عمر علي البدوي يكتب:

الجهد الواعي دليل فك الارتباط عن أعباء الأسلمة

في سياق ما تشهده حالة الإسلام السياسي من انحسار وهزائم متتابعة في مواقع مختلفة من الشرق الأوسط، اضطرت ثلة من أحزابه وجماعاته إلى مراجعة الذات، وبلورة أشكال من الانشقاقات الحادة في بناها التنظيمية وانشطارات قاسية في عدّتها الفكرية.

ففي أعقاب ثورات الربيع العربي استغرقت جماعات الإسلام السياسي في لحظة غير عادية من الانتصار والتمكين، ما حقق لها خلال المرحلة الرخوة لما بعد الثورات فرصة الحكم في عدد من البلدان.

لكن ذلك لم يستمر طويلا، إذ تحولت قبلة المجتمعات إلى غير الإسلاميين الذين خسروا ثقتها، تبعا لما نتج عن انفرادهم بالتأثير على مصائر الدول والشعوب عقب الربيع العربي من واقع متشظ وغياب للاستقرار وتأجيل للكثير من استحقاقات الثورات ومطالب الشعوب.

لم يسيطر الإسلاميون على المشهد لكونهم الأكثر تنظيما فقط، بل كان ذلك أيضا تتويجا لجهد طويل من العمل المتمهل في خلفيات المجتمع، إذ سيطروا على الكثير من المنابر العامة التي مكنتهم ولعقود من بث دعاياتهم والتسويق لأفكارهم والاستحواذ على وجدان المجتمع العربي بما يوافق هوى أيديولوجيتهم، الأمر الذي خلق وعيا مشوها، وعقلية اجتماعية مستلبة، ضاعفت من متاعب التحول نحو واقع مدني وعصري مكتمل العناصر والسمات.

الإسلاميون عبر أدواتهم الالتفافية والانتهازية، تمكنوا من الاستحواذ على مخرجات ونتائج ما بعد الربيع العربي، قبل أن يعود المجتمع ويستعيد ثقته بنفسه ويلفظ تلك الجماعات

الآن، وفي طريق فك ارتباط المجتمعات المسلمة عن تأثير الجماعات الإسلاموية التي انفردت لعقود بتشكيل وعيها، وبناء ترسانتها الفكرية في القواعد الشعبية، يتطلب الشرط الموضوعي لإعادة تأهيل الوعي العام، جهدا صلبا لمساءلة المنظومات الراكدة في الخلفيات الثقافية العمومية، وإحلال أجهزة مفاهيمية وفكرية مستعدة لواجبات المستقبل، ومتخففة من أعباء الأسلمة وركام الأيديولوجيا المغلقة.

كان الإسلاميون يفضلون شغل مواقع التعليم والتربية لما تحويه من قدرة على التأثير في وعي الأجيال والناشئة، وتأسيسها فكريا عبر منابع التعليم الأولى، لاسيما في الدول الناشئة حديثا، كانت القيادات الإسلامية النازحة من الحواضر العربية المتقدمة تستحوذ على مواقع القرار في وزارات التعليم والشؤون الدينية والمساجد والجامعات، وكانت تستقطب الكفاءات التعليمية من نفس المدرسة الفكرية التي ينتمون إليها، وقد حقق لهم ذلك تأثيرا عريضا وواسعا في الكثير من المجتمعات العربية المختلفة.

كان الإسلاميون يشغلون مواقع نافذة في لجان كتابة المناهج المدرسية، لاسيما في دول الخليج التي كانت تعتمد على الكفاءات الوافدة من سوريا ومصر والسودان، وكانت المناهج المصممة بتأثير الإسلاميين مشحونة بالشروط الأيديولوجية لبناء وعي مندرج في سياق الاستعداد والتحفز للوفاء بواجبات الحركات الإسلامية وأدوارها، وقد ظهر هذا العقل المصمم خصيصا في الكثير من الوقائع والأحداث التي كان يجنح فيها الوعي العام نحو نداء الجماعة الأممي دون أدنى اعتبار أو اشتغال على الواجبات الوطنية والمحلية.

وقد وصل هذا التأثير إلى برامج الابتعاث التي اعتمدت عليها الدول العربية الناشئة في بدايات تحديثها، وقد كان الإسلاميون عبر نفوذهم العريض يدفعون بالمنخرطين في قوائمهم، محاولين رفد هياكلهم التنظيمية بالكفاءات العلمية المتأسلمة والمصنوعة على عين “مجالسهم الشوروية ” وصفوف القيادة المتقدمة.

وعندما تضيق فرص التمكين في مواقع التعليم، كان الإسلاميون ينشطون في بناء “المنهج اللاصفي” وهو سلة من مؤسسات التعبئة الاجتماعية التي تخترق القطاعات الأهلية، وتعيد إنتاجها في مطابخ النشاطات المختلفة والغارقة في أطر الجماعات الأيديولوجية بما يحشد المزيد من المدموغين بسرديتها الموتورة.

استمرت الجماعات والأحزاب ذات الخلفية الإسلامية في التمدد إلى كل الفعاليات الاجتماعية التي يسعها تحويلها إلى منصات للتعبئة والتحشيد العام، وتمدها بالمحتوى المشحون بالطاقة الانفعالية والأدوات المؤثثة بالأيديولوجيا.

ومع الانفتاح الفضائي، وتدشين مرحلة القنوات والمحطات التلفزيونية، اندفع الإسلاميون في فتح موائد الكلام المجاني، والاستثمار في هذا القطاع الحيوي لبث دعايتهم وتوسيع نطاق خطابهم، وقد تزاحم الفضاء بالمقولات الإسلاموية التي تعالج المواقف والأحداث بعدتها القاصرة عن الوفاء بالشروط العلمية والموضوعية، والمثخنة بحمولات السم التخويني والضغينة الحزبية.

لم يسيطر الإسلاميون على المشهد لكونهم الأكثر تنظيما فقط، بل كان ذلك أيضا تتويجا لجهد طويل من العمل المتمهل في خلفيات المجتمع

فيما تشكل منابر الجمعة ذروة ما قد تبلغه الحركات الإسلاموية من اشتباك الدين بالسياسة، وتكشف أداء توظيفيا سافرا لمنابر العبادة ومحاريب الطاعة وتحويلها إلى مسارح أيديولوجية تعبوية، تستلب عقل الفرد وتشوه وجدانه، وتحوله إلى كائن مذعن مستسلم لأهدافها الحزبية تحت سياط الدين وعبر استغلال آلياته.

محاولة الإسلاميين بناء سياق اجتماعي مستسلم لسرديتهم ومنسجم مع شروط تمكينهم، قديمة منذ صكّ أشهر منظريهم سيد قطب مفهوم العزلة الشعورية الذي ينظر باستعلاء إلى عموم الخارجين عن نطاق الجماعة.

كما يوفر لهم القدرة على الانفراد بثلة تستقل عن أي تأثير عمومي وتستجيب لواجبات الجماعة، نفوسها مملوءة بشعور التميز وبأنها فوق عالمها وفوق مجتمعها، أرسلها الله ليستنقذ هذا المجتمع من تلك الهوة التي نجت وحدها منها، بعضويتها في تلك الجماعة، لذا بدت مطالبة وفق هذا التوجيه القطبي، بألاّ تلجأ إلى الخيار الأسهل في اعتزال تلك المجتمعات، بألاّ يجاريها في شيء من قوانينها، أو أعرافها، لأنّه بعضويته في تلك الجماعة يبقى أطهر روحا، وأطيب قلبا، وأذكى عقلا.

ورغم أن انتفاضات الشارع العربي جاءت، حسب مطالبها، خروجا عن نص ما تؤمن به هذه الجماعات، وما صبغ سلوكها وشعاراتها من مظاهر ليبرالية حظيت بتأييد وإجماع شعبيين، كتعبير واضح عن تراجع الهيمنة الفكرية والأيديولوجية للإسلاميين وبزوغ خيال اجتماعي جديد، نمط حياة مختلف، يمكن أن ينمو ويهيمن ويفرض نفسه إذا هُيّئت له الظروف، لكن الإسلاميين عبر أدواتهم الالتفافية والانتهازية، تمكنوا من الاستحواذ على مخرجات ونتائج ما بعد الربيع العربي، قبل أن يعود المجتمع ويستعيد ثقته بنفسه ويلفظ تلك الجماعات إلى خارج دوائر القرار والتأثير، لكن الكثير من آثارها لا يزال ماثلا، ويتطلب الأمر جهدا واعيا لفك ارتباط هذه المجتمعات عن أعباء هذه “الأسلمة” وركامها.