الداخلي بين السلطة وحركة «حماس» الإخوانية، حيث استطاعت الدول الإقليمية استغلال هذه القضية المحقة عبر الشعارات والمزايدات الجوفاء لخدمة مصالح تلك الدول لا لخدمة القضية الفلسطينية نفسها، وأوضح دولتين استغلتا عدالة القضية الفلسطينية هما إيران وتركيا، وقطر كانت مطية لهاتين الدولتين في ظل استراتيجية قطر الباحثة دائماً عن تفتيت الدول العربية ودعم خصوم العرب الإقليميين.

كانت خطابات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وكلماته في القمم الثلاث تؤكد دائماً عناية السعودية الفائقة بالسلام في المنطقة، والتطلع لبناء مستقبل أفضل لدول المنظومات الثلاث مع تأكيد عدم السماح للخصوم في المنطقة بالعبث بتنمية هذه الدول ومقدرات شعوبها أو إعاقة تطلعاتها المستقبلية، وبالتالي التصدي الصارم لكل المشاريع المعادية وعلى رأسها مشروع النظام الإيراني الداعم للطائفية في دستوره المعلن وفي سياساته منذ تأسيسه وإلى اليوم.

نجحت هذه القمم الثلاث في حشد إدانة واسعة للنظام الإيراني ترفد الموقف الذي سعت إليه السعودية الجديدة في السنوات الأخيرة، والذي تحدث عنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مراتٍ عديدة، وهو أن هذا النظام المارق يجب أن يتخلى عن آيديولوجيته المتطرفة وعن أحلام التوسع وأوهام بسط النفوذ، وأن يعود للاهتمام بشعبه المضطهد والفقير لا لقلة موارد الشعب الإيراني، بل للعبث الدائم فيها وتركه يقاسي الفقر والجوع والموت لخدمة نخبة حاكمة تسيطر عليها أوهام استعادة الإمبراطورية الفارسية، وإنْ بثوبٍ طائفي متطرفٍ لا ينتمي إلى العصر ولا يعترف بالقوانين الدولية.

هذا الموقف السعودي المعلن عاد لتأكيده الوزير عادل الجبير في مؤتمره الصحافي بعد القمة الإسلامية في لحظة نجاح الحشد السياسي الناجح الذي قادته السعودية ضد النظام الإيراني وميليشياته وحلفائه من الدول والجماعات والتنظيمات الإرهابية، فأصبح اليوم ثمة موقف خليجي قوي وموقف عربي داعم له وموقف إسلامي صريح وواضح، يضاف هذا كله إلى الحشد الدولي القائم الذي تقوده الولايات المتحدة ويقتنع به العديد من الدول في أوروبا وحول العالم، ما يزيد من تعرية هذا النظام المارق والشاذ عن حركة التاريخ ومنطق السياسة وواقع الحياة المعاصرة.

سياسة العصا والجزرة تؤتي أكلها هذه المرة مع هذا النظام، فهو نظام لا قِبل له بمواجهة هذا التوجه الدولي والإقليمي الجديد ضد اعتداءاته وسياساته وتدخلاته في الشؤون الداخلية للدول العربية، إنْ بالميليشيات أو جماعات الإرهاب في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وإنْ بخلايا التجسس والإرهاب في عدد من دول الخليج والدول العربية، وقد آن الأوان ليعيد النظر في استراتيجيته العدوانية، وأن يفتش عن السلام مرغماً هذه المرة لا مختاراً.

العديد من الدول العربية والإسلامية صارت تفكر جدياً في مستقبلها ومستقبل شعوبها، وتفتش عن مكان في هذا العالم عبر طريق الاستقرار والتنمية وبناء المستقبل الناجح للأجيال القادمة، وبخاصة في الدول العربية التي قاست من ويلات ما كان يُعرف بالربيع العربي، وعانت من تفشي الأصولية والإرهاب بعده وهو ما صنع وعياً جديداً لدى الأجيال الشابة بالبحث عن التنمية والتطور والمستقبل والابتعاد عن الشعارات والمزايدات التي أودت به عبر عقودٍ إلى التخلف والتطرف.

الشرق الأوسط