د. صبحي غندور يكتب:

هُويّات متعدّدة للفرد وللجماعة!

ما أهمّية الحديث عن "الهُويّة" وعن "الإقليات" في هذه المرحلة؟ وما علاقة هذا الموضوع في تطوّرات خطيرة تشهدها المنطقة العربية؟ الإجابة تكمن في تحليل ظاهرة الانقسامات الطائفية والإثنية التي تعيشها البلدان العربية، والتي هي تعبيرٌ عن عمق مشكلة غياب الفهم الصحيح للدين وللهويّة الوطنية والقومية، وبالتالي فإنّ مسألة "الهويّة" هي قضية مركزية معاصرة عنوانها كيفيّة المحافظة على الهويّة الوطنية الواحدة في إطار الثقافة العربية المشتركة، مقابل محاولات الفرز الطائفي والمذهبي والإثني داخل الأوطان العربية وبين العرب في كل مكان.

إنّ للإنسان، الفرد أو الجماعة، هويّاتٌ متعدّدة، لكن الهويّات ليست كأشكال الخطوط المستقيمة التي تتوازى مع بعضها البعض فلا تتفاعل أو تتلاقى، أو التي تفرض الاختيار فيما بينها، بل هذه الهويّات المتعدّدة هي كرسوم الدوائر التي يُحيط أكبرها بأصغرها، والتي فيها (أي الدوائر) "نقطة مركزية" هي الإنسان الفرد أو الجماعة البشرية. هكذا هو كلّ إنسان، حيث مجموعةٌ من الدوائر تُحيط به من لحظة الولادة، فيبدأ باكتشافها والتفاعل معها خلال مراحل نموّه وتطوّره: من خصوصية الأم إلى عمومية الإنسانية جمعاء.

مشكلتنا نحن العرب أنّنا نعاني، لحوالي قرنٍ من الزمن، من صراعاتٍ بين هُويّاتٍ مختلفة، ومن عدم وضوح أو فهم للعلاقة بين هذه الهويّات المتعدّدة أصلاً. فقد تميّز النصف الثاني من القرن العشرين بطروحاتٍ فكرية، وبحركات سياسية ساهم بعضها أحياناً بتعزيز المفاهيم الخاطئة عن ثلاثية (الوطنية والعروبة والدين)، أو ربّما كانت المشكلة في الفكر الآحادي الجانب الذي لا يجد أيَّ متّسعٍ للهويّات الأخرى التي تقوم عليها الأمَّة العربية. فهويّة شعوب البلدان العربية هي مزيجٌ مركّب من هويّة (قانونية وطنية) نتجت عن ولادة الأوطان العربية في مطلع القرن العشرين، وهويّة (ثقافية عربية) عمرها من عمر اللغة العربية وسابقة في وجودها لظهور الدعوة الإسلامية، وهويّة (حضارية دينية) مرجعها ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم، وأيضاً بحكم أنّ الأرض العربية هي مهبط كلّ الرسل والرسالات السماوية. وهذا واقع حال ملزِم لكل شعوب البلدان العربية، بغضّ النظر عن أصولهم أو معتقداتهم، وحتّى لو رفضوا فكرياً الانتماء لكلّ هذه الهويّات أو بعضها.

الآن نجد على امتداد الأرض العربية محاولاتٍ مختلفة الأوجه، ومتعدّدة المصادر والأساليب، لتشويه معنى الهويّة العربية ولجعلها حالة متناقضة مع التنوّع الإثني والديني الذي تقوم عليه الأرض العربية منذ قرونٍ عديدة.

وأصبح الحديث عن مشكلة "الأقلّيات" مرتبطاً بالفهم الخاطئ للهويّتين الوطنية والعربية، حيث المحصّلة هي القناعة بأنّ حلاً لهذه المشكلة يقتضي "حلولاً" انفصالية كالتي حدثت في جنوب السودان وفي شمال العراق، وكالتي يتمّ الآن الحديث عنها لمستقبل عدّة بلدانٍ عربية، بينما أساس مشكلة غياب "حقوق بعض المواطنين" هو غياب الفهم الصحيح والممارسة السليمة لمفهوم "المواطنة"، وليس قضية "الهويّة"، عِلماً بأنّ إثارة مشكلة الأقلّيات الإثنية تحصل في أمَّة عربية هي مُجزّأة أصلاً!

وعجباً، كيف تُمارس الإدارات الأميركية نهجاً متناقضاً في المنطقة العربية مع ما هي عليه من تاريخٍ وثقافة، وكيف تُشجّع على تقسيم الشعوب والأوطان وعلى إضعاف الهويّة العربية عموماً!!. ففي الولايات المتحدة نجد اعتزازاً كبيراً لدى عموم الأميركيين بهويّتهم الوطنية الأميركية (وهي هُويّة حديثة تاريخياً)، رغم التباين الحاصل في المجتمع الأميركي بين فئاته المتعدّدة القائمة على أصول عرقية وإثنية ودينية وثقافية مختلفة. فمشكلة الأقلّيات الإثنية والعرقية والدينية موجودة في أميركا لكنّها تُعالج بأطر دستورية وبتطويرٍ للدستور الأميركي، كما حدث أكثر من مرّة في مسائل تخصّ مشاكل الأقلّيات، ولم يكن "الحل الأميركي" لمشاكل أميركا بالتخلّي عن الهويّة الأميركية المشتركة، ولا أيضاً بقبول النزعات الانفصالية أو بتفتيت "الولايات المتحدة".

كما يثير التساؤل أيضاً خروج بعض الأصوات العربية المقيمة في أميركا والغرب، والتي تُساهم في هذه الحملة المقصودة ضدّ الهويّة العربية، أو تؤيّد الآن حركات الانفصال والتقسيم لأوطان عربية، وهي تُدرك ما أشرت إليه عن خلاصات التجربة الدستورية الأميركية، إضافةً إلى تجارب دستورية أوروبية مشابهة تسعى للاتّحاد والتكامل بين "أمم أوروربية" قائمة على ثقافات ولغات وأديان وأصول عرقية مختلفة!.

أيضاً، نجد في داخل بعض الأوطان العربية أنّ ضعف الولاء الوطني لدى بعض الناس يجعلهم يبحثون عن أطر فئوية (قبلية وعشائرية وطائفية) بديلة عن مفهوم المواطنة الواحدة المشتركة، وربّما يمارسون استخدام العنف ضدّ "الآخر" في الوطن نفسه من أجل تحصيل "الحقوق"، كما نجد من يراهنون على أنّ إضعاف الهويّة الثقافية العربية أو الانتماء للعروبة بشكلٍ عام سيؤدّي إلى تعزيز الولاء الوطني، أو نجد من يريدون إضعاف التيّارات السياسية الدينية من خلال الابتعاد عن الدين نفسه.

إنّ الفهم الصحيح والممارسة السليمة لكلٍّ من "ثلاثيات الهويّة" في المنطقة العربية (الوطنية والعروبة والدين) هو الحلُّ الغائب الآن في أرجاء الأمَّة العربية. وهذا "الحل" يتطلّب أولاً نبذاً لأسلوب العنف بين أبناء المجتمع الواحد مهما كانت الظروف والأسباب، وما يستدعيه ذلك من توفّر أجواء سليمة للحوار الوطني الداخلي، وللتنسيق والتضامن المنشود مستقبلاً بين الدول العربية.

إنّ الدين يدعو إلى التوحّد وإلى نبذ الفرقة. إنّ العروبة تعني التكامل ورفض الانقسام. إنّ الوطنية هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية. فأين العرب من ذلك كلّه؟.

إنّ ضّعف الولاء الوطني يُصحَّح دستورياً وعملياً من خلال المساواة بين المواطنين في الحقوق السّياسية والاجتماعيّة، وبالمساواة أمام القانون في المجتمع الواحد، وبوجود دستور يحترم الخصوصيات المكوّنة للمجتمع.

كذلك هو الأمر بالنّسبة للهويّة العربية، حيث من الضروري التمييز بينها وبين ممارسات سياسية سيّئة جرت من قِبَل حكومات أو منظّمات أساءت للعروبة أولاً، وإن كانت تحمل شعاراتها. فالعروبة هي هويّة ثقافية جامعة لا تقوم على فكر عَقَدي محدّد، ولا على أسس عنصرية وإثنية ودينية، ولا تتحمّل نتائج ممارسات نظام أو حزب سياسي، وهي تستوجب تنسيقاً وتضامناً وتكاملاً بين العرب يوحّد طاقاتهم ويصون أوطانهم ومجتمعاتهم.

ما حدث ويحدث في العقود الخمسة الماضية (منذ حقبة السبعينات في القرن الماضي) يؤكّد الهدف الأجنبي بنزع الهويَّة العربية، عبر استبدالها بهويّة "شرق أوسطية"، بل حتّى نزع الهويّة الوطنية المحلّية والاستعاضة عنها بهويّات إثنية ومذهبية وطائفية، من أجل تسهيل السيطرة على الأوطان العربية وثرواتها.

المؤلم في واقع الحال العربي أنّ الأمَّة الواحدة تتنازع الآن فيها "هويّات" مختلفة على حساب الهويّة العربية المشتركة. بعض هذه الهويات "إقليمي" أو "طائفي"، وبعضها الآخر "أممي ديني أو عولمي"، كأنَّ المقصود هو أن تنزع هذه الأمَّة هُويّتها الحقيقية ولا يهمّ ما ترتدي من بعدها، من مقاييس أصغر أو أكبر في "الهُويّات"، فالمهمُّ هو نزع الهويّة العربية!

إنّ دائرة «الهُويّة العربية الحضارية» تعني الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين العرقية والجغرافية، إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وهي دائرة تتّسع في تعريفها لـ"العربي"، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية أو الدينية أو الإثنية.

وفي ظلّ هذا التعريف، ينضوي معظم من هم عربٌ الآن ولم يأتوا من أصولٍ عربية من حيث الدم أو العرق. فقد تفاعلت الأقليات الإثنية (الإسلامية والمسيحية) طيلة أكثر من 14 قرناً مع الثقافة العربية باعتبارها ثقافة حاضنة لتعدّدية الأديان والأعراق، ولا تتناقض مع أصول هذه الأقليات الإثنية، كما هو الأمر أيضاً على صعيد الطوائف الدينية المتنوّعة في المنطقة العربية والتي اعتبرت نفسها كجزءٍ من الحضارة الإسلامية رغم الاختلاف في الدين.

وصحيحٌ أنّ هناك خصوصياتٍ يتّصف بها كلُّ بلدٍ عربي، لكن هناك أيضاً أزماتٌ يشترك فيها كلّ العرب أو تنعكس آثارها على الكل، وأنّ "الرؤية العربية المشتركة" لأزمات الأمّة تتطلّب أولاً التسليم بوجود "هُويّة عربية" مشتركة، وبحسم المفاهيم الخاصّة بها وبعلاقتها مع كلٍّ من "الهُويّتين" الدينية والوطنية.

إنّ ضعف الهويّة الوطنية المشتركة هو تعبيرٌ عن فهمٍ خاطئ للانتماءات الأخرى. فالاعتقاد بمذاهب دينية مختلفة، أو الاعتزاز بأصول إثنية أو قبلية، هو ظاهرة طبيعية وصحّية في مجتمعاتٍ تقوم على التنوّع وعلى الاختلاف القائم في البشر والطبيعة. لكن تحوّل هذا الاختلاف إلى خلافٍ عنفي وصراعاتٍ سياسية دموية يعني تناقضاً وتصادماً مع الحكمة في الاختلاف والتعدّد، فيكون المعيار هو محاسبة الآخرين على ما وُلدوا به وعليه، وليس على أعمالهم وأفكارهم. وهذا بحدِّ ذاته مخالفٌ للشرائع الدينية والدنيوية كلّها.