د. عيدروس النقيب يكتب:
حقيقة الجيش "الوطني"
مثل الكثير من المفاهيم المطاطة والزئبقية التي يمكن استخدامها للتعبير عن الشيء ونقيضه وما بينهما من معاني ومدلولات، يأتي تعبير "الجيش الوطني" في اليمن للإشارة إلى مقصدين، على الاقل، الأول: هو المعنى اللغوي والاصطلاحي لهاتين المفردتين العربيتين، وهو ما لا علاقة له بأحاديث المتحدثين وتصريحات المصرحين، والثاني وهو التعبير المجازي الذي ليس بالضرورة ان يترجم أي من هذين المعنيين وإن ترجم مفردة الجيش فليس بالضرورة أن تدل مفردة "الوطني" على وطنية هذا الجيش، فما أكثر المفردات التي تحمل شكلا جميلاً لكنها تتضمن ما هو أقبح من القبح.
لن أسترسل كثيرا في مناقشة تاريخ الجيش في اليمن، لكنني أشير إلى ما عرف بجيش الجمهورية اليمنية الذي بناه علي عبد الله صالح وأقربائه على مدى ثلث قرن والذي تكون من منطقة محددة هي منطقة الرئيس وبعض صهوره ومقربيه، مع نسبة لا تزيد عن 5% لحوالي 20 محافظة يمنية.
لم يكن جيش علي عبد الله صالح "وطنيا" بالمعنى اللفظي ولا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، لعدة أسباب.
أولا: إنه ليس جيشاً بل لقد كان عدة جيوش، منها عشرات الألوية العسكرية الموروثة من عصر الشهيد الحمدي كألوية المشاة والميكانيك، والإشارة، والعمالقة وغيرها وقد جرى تفكيك معظمها واستبدال قياداتها الوطنية ونثر البعض الآخر منها في مواقع وبقاع ليست ذات أهمية وغالبية أفرادها وقياداتها أصبحوا بمثابة فئة مبعدة عن العمل وإن استبقيت بعض المخصصات الشكلية التي غالبا ما يستولي عليها القادة، مثل مخصصات التغذية والوقود والتسليح والمركبات وغيرها، وتلك الألوية والوحدات هي الجيش الوهمي الذي تحول قادته إلى طفيليين وفاسدين من العيار الثقيل، أما الأفراد فقليل منهم من كان يحصل على ربع أو نصف المرتب الشهري في حين يستولي القائد على ما تبقى من المستحقات لآلاف، وأحيانا عشرات آلاف الأفراد.
وهناك قوات الحرس الجمهوري وهو القوة الضاربة والمؤهلة والفتية (حينها) وقد أنشأها الرئيس لحمايته ولتشكل النواة البديلة لأي قوة عسكرية ليست محل ثقة ولا يمكن ائتمانها على النظام حينها، وهذه القوة لا يمكن أن تكون وطنية لأنها محصورة على فئة معينة من منطقة معينة وقيادتها بيد ابن الرئيس وهي عمليا قوة عائلية تابعة للرئيس وعائلته.
وهناك الأمن المركزي الذي لم يقم بأي مهمة امنية بل كان جيشا ثالثا يقوده نجل الأخ الأكبر للرئيس وزوج ابنته، وله إمكانيات جيش متكامل لكنه جيش عائلي، ينخره التسيب والفساد، وقد نشرت هيئة مكافحة الفساد تقريرا عن عشرات الآلاف من الأسماء الوهمية التي كانت مخصصاتها البالغة مئات الملايين تذهب لقيادة هذه القوة.
ونأتي للفرقة الأولى مدرع، والتي تشمل قوائمها عشرات الآلاف (ويتحدث البعض عن ما فوق المائة ألف) من القادة والأفراد والتي كانت تابعة للواء علي محسن نائب رئيس الجمهورية الحالي، وقد ظلت بؤرة للفساد والعبث، وليس أدل على ذلك مما تداولته وسائل الإعلام من أخبار مفادها أنه ويوم سقوط صنعاء بيد الجماعة الحوثية لم يكن يوجد من كل وحدات الفرقة الأولى مدرع سوى خمسمائة فرد، بينما تبخرت بقية الفيالق والأسماء والآليات في ساعات ليدخل المقاتلون الحوثيون مقر الفرقة بالكلاشنيكوف فقط.
وهكذا يتبين أن علي عبد الله لم يبن جيشاً، وأن كل ما بناه من قوات كانت ألوية ووحدات وفيالق، متفرقة لكنها لم تكن قط وطنية بأي شكل من الأشكال بقدرما كانت عبارة عن وحدات تابعة لقادته فقط.
ثانيا: هذه القوى لم تكن وطنية لأنها لا تمتلك لا عقيدة وطنية، ولا بنية وطنية، فعقيدتها قائمة على أن الرئيس هو الوطن، وحماية الرئيس هي حماية للوطن، وبنيتها تقوم على المناطقية وبالأحرى العائلية، وليس سرا أنه حتى القيادات الجنوبيية التي جرى استبقاؤها بعد 1994م وهي قيادات مهنية مدربة ومؤهلة تأهيلا علميا وأكاديميا كانت مجرد ألقاب بلا أية صلاحيات، ولدي تفاصيل لا يتسع المجال لعرضها تضحك من يسمعها حد البكاء، فحتى عندما يكون وزير الدفاع جنوبيا لا يستطيع أن يوجه أمرا إلى رئيس الفرقة الأولى مدرع أو قائد الحرس الجمهوري وينطبق نفس الأمر على وزير الداخلية مع قائد الأمن المركزي، لا بل أن الوزير حتى وهو شمالي قد لا ينصاع قائد لواء أو قائد قوة صغيرة لتوجيهاته عندما يكون هذا االقائد من قبيلة الرئيس.
كانت تلك مقدمة ضرورية لتعريف بـ"الجيش الوطني" في زمن علي عبد اللله صالح، فماذا عن "الجيش الوطني" الراهن؟
ذلك ما سنتناوله لاحقا بعون الله.