عمر علي البدوي يكتب:

البحث عن حل ينهي القتال في اليمن

مجددا، يضع التحالف العربي الأزمة اليمنية في اختبار جديد لوجهة نظر المجتمع الدولي الذي طالما أذعن لسردية مغلوطة تشجع على تحميل وزر المأساة في اليمن للجهود التي يبذلها التحالف العربي لدعم الشرعية، وتبرئة ميليشيات الحوثي من مسؤولية الإمعان في تكبيد اليمنيين تكاليف ومشاق مشروع انقلابي مستبد، بهوية مسترجعة من خارج الزمن.

طرحت السعودية، وهي قائد التحالف في اليمن، “فرصة” كما درجت على تسميتها أغلب خطابات التأييد من الدول العربية والأجنبية، لتحقيق سلام شامل وعادل، وتشجيع مبادرات الحوار الوطني الذي تنتظم فيه مكونات اليمن للخروج بالبلاد من نفقها المظلم والانخراط في مشروع إعمار مستقبل متحرر من سيطرة القبيلة وحاضن لكل تلوينات البلاد.

من الوهلة الأولى، رفَض الحوثيون الانصياع لهذه الدعوة. وبناء على ذاكرة اليمن التي تحتفظ بالكثير من تفاصيل تفريط هذه الجماعة بالفرص للخلاص من المأزق، فالأقرب أنها لن تستجيب لأي دعوة تقلص من حلمها الجنوني للسيطرة وابتلاع البلاد. ولن تتنازل قيد أنملة إذا كان مضمون الدعوات ينطوي على كبح طموحها للاستئثار بحكم البلاد ويزاحم انفرادها بتسيير شؤون اليمن والقبض على مصير أهله.

ما يراد الآن من المبادرة السعودية هو وضع المجتمع الدولي أمام حقيقة الأزمة، وأن ما يثار من غبار معارك هو نتيجة تعنت الحوثي ورفض كل الدعوات لتحقيق شراكة تتسع لكل مكونات البلاد. فاستمرار الأزمة اليمنية هو نتيجة طبيعية لمكابرة الحوثي وإصراره على التفريط بروح آخر مجند يمني مغلوب على أمره تمنطق بمشروع انقلابي لم يضمن له سوى الشقاء.

بدأت الإدارة الأميركية الجديدة فترتها بالكثير من التوقعات تجاه الأزمات في المنطقة، واختارت مبكرا دعم خيار إنهاء الحرب في اليمن، سواء أرادت استخدامه ورقة مقايضة في تعاملها مع المسألة الإيرانية التي تشكّل أبرز الاهتمامات السياسية لإدارة جو بايدن، أو بدافع “القيم الإنسانية” والدفاع عن الديمقراطية التي تتخذها معيارا وربما ذريعة في تعاطيها مع ملفات المنطقة، حسب ما ردد أعضاء الإدارة الديمقراطية.

أبدى التحالف العربي بقيادة السعودية استعدادا إيجابيا للوصول إلى حل ينهي القتال، شرط أن يقع ذلك في إطاره الصحيح، بعيدا عن مغالطات من قبيل أن الحوثي ليس إلا تفصيلا صغيرا في مصفوفة الفاعلين في الواقع اليمني، بينما هو في حقيقة الأمر المسؤول الأكبر عما آلت إليه البلاد من وضع مأساوي. تريد مبادرة السلام المطروحة مؤخرا أن تضع الإصبع على الجراح، والحقيقة على مرأى ومسمع الجميع.

المبادرة صدرت بالتنسيق مع الجانب الأميركي، وهذا يمنحها بعدا دوليا، ويوسع دائرة الواقفين على الحقيقة التي غابت عن بعض العواصم الأجنبية التي وجهت سهام نقدها إلى التحالف العربي وحملته وزر المأساة اليمنية. ومن شأن المبادرة أن تعيد تأهيل دور المبعوث الأممي مارتن غريفيث، الذي ظهر خلال الأزمة وكأنه عالق ومتعثر في تشعباتها.

أين تقف إيران من هذه اللحظة الفارقة لمصير اليمن؟

لا تأبه طهران بأرواح اليمنيين أو باستنزاف بلادهم. حماية شبر واحد من الأراضي الإيرانية تساوي في حسابات “الولي الفقيه” العشرات من المنضوين تحت لواء الحوثي. ولا يضير حكام طهران أن يطول أمد الحرب طالما بقي التعنت الحوثي مغروزا في خاصرة السعودية، التي تبنت مشروع مناهضة النفوذ الإيراني وتقويض طموح حكامها للتوسع وبسط سيطرتهم على المنطقة.

لن تسكت بنادق الحوثيين ما لم تصلهم الأوامر من طهران، أو يعيد المجتمع الدولي ومعه الإدارة الأميركية تقييم ودعم وجهة نظر التحالف العربي في مواجهة التعنت الحوثي وإضعاف قبضته على الأراضي الحيوية في البلاد، وإرغام الجماعة على قبول حوار جاد مع بقية الأطراف اليمنية للوصول إلى حل نهائي وشامل للأزمة بناء على المرجعيات الثلاث: الوطنية والإقليمية والأممية.

إلى جانب الحلول العسكرية والسياسية التي تحوز على الضوء الأكبر في نقاشات المسألة اليمنية، هناك معركة فكرية وثقافية غير مرئية يجب خوضها.

خلال تدخلاتها البشعة في المنطقة برعت إيران في تحقيق مستوى من الاختراق الفكري وتزييف الوعي وإعادة تأثيث الذاكرة الوطنية بسردية ظلامية مستسلمة لأيديولوجيا شديدة التخلف. وقد تسببت المكونات الفكرية، التي زامن الحوثيون بناءها مع العمليات الحربية التي يقومون بها، في إحباط كل محاولات الانفكاك، وشلت قدرة الأجيال المرتهنة لها على الخلاص، وكبلت طاقتهم الذاتية للتحرر من كهنوت مشحون بالحقد والكراهية والموت.

لقد بنى الحوثيون منذ انقلابهم على حكومة صنعاء عام 2014 مشروعا للاستحواذ على عقول الناشئة. واليوم، تنشط مقاومة كانت مكتومة تحت رماد الحرب لهذا المخلوق الفكري المشوه الذي جثم على صدر شعب خرج من قمقم مأساته صارخا في الميادين طلبا للنجاة من جوائح الفقر والتخلف والموت البطيء، وأن يقبل به ضيفا يتطلع للالتحاق بدولة تهضم مفردات الحداثة والتحضر.

ينبغي لهذه السردية أن تسود وتنتصر وتخرج اليمن من ركام الفرص المبعثرة والمتشظية بين أقدام المسربلين بأكفان الإمامية البائدة. لا بد من دولة عصرية تلفظ النظام الرمزي والفكري لجماعة الحوثي، وإن طال الانتظار.