حين يُستعرض تاريخ البرنامج النووي الإيراني منذ خمسينات القرن الماضي، في عهد الشاه، وصولاً الى اللحظة الراهنة، تُلفت بشدّة الحماسة الأميركية سابقاً لتوفير المفاعلات والوقود النووي، كذلك مساهمات دول أخرى مثل فرنسا وألمانيا (الغربية) والهند وجنوب افريقيا والأرجنتين واستراليا، وكيف أن هذا النشاط لم يكن موضع تشكيك في أهدافه العلمية والسلمية والمدنية، على رغم أن كثافته وتوسّعه استدعيا شكوكاً سوفياتية لكنها لم تذهب بعيداً. وقبل عام من اطاحته كان نظام الشاه في مفاوضات متعدّدة الأطراف لشراء مفاعلات. وإذا كانت الرحلة من مركز أمير آباد للأبحاث النووية الى مفاعل ناطنز نقلت ايران من نظام الى آخر، كما نقلت مصادر تزوّدها الى روسيا وكوريا الشمالية، فإنها غيّرت أيضاً وجهها ولم تغيّر وجهاتها، أذ أن ايران الثورة تبنت أهداف ايران الشاه التي تطلّعت الى أن تكون قوة مهيمنة – وحدها – على أمن الخليج، مع تمكينها من دور محوري في الشرق الأوسط وجنوب غربي آسيا والمحيط الهندي. لكن كل هذه المناطق تغيّرت ظروفها خلال العقود الأربعة الأخيرة ولم تعد مفاهيم ”الهيمنة“ وإمكاناتها على ما كانت عليه في السبعينات.
بين 2003 حين تفجّرت أزمة البرنامج النووي و2015 حين وقّع الاتفاق، اصطف المجتمع الدولي بما فيه روسيا والصين لفرض عقوبات عبر مجلس الأمن ولاعتبار إيران مصدر تهديد إقليمي ودولي. استمرّت المحاولات ستة أعوام لإقناع طهران بالتفاوض الذي انطلق أواخر 2009 متقطعاً ومتنقّلاً بين جنيف وإسطنبول وموسكو. وفي 2012 عقدت إحدى جولاته في بغداد فاستغلّها الإيرانيون لطرح مشروع تعاون لحلّ الأزمة السورية مقابل تنازلات لدفع التفاوض النووي، ولم تستجب الأطراف المشاركة لأنها غير مخوّلة البحث في ملفات أخرى. كانت هذه المحاولة اختباراً ايرانياً لتوسيع نطاق التفاوض، بمقدار ما أوضحت نمط المساومات التي توخّتها طهران. معلومٌ أن اتفاقاً أولياً في شأن البرنامج النووي تم في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، بعدما تغيّرت إدارة الملف في ايران بانتخاب حسن روحاني رئيساً ومجيء محمد جواد ظريف وزيراً للخارجية، كذلك في واشنطن حيث حلّ جون كيري في الخارجية، وهذا الاتفاق الأولي هو الذي قاد الى الاتفاق النهائي منتصف تموز (يوليو) 2015.
كان واضحاً طوال التفاوض أن المشكلة والخلاف هما بين الولايات المتحدة وايران، ثم كان واضحاً بعد الاتفاق أن ايران خرجت رابحة إذ قايضت ”قنبلة“ لم تتوصّل اليها بعد برفع العقوبات عنها ورفع الحظر عن أرصدتها المجمّدة، وكسبت اعترافاً موثّقاً باستمرار برنامجها وأبحاثها وتخصيبها اليورانيوم بالنسبة المسموح بها (3.76 في المئة) التي بدأت الآن تتجاوزها وتمهّد للانسحاب من الاتفاق كردٍّ على الانسحاب الأميركي والعقوبات المستأنفة والمشدّدة. وما دامت طهران تتجاهل وجود خمس دول أخرى موقّعة فإنها تؤكّد عملياً أن هذا الاتفاق إنما كان بينها وبين اميركا. وفي حساب المكاسب أيضاً كانت ايران انتهزت عامي المفاوضات لتدفع باختراق ميليشياتها سورية والعراق واليمن ولبنان الى أقصاه، ما يفوق واقعياً أي قنبلة نووية مفترضة.
لذلك تبيّن غداة الاتفاق أن فيه ثُغُراً سياسية كثيرة، وأن إدارة باراك أوباما تعجّلت التوصّل اليه لتقول بأنه أوقف – الى حين – حصول ايران على سلاح نووي، ثم راح رئيسها يمنّي النفس بأن الاتفاق سيغيّر ”سلوك“ ايران، وظلّ يدافع عنه ضد انتقادات إسرائيل مع أنه خضع لابتزازها فوقّع قبيل نهاية ولايته على مساعدات تعوّضها ”ما خسرته“ جرّاء الاتفاق، فماذا خسرت وعمَّ عوّضها إذا كان يعتبر الاتفاق أحد انجازاته لمصلحة ”أمن إسرائيل“. وعدا غضبه وانفعاله إزاء منتقديه الخليجيين فإن أوباما اهتم بدفع دول الخليج الى ”التفاهم“ مع ايران، متجاهلاً أنه بتغاضيه المتعمّد عن التخريب الإيراني في الإقليم لقاء الحصول على الاتفاق النووي إنما كان يجري تغييراً كارثياً في موازين القوى استراتيجياً وجيو-سياسياً.
الأكيد أن كثيرين لم ينسوا هذه الوقائع، فهي ليست قديمة، لكن استعادتها الآن ضرورية لتظهير حقيقة الأزمة الراهنة، ومراقبة تطوّرها تفاوضاً أو حرباً. ذاك أنه بعد الاتفاق في 2015 ظهر اتجاهان: الأول، أن إيران التي تلقّت أموالاً راحت تعقد صفقات مع دول أوروبية فضلاً عن روسيا والصين وغيرها، وباتت تعتبر أن نفوذها الإقليمي صار تحصيل حاصل بدليل أن أياً من الدول المتعاقدة معها لا تسائلها عما تفعله في سورية أو في العراق، بل تتفهّم ادّعاءها بأن لا علاقة لها بالحوثيين في اليمن، ثم أنها سرعان ما جهّزت نفسها كـ ”شريك“ في ”الحرب على داعش“ الذي لم يكن قادته غرباء عنها، وفوق ذلك ساهمت في تعجيل روسيا بالتدخّل المباشر في سورية. أما الاتجاه الثاني، وهو أميركي، فتمثّل في البداية بمحاولة إدارة أوباما إقامة إدارة مشتركة مع روسيا للأزمة السورية من دون ازعاج ايران بل باستدعائها (بعدما كانت مرفوضة فبل الاتفاق النووي) الى الاجتماعات الدولية الموسّعة، وكانت طهران متعجّلة في تلك الفترة بدء مساومات على تقاسم سورية، غير أن مجيء دونالد ترامب الى البيت الأبيض غيّر اتجاه الريح ولم تكن ادارته ناقمة على الاتفاق النووي فحسب بل خصوصاً على كون كل الدول الموقّعة عليه تستفيد منه، باستثناء اميركا.
ينبغي عدم نسيان هذه الحقيقة في مراقبة الاتصالات الجارية سرّاً وعلناً لترتيب أي تفاوض أميركي – إيراني. كان المرشد الإيراني أحبط، منذ أيام أوباما، أي تطبيع مع اميركا سواء كان اقتصادياً لأنه يشكّل اختراقاً لإيران، أو سياسياً لأن واشنطن ستعرض شروطها لهذا التطبيع وهي لا/ ولن تناسب ايران، والأرجح أنه لم يغيّر اقتناعه. غير أن ادارة ترامب دهمت علي خامنئي بأكثر من موقع، من زعزعة الاتفاق النووي الى العقوبات التي عرقلت التعاقدات الأوروبية مع ايران، ومن إعادة حال التقاسم الوظيفي معها في العراق بعدما كانت تلاشت خلال ولايتَي أوباما، الى قبولٍ للدور الروسي في سورية مشروط بإخراج ايران أو تقليص نفوذها، وصولاً الى رفع درجة التوتّر المباشر الذي يُشعر إيران بأن ثمة أهدافاً داخلها يمكن أن تدمّر، لكنه في كل الأحوال يدعوها الى التفاوض.
في كل هذه المواقع يمكن ايران أن تواجه وتناور وتلاعب، فتتفادى مثلاً التعرّض لطائرة اميركية مأهولة لكنها تُسقط طائرة مسيّرة، وتترك مسؤوليها يلوّحون بقدراتها العسكرية التي ”تخيف اميركا“، وتحرّك هجمات حوثية على السعودية أو تذكّر بأن ميليشياتها العراقية جاهزة لترهيب الاميركيين حتى لو حاولت حكومة بغداد حلّ ”الحشد الشعبي“، بل ترسل ناقلة نفط الى سورية حتى إذا رُصدت وأُوقفت تستخدمها سياسياً في سياق الأزمة، وأخيراً يمكنها أن تخفض التزاماتها في الاتفاق النووي غير عابئة بصموده أو انهياره مع علمها أن خطوة كهذه تصبّ في ”منطق ترامب“ وليس ضدّه… تفعل إيران كل ذلك، وستفعل أكثر، من أجل هدف محدّد: إجبار اميركا على رفع العقوبات أو تخفيفها. لكن في مقابل ماذا؟
في مقابل التفاوض، وطالما أن أميركا تطلبه فلا يمكن التفاوض تحت ضغط العقوبات، إذاً لا بد من تحريكها، وهذا ما يميل الأوروبيون حالياً الى ترويجه. أما الشروط الإيرانية الأخرى فقد تفضّل تكرار صيغة الـ 5+1، وأن يكون البرنامج النووي محور البحث مقابل رفعٍ كاملٍ للعقوبات وضمانات لالتزام عدم فرضها مجدّداً. ليست هذه هي الصيغة التي أشعل ترامب أزمة من أجلها، ويُستبعد أن يوافق عليها حتى لو توافق عليها الآخرون. وبالتالي فلا تفاوض من دون اميركا، ولا دوام للاتفاق النووي بضمان الدول الخمس الأخرى التي لم تعدّ متوافقة أصلاً على الهدف، كما كانت في 2015. إذ لم يسبق لروسيا والصين أن صرّحتا بأي مآخذ على ايران، بل تحاولان مساعدتها في مواجهة العقوبات. أما الأوروبيون فطرحوا تمديد فترة تقييد البرنامج النووي الى ما بعد السنة 2025 وضرورة النظر في البرنامج الصاروخي وسياسات ايران الإقليمية، وهم اقتربوا بذلك الى المآخذ الأميركية وإن لم يجاروا ترامب في نهجه التصعيدي.
إذا اقترب الاتفاق النووي من الانهيار فإنه سيعيد التفكير في عمل عسكري أميركي، أو أميركي – إسرائيلي، للمنشآت الإيرانية. كانت واشنطن تشير الى هذا الاحتمال، منذ أيام جورج دبليو بوش، قائلة أن كل الخيارات مطروحة على الطاولة، لكنها استبعدته لمصلحة حل ديبلوماسي، ولأنه ينذر بحرب موسّعة لا تريدها. وإذ يبدو الآن أن الحل الدبلوماسي يترنح، والعمل العسكري محدودٌ وغير محبّذ، والتفاوض غير متاح بالمعطيات الراهنة، فإن مصير الأزمة يبقى رهن قدرة إيران على تحمّل آلام العقوبات.
الحياة