عمر علي البدوي يكتب:
تسرّع بايدن يصطدم بتعقيدات الشرق الأوسط
انقضى شهران حتى الآن على وصول الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض، وهو مستمر في توزيع التصريحات والإعلان عن سياسات وخطوط عريضة سيتبناها خلال المرحلة المقبلة بخصوص عدد من الملفات يتفاوت تعقيدها من منطقة جغرافية إلى أخرى.
العنوان الأبرز الذي تنتظم تحته كل التصريحات السياسية التي أدلى بها بايدن أو أحد أعضاء حكومته، التي تقول الكثير ولا تقول شيئاً، هو إعادة ضبط العلاقات وتتويج ما يسمونه القيم الأميركية على رأس كل المواقف المتوخاة بعد ولاية ترامب العاصفة والمشككة. لكن واقع الحال أن بايدن زاد من حالة التشكك والتردد والحيرة من دقة ما تريده واشنطن من وراء تصريحاتها ومن حلفائها أو حتى أعدائها المفترضين.
التحليلات السياسية التي استبقت وصول بايدن إلى سدة حكم، على الأقل حتى الآن، كانت مبالغة في تحوطها وتوقعاتها. ولا تبدو واشنطن مستعدة أو جاهزة للمضيّ بعيداً في بعض الخيارات التي أجزلت عليها الكثير من الكلام والوعود، سواء كان ذلك نتيجة سوء تقدير لقوة وحيوية الدور الأميركي، أو لضعف بنيوي في إمكانات التدخل التي لا يزال بمقدور واشنطن بذلها في مناطق ساخنة حول العالم، أو نتيجة مخاض تعيش معمعته لتدبير الشأن الخارجي وإعادة ترتيب أوراقها وأولوياتها تجاه مناطق الخطر والتهديد والفرص.
يعتقد فريق بايدن بجدوى سياسية الإدارة من الخلف، بمعنى أنه يحسن بالدور الأميركي أن يكون مؤثراً لكن غير موجود
هناك إجماع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي على ضرورة إعادة تصور الدور الأميركي الخارجي وقولبته من جديد. شجّع تقرير لمركز راند في فبراير الماضي على تبني تصور جديد في الشرق الأوسط يتم فيه التقليل من الأدوات العسكرية الموضوعة في خدمة الأجندة الأميركية، والتركيز على دعم المعايير الإنسانية والديمقراطية والضغط على الشركاء في هذا الاتجاه، والتخفيف من حدة الصراع والتكيف مع الحقائق الإقليمية الجديدة.
في وثيقة إستراتيجية الأمن القومي المؤقتة التي أصدرتها إدارة بايدن في أول مارس الجاري كان لافتاً ذكر الصين وروسيا أكثر من ذكر الشرق الأوسط وإيران، ما يشير إلى أن واشنطن متعجلة للخروج من المنطقة تاركة خلفها الكثير من الفوضى والسياسات المشوهة التي كانت هي واحدة من أسبابها.
التقطت دول المنطقة الإشارة، أو بالأحرى واجهت الواقع الجديد الذي يشهد رغبة أميركية متزايدة للانسحاب مخلفة فراغا هائلا وحيرة في دول المنطقة. ويبدو الشرق الأوسط في مخاض هو الآخر لترتيب اصطفافاته في ظل هذه التبدلات العالمية؛ الكثير من العداوات أخذت تتلاشى في ظل الواقع المتبلور، ومثلها بعض الصداقات التي استجدت واستجابات لاستحقاقات المرحلة وما تشهده من تغير.
في اليمن، إيران، سوريا، الخليج، إسرائيل، تركيا، مصر، وليبيا نسمع الكثير من التصريحات البرّاقة والقليل من الأفكار العملية، وكأنما قدرة واشنطن قد شحّت عن بلورة موقف واضح في كل هذا الكمّ المتناقض والمتعارض من المصالح والشراكات والواجبات. إنها حروب لا نهائية بالفعل تخيّم على الشرق الأوسط.
يعتقد فريق بايدن بجدوى سياسية الإدارة من الخلف، بمعنى أنه يحسن بالدور الأميركي أن يكون مؤثراً لكن غير موجود. يدلي بما ينبغي على الجميع فعله، ويقدم الكثير في سبيل ما يفكر بشأنه تجاه كل هذه الأزمات والواجبات.
عندما يتعلق الأمر بدول الخليج هناك موقف مرتجل بسبب المعاملة التفضيلية التي كان يبديها ترامب تبدو بسببها خطوات إدارة بايدن بمثابة انتقام بأثر رجعي تشبه ما فعله دونالد ترامب بإرث سلفه باراك أوباما عندما كان يمحو خطواته على أرض السياسات والقرارات الرئاسية.
وعندما يتعلق بدول أخرى هناك تفسير اعتباطي لقضايا حقوق الإنسان يتم استخدامه لتحقيق طلبات أميركية من شأنها أن تحقق المصالح بأقل التكاليف وبأقل الالتزامات.
في اليمن الجميع يرى ضرورة إنهاء الحرب لكن الأزمة عالقة، والشيطان يسكن في التفاصيل. حيث لا تجد واشنطن سوى سيل التصريحات الموزعة على مدى الشهرين الماضيين. هناك تواصل فوق الطاولة وتحتها، لكن لا ضمانات ولا ضغوط كافية لتشجيع الطرف الحوثي المتعنت والمتشبث بتحقيق مآرب الرعاة في طهران.
مع إيران الأطراف متحمسة لعودة الاتفاق السابق، لكن لا أحد مستعدا ليأخذ الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، بل إن طهران تمضي بعيداً في تعقيد المسألة ورفع الثمن.
بايدن زاد من حالة التشكك والتردد والحيرة من دقة ما تريده واشنطن من وراء تصريحاتها ومن حلفائها أو حتى أعدائها المفترضين
هناك فكرة رئيسة ينبغي أن تكون في صدر اهتمامات النخب العربية وهي أن لدى واشنطن وجهة نظر تجاه المنطقة أو تصور جديد لتسيير شؤونها، ولدى روسيا نية أخرى للاستفادة من ارتخاء الممانعة لتوسعها في المنطقة، وتشاركها الصين نفس الرغبة للتوسع ولكن عبر أدوات ناعمة اقتصادية واستثمارية، وأخرى صلبة للتأثير في محيطها الحيوي مستفيدة من فرص واعدة لدى لاعبين إقليميين مثل إيران وتركيا وإسرائيل. وتطمح بريطانيا وفرنسا وعدد من دول أوروبا لانتزاع نصيب من صناعة السياسات وحيازة المكاسب الاقتصادية أيضا.
أمام هذا التداعي الدولي والإقليمي تكتفي دول المنطقة برد الفعل، والتوقف عند إبداء التعاون مع الحلفاء الأقل كلفة وضرراً على مصير المنطقة. لا يوجد تصور واضح لمشروع يتبنى مبادرات وأفعال تحصين المنطقة من الاختراق ويعطي وجهة نظر عربية خالصة الأولوية في توجيه رياح السياسات والشأن العام. هذا بحد ذاته نقطة ضعف وموقف رخو تنفذ من خلاله المشاريع الأكثر جرأة في استقطاب المنطقة واختطافها من يد أصحابها الأصليين.
لمواجهة ذلك ينبغي التوقف عن ترك المنطقة مستباحة لهذه التصورات الخارجية، وبناء معمار سياسي وإستراتيجي يكون استجابة أصيلة لحاجاتها المحلية، وحماية لها من أمواج سياسات تغمرها بالفوضى وتستنزف مقدراتها وتسلب أجيالها حق العيش بسلام واستقرار.