هاني مسهور يكتب:

من عدن والمكلا إلى عيال زايد

في السادس من مارس 1975 كسر المغفور له الشيخ زايد آل نهيان يرحمه الله جدار العزلة السياسية التي أحاطت بها دول الخليج العربية لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية منذ نشأتها في 1967م، كانت الزيارة التاريخية التي شهدت حفاوة من الرئيس سالم ربيع علي وحظيت بترحيب شعبي باصطفاف الالاف من طلاب المدارس في طريق الموكب الذي سار في شوارع عدن احتفالاً بالضيف العربي الكبير.
سياسياً كانت تلك الزيارة فرصة حقيقية لليمن الجنوبي أن ينفتح على جواره العربي، فبعد تلك الزيارة بعامين فتحت الرياض أبوابها للرئيس سالم ربيع علي (سالمين) والتقى بالملك الراحل خالد بن عبدالعزيز يرحمه الله عام 1977، ولعل التاريخ السياسي في المنطقة لن يستطع تجاوز شجاعة الشيخ زايد آل نهيان رحمه الله في خطوته التي استطاع من خلالها تحريك الملف اليمني الجنوبي الذي كان خاضعاً لسنوات لحصار غير مُعلن ضمن استقطابات الحرب الباردة آنذاك.
لعبت دولة الإمارات العربية المتحدة خطوة اساسية في احداث جسيمة عندما كان للإمارات والكويت أدوار رئيسية في تهدئة التصعيد العسكري بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بعد نشوب حرب بينهما وكان جيش اليمن الجنوبي يتقدم بسرعة باتجاه مناطق واسعة في أراضي اليمن الشمالي، ولعبت الإمارات والكويت الدور الأهم في الوصول لوقف إطلاق النار، قبل أن تذهب مساعي الكويت لخطوات أكثر تقدماً بجمع الرئيسيين السابقين عبدالفتاح اسماعيل (ممثل لجنوب اليمن) وعلي عبدالله صالح (ممثل لشمال اليمن) لوضع الخطوة الأولى باتجاه تحقيق الوحدة اليمنية.
التجربة السياسية لليمن الجنوبي بمقدار ما حملت من إرث ثقيل إلا أنها تجربة فريدة في شبة الجزيرة العربية، وما شهدته تلك المرحلة التاريخية من منعطفات تعتبر حادة في السياسة إلا أنها جاءت في سياق صراع دولي بين المنظومتين الشرقية والغربية وأن كان اليمن الجنوبي كان وقع في الأفخاخ بداية من اليمننة ومروراً بانتهاج اليسارية وانتهاءً بالدخول في وحدة اندماجية لا تتوافق سياسياً واجتماعياً وحتى مذهبياً مع الجمهورية العربية اليمنية مما أدى إلى اشتعال حرب دموية انتهت بغزو الشمال اليمني للجنوب.
في أتون تلك الحقبة من تاريخ اليمن الجنوبي الكثير من المنعطفات السياسية الحادة التي كان من الطبيعي أن تنتهي إلى نتيجة كارثية بكل ما يحمل لفظ (الكارثة) من معنى، وإذا كانت التجربة السياسية انتهت بما يمكن أن يوصف بـ (الصدمة) عندما فرضت صنعاء واقع الغزو في السابع من يوليو 1994، ففي ذلك التاريخ استيقظ قتلت تجربة سياسية كاملة بدأت من 1967 وانتهت تحت مجنزرات صنعاء التي ختمت تجربة سياسية كاملة.
عندما نشبت حرب صيف العام 1994 بين عدن وصنعاء ظهر الشيخ زايد آل نهيان يرحمه الله بموقف مشهود عندما خاطب عبدالله بن حسين الأحمر شيخ مشائخ اليمن من أن فرض الوحدة بالدم لن يصنع مستقبلاً لليمن، وحاول الشيخ زايد إلى جانب الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز عاهل السعودية حقن الدماء إلا ان الغي كان أكبر من أن يستمع لصوت العقلاء وحكمتهم فدمرت الحرب كل النسيج الممكن من علاقة الشمال بالجنوب، وتحول حلم الوحدة إلى كابوس.
وقع الجنوب فريسة تنهشها وحوش من المتطرفين، فلقد استعان قادة حزب التجمع اليمني للإصلاح ذراع التنظيم للإخوان المسلمين بالألاف من الأفغان العرب جاؤوا بهم من قندهار والبوسنة والصومال والسودان ومن كل مناطق الصراعات في التسعينيات الميلادية من القرن العشرين المنصرم ليخوضوا الحرب المقدسة ضد الجنوبيين الذين كان إخوان اليمن قد أصدروا فتوى بإهدار دمائهم على اعتبار أنهم ملاحدة وشيوعين وكفار يجوز استباحة انفسهم وأموالهم واعراضهم.
انتهت حرب 1994 وفرضت صنعاء غزوها للعاصمة الجنوبية عدن كل مدن الجنوب، ولم تنتهي فصول المأساة بل فتحت صفحة من الدم المراق بعد أن استوطن المئات من الإرهابيين المحافظات الجنوبية، حتى أن حضرموت بمدرستها المذهبية الوسطية تحولت إلى واحدة من أكثر المناطق تشدداً وتطرفاً بعد أن حولها اصحاب الفكر المتشدد لبيئة مصدرة للخطاب الإرهابي بعد أن مصدراً للتعايش والتسامح، إذا كان هذا حال حضرموت فكيف سيكون حال المحافظات الأخرى التي خضعت لإرهاب وعنف وتحولت الوحدة إلى ركن سادس من اركان الإسلام فهذه الوحدة توفر النفط والمال لقبائل صنعاء الحاكمة والمتسلطة، وتحولت حدود الجنوب إلى معبر لتهريب المخدرات والبشر ولعبور الإرهابيين إلى الأراضي السعودية لتنفيذ عملياتهم الانتحارية.
"عاصفة الحزم" كانت الفرصة السانحة للجنوبيين ليس لإسقاط مشروع إيران فحسب بل لانتزاع الحق في الحياة بكرامة وعدالة، فاستمات الجنوبيين عن عاصمتهم عدن وقاتلوا عنها برغم طعنة الغدر التي اصابتهم بسقوط المكلا بيد تنظيم القاعدة، معركة مزدوجة الحوثيين في عدن والقاعدة والتكفيرين في المكلا، معركتان لا معركة واحدة خاضها كل جنوبي تحت شعار واحد الحرب على كل إرهاب وتحت راية واحدة حِلف سعودي إماراتي متين ضد كل إرهاب كان.
وكأنه قدر لهذا الجنوب أن يأتي الشيخ محمد بن زايد إلى عدن والمكلا كما جاء والده المظفر زايد الكبير في العام 1975، مسافة طويلة من ذلك التاريخ وحتى 2015 ولكنها تختصر معركة بدأت الأولى بكسر العزلة والثانية بكسر الإرهاب في هذه الأرض، فخرجت من بين كل مسارات التضاريس قوات الحزام الأمني والنخب الحضرمية والشبوانية لتخلص الناس وتحرر الأرض وتطارد الإرهاب في كل شبر من تراب الجنوب.
لا يمكن النظر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بنظرة أخرى مع أنها قدمت سيلاً من المساعدات الإنسانية منذ الساعة الأولى فجادت أيادي الكرام من شعب الإمارات، ومع ذلك تبقى معركة الإرهاب ومساهمة الإمارات الفاعلة أكثر ما يمكن أن يحفظه التاريخ، فعلى غرار زايد جاء أبنه محمد، وعلى غرار ما كانت الإمارات وفية مع سالمين والبيض سيظل الجنوب وفياً مع آل نهيان وكل حكام الإمارات، فالوفاء لأهل الوفاء شيمة من شيم الكرام والجنوبيين كرام جار عليهم الزمن وغدر بهم الجار فكان العون والعضد عند الشقيق والعضيد والمحزم ابن زايد الكبير محمد ولد زايد ولد الأفعال الكبيرة.