د. ياسين سعيد نعمان يكتب:
"الإنسان" بين توحش قيم التخلف وطغيان التكنولوجيا
ابحثوا عن "الإنسان" في كل منتج بشري.. ذلك أن مساحته في هذا المنتج هي التي تحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية في كل مجتمع، ودرجة استعداده للتحضر.
المساحة التي يحتلها "الإنسان" داخلنا تعكس قدرتنا على بناء قواعد ثابتة للعلاقة مع الحياة في حركتها، كقيمة عصرية متجددة.
ولكي نستوعب حقيقة أن الحياة "قيمة عصرية" تتجدد بالعمران، والتطور العلمي، والاجتهاد، وحرية التفكير والتسامح، فإنه لا بد من توسيع مساحة "الإنسان" في الفكر والفعل والعمل والسلوك.
أخذ التخلف طوال قرون يحاصر البشرية، ويطحن "الإنسان" بداخلها، ويملأ مساحات واسعة في هذا الداخل بقيم: الكراهية، العصبية، العنصرية، الاستبداد، الإرهاب، الدوجما، وقوائم الممنوعات بما في ذلك حرية التفكير.
لم تجسد القصور الفارهة ومظاهر الحياة المترفة وهي محاطة بالأكواخ وطوابير الجائعين في كل الأزمان أي قيمة حضارية لخلوها من "الإنسان".. ظلت شاحبة، بلا روح، متجهمة، لا يربطها رابط بما حولها وكأنها غرست في جوف "الإنسان" لتقهره، وتسحقه، وتنشئ قيمها النقيضة لحاجاته في تراكمات قادت إلى المزيد من التوحش في العلاقات الاحتماعية.
ولذلك فقد كان لا بد أن يتجه الصراع مع التخلف وقيمه إلى المسار الذي يحرر "الإنسان"، ويطلق مبادراته وتأثيره على أوسع نطاق، باعتبار ذلك شرطاً لتمكين البشرية من أنسنة الحياة بالمعنى الذي يجعل هذه المهمة فعلاً بشرياً يجسد سمو الثقافة والوعي والسلوك، إضافة إلى معنى أن تبقى "إنساناً" ينبض بالانسانية قولاً وفعلا.
ولا بد من القول هنا إن نبذ هذه القيم المركبة على نحو يناقض حاجة البشرية إلى إعادة الاعتبار ل"الانسان" المسحوق بداخلها، ليست خياراً مفتوحاً على احتمالات الممكن من عدمه، بل هي ضرورة لا بد منها.. لأنها هي التي:
-تدمر فينا "الإنسان"..
-تضعف قدراته في التصدي لمتطلبات وجوده بعناوينها التي تتوقف عند حدود المسموح به وبشروط قاهرة لإرادته، بما في ذلك حقه في الاجتهاد، وحقه في الاختيار، وحقه في التفكير، وحقه في الاعتقاد، وحقه في أن يعيش بسلام.
-تبعث قيم التوحش التي تتسبب في الاستبعاد الاجتماعي بمعانيه الأكثر احتقاراً للانسانية..
-تحاصره على نحو لا يستطيع معه أن ينشئ علاقته بالحياة ككائن اجتماعي - توجب عليه أن ينفتح على المجتمع، ويصون شروط تطوره وأمنه واستقراره..
-تحول بينه وبين أن يتجدد ويجدد لينتج المعرفة المعادلة موضوعياً للتقدم، باعتبار أن التقدم هو الحياة في سيرها إلى الأمام بما تفرضه من بواعث التجديد الفكري والمعرفي والمادي التي لا تتوقف عند ما يعرف بالمسموح به.
هذه المساحة التي يتمدد فيها "الإنسان" هي التي تنمو فيها العلاقات الاجتماعية بمضامينها الإنسانية، وتزدهر فيها الثقافة والمعرفة والعلوم، وتؤسس فيها قواعد قوية للتعايش، واحترام الآخر والدفاع عن حقوقه لحماية منظومة الحقوق التي توفر مناخ الحرية والإبداع وشروط التجديد.
ولذلك فإنه كلما اتسعت هذه المساحة وتقلصت "قيم التخلف" التي تنتقص من قيمته، ازدهرت الحياة بقيم الإنسانية وفي مقدمتها الحرية، والعدل، واحترام حقوق وخيارات الآخرين.
هذه المساحة هي التي نتحمل فيها مسؤولية عملنا خطأً أو صواباً.. ثواباً أو عقاباً.
الثواب والعقاب، ثنائية الحياة التي تحتاج إلى نظام تتوازن فيه البواعث الروحية مع التطور المادي كي يبقى "الإنسان" صامداً في وجه التغيرات التي يصنعها العقل الفعال في مجال العلوم والمعرفة والتطور المادي والتكنولوجي.
لا يجب أن يتخلف الوجدان، وبواعثه الروحية، عن اندفاع العقل وطموحه، حتى لا يرتد ذلك في مضاعفات تهدد "أنسنة" الحياة، وتقمع الإنسان بداخلنا وصولاً إلى تبيئته داخل منظومة طغيان من نوع آخر:
في الأولى توحش قيم التخلفً،
وفي الثانية طغيان التطور التكنولوجي واندفاعه حينما يخلف وراءه إنساناً بلا إرادة.
يمضي المرء حياته في صراع لا يعرف كنهه، ولو أدرك كنه هذا الصراع الذي يدفعه إلى ارتكاب الجرائم، وسفك الدماء، والاعتداء على الغير، وإشعال الحروب، وتدمير العمران، وإلحاق الضرر بغيره لاتجه بصراعه إلى المكان الذي ينمي داخله "الإنسان"، وقيم الإنسانية وبواعث أنسنة الحياة، كتعبير عن إعادة بناء علاقته بالحياة على أسس يتساوق فيها الوجود الاجتماعي بالوعي الاجتماعي في أشد الحالات وضوحاً في علاقتهما بهذا المعنى الذي ينصرف إلى حماية البشرية، ومواصلة مهمتها في البناء والارتقاء، وتوفير شروط التقدم والعمران، وصيانة الوجود في مواجهة كارثة الفناء.
لن يتحقق ذلك إلا بصيانة "الإنسان" وتوسيع رقعته في الفعل البشري بصورة مستمرة.