كرم نعمة يكتب:

بندقية الأمس هاتف ذكي اليوم

عندما كان النقاش يقود إلى الجدل في عصور آفلة ينتهي الأمر بأن يحمل الرجال السلاح ويتوجهون إلى ميدان القتال، كان السلاح أداة الرجل للتعبير عن نفسه، هذا لا يعني أن المرأة لم تكن تحمل سلاحها آنذاك.

اليوم نعيش في عصر تكنولوجي مناسب لسد فجوات ما كان يسمى بعصر السلاح، فلكل منا سلاحه الشخصي المعبّر عن طريقة تفكيره بما فيها الإعجاب والكراهية والانتقام والتحيّز والترويج، ومن يدري ربما نصل إلى يوم يكون بمقدور المغردين إرسال شحنات كهربائية قاتلة عبر أجهزتهم الذكية للقضاء على الخصوم في منازلهم!

الهاتف الذكي سلاح الإنسان اليوم، وهو أفضل بمرات من السلاح العتيق الذي يحترف القتل أو الصيد فحسب، فالهاتف يمتلك جملة مواصفات معبّرة بامتياز عن كل ما يكنّه الإنسان لمحيطة، مثلما هو أداة لإنجاز مهام حياتية وتواصل مع الآخر على أطراف متباعدة من العالم.

هذا السلاح المشروع معادلة وجودية تعبّر عن كوننا حاضرين ومشاركين بقوة، وهو أشبه بنافذة على عمل سياسي وإعلامي مزدوج غير متوازن على نحو متزايد، صار بيد الجميع وبتشريع قانوني مبكر أشعر الحكومات لاحقا بالندم، عندما خرج عن نطاق سيطرتها وصار معارضا لها وناشرا الأكاذيب ومحرّضا على سلطاتها ومهددا أمنها.

الهاتف الذكي سلاح جديد أخطر بكثير من البندقية، وتلك الحقيقة صارت تعريفا جديدا للإعلام، كانت الفكرة التاريخية تقول أن وسائل الإعلام أول من يدخل ميدان المعركة وآخر من يغادرها، وفي عصر الهواتف الذكية صار الإعلام هو المعركة ميدانا وأداة وبشرا هم بمثابة الجنود في مفهوم المعارك القديمة. لا يوجد استثمار أخلاقي لحد الآن من قبل الدول ورؤوس الأموال الكبرى في الهاتف الذكي وهو يخوض الحرب الأخطر في تاريخ البشرية.

من يدير هذه المعركة اليوم؟ ذلك هو السؤال الملتبس الذي خرج عن سيطرة الدول وهدد أمنها؟ لأنها معركة بميدان فضائي شاسع يكون الاتصال فيه باتجاهين على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع، يتقاطع فيه المتحاربون، ويتخذون أكثر من هيئة تتخفى بآلاف الأسماء والتعريفات، تخاتل، تكذب، تلفق، تنشر الإشاعات، تزور الصور… بانتظار أن توصلنا الشركات التكنولوجية إلى هواتف ترسل شحنات قاتلة!

يمكنك الشعور بفوضى العالم عبر الأجهزة الذكية بمجرد الاستيقاظ صباح كل يوم، لأننا رغم التحذيرات نتجه إلى هواتفنا الذكية قبل أي فعل آخر لنعرف تفاصيل المعركة المستمرة طوال الليل لنستمر معها على مدار النهار.

فقد لاحظ دانييل غيلبرت، الرئيس التنفيذي لشركة برين لابز لتحليل الإعلانات أن العلامات التجارية الإعلامية الجديدة وجيلا جديدا من شركات الخدمات تستخدم الاتصال المباشر مع المستهلكين للنمو. وقال إنها تشكل شريحة ضخمة من المعجبين المتعصبين.

وفي كل الذي يجري، الإعلام الضحية الأكبر، وهو يعيش زمنا ليس عادلا بحقه، فهناك ما يسمى بالدهاء التكنولوجي تعمل عليه منظمات وأحزاب سياسية من أجل الوصول إلى الناخب والتأثير على الأفراد لأنهم يحرصون على سماع أصواتهم خارج الخطاب الإعلامي المرسل من الوسائط التقليدية.

لا التلفزيون ولا الصحف صارت موضع ثقة بالنسبة للجمهور، هناك أصوات تقدّم الإغراء المناسب لمزاج الجمهور، تصلك أينما تكون من أجل هدف واحد هو التأثير عليك واستقطابك للحصول على صوتك في معركة افتراضية تنتهي على الأغلب بنتائج واقعية على الأرض في تشكيل الحكومات والسياسات، والدفع برجال الدين والإعمال إلى مواقع القرار.

المؤسسات الأمنية والحكومات والأحزاب والسلطات التنفيذية تأخذ بنظر الاعتبار المناقشات والأصوات التي تجري على منصة الإنترنت. بوصفها التعبير الأمثل لما يجري على الأرض لمراقبته، ويمكن عن طريقها اتخاذ القرارات المناسبة.

نشر مؤخرا تقرير عن خطة طويلة الأمد يعمل عليها حزب بريكست المبني على قضية واحدة برئاسة نايجل فاراج والساعي إلى إخراج بريطانيا من أوروبا، تتلخص باستخدام تطبيق عبر الأجهزة الذكية يجمع آراء الأعضاء ويقوم بتحليلها ومن ثم الرد عليها، هي معركتهم الجديدة للتأثير على العقول مثلما هي معركة حركة النجوم الخمسة الايطالية الشعبوية.

تعبّر زوي هودج الكاتبة في صحيفة التايمز عن رغبتها مثل بقية الجمهور لإيصال أصوات الناس إلى السياسيين، وهو أمر مفيد أن يكون للتكنولوجيا دور في القضايا الخاصة، لكنها تتساءل ماذا بشأن استغلال بيانات الأشخاص واستهدافهم في معلومات مضللة أو انتهازية أو حتى أنانية؟

تقول زوي “نريد من السياسيين سماع آرائنا ولكننا لا نريدهم استخدام بياناتنا لاستهدافنا”. وتنبه إلى ضعف الحكومات في استجابتها للتحديات الرقمية ومعرفة الجهات التي تتصيد الناس في غرف تترقب الصوت والصدى في الفضاء الرقمي!

الشركات التي تقود الحرب الجديدة هي بمثابة جيوش الأمس، تمتلك علاماتها التجارية الإعلامية، والجندي الواحد فيها بمثابة فرقة محصنة بالمعلومات الهجومية للتأثير على قرار الناس ودعم الحلفاء وإسقاط الخصوم في حرب مشرعة تقلق الدول وأمنها وإن كانت طرفا في مجرياتها، لأنها خارج حدود السيطرة يوما بعد آخر.

تنقل صحيفة فايننشيال تايمز عن بينديكت إيفانز، من شركة أندريسن هورويتز، قوله إن “احتكارات التكنولوجيا لا تميل إلى السقوط مثل روما، لكنها تسقط مثل البندقية. إنها لا تزال موجودة، ولا أحد يغزوها فعليا، لكن طرق التجارة انتقلت إلى أماكن أخرى، والأشياء التي منحتها القوة والثروة توقفت عن أن تكون مهمة، وأصبحت مجرد مدينة أخرى، ومن ثم مدينة مهملة في الخلف”.

وهكذا تدرك الدول أن الهاتف الذكي سلاح قاتل أشدّ من بندقية الأمس، لكنها لن تمتلك اليوم ولا غدا القرار بمنع تداوله كما كانت تفعل مع البنادق بالأمس، لأنه ببساطة صار أداة لإدارة العالم.