الصور التي تسربت من العراق إلى وسائل التواصل الاجتماعي مفزعة، يظهر فيها مواطنون قد أطلقت على أجسادهم النار، وهم في النزع الأخير من حياتهم، مختلطة بأصوات الرصاص وضجة العربات العسكرية، لكنه فقط رأس جبل الثلج العراقي، أما باقي الجبل فبعضه يمكن أن يُوصف الآن، والآخر خبّئ إلى اليوم التالي.
تركيبة النظام التي تركها الغزو الأميركي في العراق تصل إلى نهايتها، فقد وصلت إلى طريق مسدود. وليس ذلك بجديد على دارسي تاريخ مخلفات الاحتلال في العالم الثالث، كما وجدت الدكتورة أماني جمال في كتابها بالإنجليزية «إمبراطوريات ومواطنون»، فالتركيبة نظرياً مناسبة لأفكار وتصورات المحتل، بأنها التركيبة السحرية لإقامة نظام «حديث»، إلا أنها في الغالب تفشل، وهذا ما حدث، وسوف يحدث في العراق، إلى أن يجد الشعب العراقي صيغة أخرى.
يقوم النظام الحالي على دستور وانتخابات وحكومة يوافق عليها البرلمان، ذلك نظرياً شيء مقبول، إذا توفرت أحزاب مدنية حديثة، وإرادة وطنية حرة، ومؤسسات منفصلة ومستقلة ومتعاونة. ما حدث أن العراق وقع في «محاصصة» مذهبية ومناطقية وقومية، أفقدته كل تلك الشروط، وجعلت النظام الذي قام، يدخل في متاهات «المحاصصة القائمة على الزبائنية»، فأصبحت هناك قلة لديها السلطة والمال والأتباع، وأغلبية مهمشة لا تعرف أين تذهب بشكواها، فلا أحد يسمع! وتفاقمت اللامساواة في السلطة والثروة إلى درجة نسف العقد الاجتماعي المفترض، ودخول المريض غرفة الإنعاش.
تسلط الأقلية استحوذ على الموارد، وراكم الثروات، ووزع بعضها على المريدين عند رأس الهرم، وترك الأغلبية تعيش على أن «المذهب» هو تنهيدة المظلومين، و«المظهر الديني» هو قلب عالم سياسي بلا قلب. فشجّعت كل تلك المظاهر المُلهية للناس بأشكال جديدة من الطقوس، فأصبح لدى الدولة العراقية 100 يوم إجازة، بعدد ذكرى وفاة أو ميلاد أحد السادة إلهاءً للمحرومين.
من أجل التدليل العقلي على ما تقدم، ننظر إلى أول ذهاب للعراقيين إلى أقلام الاقتراع، وآخر مرة ذهبوا إليها. في أكتوبر (تشرين الأول) 2005 صوّت العراقيون على دستورهم بإقبال كبير، وكانت النسبة 68 في المائة، وقد ارتفعت النسبة كثيراً في المحافظات الشيعية والكردية، وانخفضت في المحافظات السنية، علامة على استبشار شعبي بغدٍ أفضل من البعض. في عام 2018 سجلت الانتخابات في العراق أكبر نسبة عزوف عن التصويت، بلغت نسبة التصويت 44 في المائة فقط، أي من 24 مليوناً وقليل ممن لهم حق التصويت، صوّت فقط 10 ملايين وقليل، لقد صوّت العراقيون عدداً من المرات منذ عام 2003 وفي كل مرة تتدنى النسبة، وهو دليل على فقد الأكثرية الثقة في تلك الممارسة، فقد تكرس الشكل الإجرائي للديمقراطية، وانتُزعت منه فلسفتها ومقاصدها. اليوم، أصبح 22 في المائة من العراقيين في بطالة سافرة، وتكثر النسبة إن تحدثنا عن البطالة المقنعة، على الورق هناك 8 ملايين عراقي يعملون في الحكومة، كثير منهم لا يمارس أي عمل. وتبين أن كثيراً من السياسيين العراقيين، على مرّ السنوات، في الغالب يطلب ودّ طهران من أجل البقاء في الساحة السياسية، وطهران من طرفها لا تمانع أن يتكسب ذلك السياسي من الخزينة العراقية، ما دام موالياً. لم يكن ذلك خافياً على معظم العراقيين الذين عضّهم التهميش وفقدان الخدمات ومستقبل قاتم، وهم يرون أمام أعينهم تضخم ثروة البعض وامتيازاته، وفي الوقت نفسه إفقار المجتمع والدولة معاً. لذلك لم يكن مفاجئاً أن يرفع المحتجون في حركية «أكتوبر 2019» 3 شعارات، واحداً ضد إيران، والثاني ضد العمائم، والثالث ضد الفساد الذي يشاهدونه أمام أعينهم، ولم تكن حركيتهم هي الأولى، وفي الغالب لن تكون الأخيرة. أزيح وزير الدفاع خالد العبيدي (عسكري محترف يتكلم 3 لغات) من منصبه في 2016 لاتهامه رئيس البرلمان وقتها وعدداً من أعضاء البرلمان بمساومته للاشتراك في صفقات فساد خاصة بتسليح الجيش. الإزاحة سببها أنه فاسد! كما أزيح هوشار زيباري عام 2016 بالتهمة نفسها! الإزاحات لم تعقبها محاكمات، دليل على احتمال أنها «كيد سياسي». من جهة أخرى، كشف تقرير برلماني عراقي رسمي عن وجود 6 آلاف مشروع وهمي كلفت الموازنة العراقية 178 مليار دولار منذ عام 2003 ولم يدخل أحد في التفاصيل، على أهميتها، بل أصبح الوزراء يُبلغون عن شبهات الفساد في وزاراتهم بشكل «سرى» خوفاً من مافيا الفساد المتحكمة. اليوم تشهد موازنة العراق (الغني بالنفط) عجزاً يبلغ 30 مليار دولار، وتتردد معظم الشركات ورأس المال الأجنبي في المغامرة بدخول السوق العراقية، بسبب ذلك الغول المسمى «فساداً». هذا الأخير جزء من آلية النظام القائم طبعاً لا تطبعاً، فأينما تجد محاصصة، تجد فساداً! المحتجون يعرفون كل ذلك، ومعظم العراقيين أيضاً، في عالم لم تعد للمعلومة أسوار تمنعها من الوصول إلى الناس. أكثر كلمة مستعملة من لدن معظم السياسيين العراقيين على مدى 15 عاماً هي كلمة «الإصلاح»، ولكنها في الغالب تعني «إصلاح الوضع المالي» للسياسي أكثر من أي شيء آخر، حتى أصبحت الأهازيج الشعبية العراقية تطلق النكات المرة على ذلك الاصطلاح. أحد الشعارات كان لافتاً في الحركة الأخيرة «ما نريد واحد ملتحي… نريد واحد يستحي»! كم هو شعار لافت ومخلوط بالمرارة ومليء بالإشارات. قد يتطور الوضع العراقي إلى الأفضل، وقد يتطور إلى الأسوأ، في الحال الأخير قد يصبح النموذج اللبناني هو الأقرب، بسبب وجود «الميليشيات» المعتمدة والممولة من إيران، حتى تتمكن من العراق، فتصبح مفاتيح الخزينة العراقية في طهران، وموقعه الاستراتيجي في حضنها! ليس سراً أن بعض تلك الميليشيات قد تورطت في محاولة قمع الحركة الشعبية، كما ليس سراً شعور بعض المحتجين السلبي ضد إيران، بدليل حرق العلم الإيراني الذي انتشر على وسائل التواصل، فالتدخل الإيراني يوجع العراقيين في ضميرهم الوطني، مهما حاول التخفي وراء الضباب الطائفي. إجراءات الحكومة العراقية حتى الآن ليست أكثر من مناورة «لشراء الوقت»، لعل انفراجاً يأتي غداً. وإن تم هذا الانفراج بقوة بنادق الميليشيات، فهو يعني تجذير العداء العراقي لكل من المتنفذين السياسيين والمحاصصين وإيران وأي مرجعيات أخرى في الوقت نفسه، الإعلام الإيراني يقول إن المظاهرات ليست أكثر من «دق إسفين في العلاقات الإيرانية العراقية». يزيحون اللائمة عنهم باتهام آخرين، من جهة أخرى، فإن كشف الفساد عوضاً عن محاربته عملية شبه مستحيلة، لأن معظم اللاعبين السياسيين في الفضاء الفسادي العراقي (إن صح التعبير) مشتركون. الخوف من سيناريو صعب ومهلك، هو إما دخول العراق في «احتلال إيراني» واضح جلي، وإما في حرب ميليشاوية، وكلاهما يؤديان إلى عدم استقرار طويل الأمد للمنطقة. من هنا، ما نشهده ونسمعه قادماً من أرض الرافدين ما هو إلا رأس جبل الثلج!
آخر الكلام:
المشروع السياسي الذي أقيم في العراق بعد عام 2003 افتقد المهندس الحصيف، فأي مهندس يفحص الأرض، إن كانت قادرة على حمل البناء المزمع إقامته فيها!!
الشرق الأوسط