خير الله خير الله يكتب:

عبقرية تاتشر ومزايدات بوريس جونسون

رد رئيس اللجنة الأوروبية جان كلود يونكر على تهديد رئيس الوزراء البريطاني الجديد بوريس جونسون بالخروج من دون اتفاق من الاتحاد الأوروبي بجملة بسيطة. قال يونكر إن الاتفاق الذي توصلت إليه رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي هو “الاتفاق الأفضل والوحيد الممكن”. هذا يعني عمليا، في ضوء الموقف الأوروبي، أنّه لم يعد أمام بوريس جونسون سوى خيار واحد. يتمثّل هذا الخيار في تنفيذ تهديده بالانسحاب من الاتحاد في الواحد والثلاثين من تشرين الأوّل – أكتوبر المقبل… هذا في حال صمدت الحكومة البريطانية الجديدة ولم تتعرّض لهزّة داخلية بسبب الانقسامات التي يعاني منها حزب المحافظين الذي غيّر بوريس جونسون طبيعته وحولّه إلى حزب بريكست.

ما حصل في المملكة المتحدة كان انقلابا بكلّ معنى الكلمة، خصوصا بعد اختيار بوريس جونسون الزعيم الجديد للحزب تشكيل حكومة تضم صقور بريكست، الذين لا يهمهم سوى الخروج من الاتحاد الأوروبي.

ليست الحكومة الجديدة حكومة حزب المحافظين الذي يضمّ عددا كبيرا من الشخصيات المعارضة لبريكست. هؤلاء حالوا ثلاث مرات دون تمرير الاتفاق الذي توصلت إليه ماي مع الاتحاد الأوروبي. قرّر بوريس جونسون تجاوز كلّ الاعتبارات التي تتحكم بتشكيل الحكومة وعزل كلّ من لا يؤمن ببريكست، تمهيدا لخروج بريطانيا من الاتحاد بأي ثمن كان.

ستدفع بريطانيا ثمنا كبيرا في حال خروجها من الاتحاد الأوروبي بسبب غياب قيادة سياسية تقود الشارع بدل أن تنقاد له، خصوصا بعدما تبيّن أن الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي قبل ثلاث سنوات كان خطأ كبيرا، بل خطيئة. تبيّن، بكلّ بساطة بعد الاستفتاء، أن الخروج مهمّة شبه مستحيلة… لا لشيء سوى لأن بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي ستعود إلى خلف.

العودة إلى خلف ليست عودة إلى العصر الذهبي الذي بدأ في العام 1979 بوصول مارغريت تاتشر إلى موقع رئيس الوزراء. العودة إلى خلف تعني العودة إلى أيّام هارولد ولسون في ستينات القرن الماضي عندما عجزت بريطانيا عن إيجاد صيغة تضمن لها التكيّف مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والعيش في ظلّ وهم اسمه القوّة العظمى.

تكمن عبقرية مارغريت تاتشر في قدرتها على التكيّف مع التطورات التي شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. فعلت ذلك عن طريق خلق واقع جديد في بريطانيا ودور لها في مجالات مختلفة. في مقدّم هذه المجالات، التحوّل إلى الحليف الأوروبي الأقرب للولايات المتحدة من جهة وتحويل لندن إلى مركز مالي عالمي من جهة أخرى.

امتلكت تاتشر رؤية في حين لم يستطع أيّ من الذين خلفوها، بمن فيهم العمالي توني بلير، طرح أي جديد من أيّ نوع. كانت رؤية تاتشر قوية وذات تأثير إلى درجة أن بلير لم يخض الانتخابات ويفوز فيها إلّا بعد تخليه عن كلّ الأفكار التي سبق لحزب العمال أن طرحها. اعتمد في الواقع أفكار تاتشر وأعلن أنه يخوض الانتخابات على رأس حزب العمّال “الجديد”(new labour).

ليس معروفا إلى الآن كيف وقع ديفيد كاميرون الذي كان رئيسا للوزراء في الفخّ الذي نصبه له أولئك المطالبون بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لم يدر مخاطر الاستفتاء في ظل انتهازيين مثل بوريس جونسون أو نايجل فاراج يستطيعون بيع الأوهام وإقناع عدد كبير من البريطانيين بأنّ مصدر كلّ مصائبهم هو أوروبا.

ظهر جليّا مع مرور الوقت أنّ كلّ الأرقام التي طرحوها، خصوصا تلك المرتبطة بنظام الضمان الصحّي الذي يستفيد منه الأوروبيون المقيمون في بريطانيا غير صحيحة. أكثر من ذلك، تبيّن أن كلّ ما له علاقة بالهجرة إلى بريطانيا ووصف هذه الهجرة من بلدان أوروبا الشرقية، التي انضمت حديثا إلى الاتحاد الأوروبي، لا يمت إلى الحقيقة والواقع بصلة.

على الأرض، لا وجود لعمال بناء بريطانيين ولا وجود لموظفين بريطانيين في الفنادق أو المطاعم. هناك شبه غياب للبريطاني عن مطاعم لندن وفنادقها. فوق ذلك كلّه، إن بريطانيا تحوّلت إلى مكان لتجميع السيارات اليابانية وغير اليابانية. لا توجد شركة سيارات كبيرة بريطانية. “رولز رويس” مملوكة من مجموعة “بي.أم.أف” الألمانية و”بنتلي” من مجموعة “فولكسفاغن” الألمانية أيضا. لا داعي من دون شكّ للحديث عمّن يملك الشركات الأخرى مثل “جاغوار” أو “روفر”.

ما حصل أن بريطانيا دخلت عالما جديدا من خلال البوابة الأوروبية. كانت المستفيد الأوّل من الاتحاد الأوروبي واستطاعت الحدّ من النفوذ الفرنسي والألماني داخل الاتحاد عن طريق توسيعه ودفع دول أوروبا الشرقية إلى الانضمام إليه.

هناك مجموعة من المزايدين، من بينهم بوريس جونسون، دفعت في اتجاه الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي. لعب هؤلاء على مشاعر المواطنين السذّج ومن بينهم عدد لا بأس به من الأجانب الذين يحملون الجنسية البريطانية. ضاق ذرعا هؤلاء، وكان بينهم لبنانيون يحملون جوازا بريطانيا، بكثرة “الغرباء” في لندن!

سيفشل بوريس جونسون وسيكون فشله ذريعا. لا لشيء، سوى لأنّه ليست لديه رؤية. يستطيع إلقاء خطاب جميل ذي عبارات منمّقة وشعارات تجذب السذّج. ولكن ماذا بعد ذلك؟ ما لا يستطيع قوله هو إن بريطانيا تتجه بخروجها من الاتحاد الأوروبي إلى كارثة حقيقية.

مهمّة الخروج، “من دون إذا أو ولكن”، سيتولاها بوريس جونسون الذي لا يمتلك صفة القيادي الذي يرفض بيع شعبه الأوهام. لم يكن الخطاب الذي ألقاه بعد فوزه بزعامة حزب المحافظين سوى خطاب تسويق للأوهام محوره نجاحات في ميادين معيّنة، بينها الطبّ والأبحاث العلمية، لا يمكن لبريطانيا تسويقها. لم يجب عن سؤال في غاية البساطة. أي شركة عالمية ستستثمر في بريطانيا في حال باتت هناك حواجز جمركية تفصل بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي الأخرى؟

تعلّمت مارغريت تاتشر من تجارب الماضي القريب. تعلّمت خصوصا من الفشل المستمر لحزب العمّال الذي أفقر بريطانيا. وتعلّمت من حرب السويس للعام 1956، وهي حرب كشفت حدود القوّة البريطانية واستحالة عصيان الولايات المتحدة أو السير في سياسات من خلف ظهرها.

يمكن للولايات المتحدة مساعدة بوريس جونسون في الأزمة القائمة مع إيران. الأكيد أن هذه المساعدة ستكون مرتبطة بشروط أميركية. لكنّ ما لا يستطيعه الرئيس دونالد ترامب وإدارته هي إعادة الحياة إلى حكومة بريطانية ستجد نفسها عاجلا أم آجلا أسيرة مهمّة شبه مستحيلة، هي مهمّة الخروج من الاتحاد الأوروبي.

ستخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي… ولكن إلى أين ستخرج؟ هل تخرج إلى الأوهام التي يسوّقها بوريس جونسون الذي لا يدرك أن الأوهام تبقى أوهاما مهما جرى تغليفها بكلام جميل لا ترجمة له على الأرض.