د.محمد علي السقاف يكتب:
تونس... نحو دستور جديد يتفق ورؤى الرئيس الجديد
في ظل انتخابات حرة ونزيهة لم يسبق أن حصل عليها مرشح رئاسي في تونس على أغلبية ساحقة من خارج المنظومة الحزبية، فقد أظهرت نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية أن قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري قد حصد نحو ثلاثة ملايين صوت وبنسبة 71.72 في المائة من أصوات الناخبين مقابل منافسه نبيل القروي الذي صوت له مليون و43 ألف ناخب بنسبة 27.92 في المائة من أصوات الناخبين.
وقد مثل الشباب الغالبية العظمي ممن أعطى أصواته للمرشح المستقل، وكأنهم بذلك أرادوا إعادة تفعيل الثورة التونسية التي هم صانعوها في يناير (كانون الثاني) ولكنهم لم يحصدوا ثمارها، وسحب البساط من تحت أقدامهم لصالح النخب السياسية القديمة التي حكمت تونس، فهل نجاحهم في إيصال قيس إلى الرئاسة سيتولى حماية الثورة المتجددة أم سيخيب آمال الشباب والشعب التونسي بصفة عامة؟ وما فرص نجاحه في مواجهة التحديات الجسيمة التي تواجهه؟ وما عناصر القوة التي ستساعده في تجاوز التحديات؟
يمكن تلخيص عناصر القوة لديه بأنها ذات طابع شخصي، وفي تشخيصه كرجل قانون طبيعة التحديات وكيفية حلها على مراحل مختلفة. أحد المزايا التي يتمتع بها الرئيس التونسي الجديد أنه رجل مستقل، نزيه، ليس عليه ملفات فساد، يحب الاستماع للآخر، متواضع، وقريب من مشاكل الشباب، فبحكم وجوده لعدة عقود في الجامعة في تدريس مادة القانون الدستوري تعلم كيف يخاطبهم ويفهم مشاكلهم التي يواجهونها أثناء الدراسة، وبعد التخرج بغياب فرص العمل والتوظيف.
وقد أدهشت نسبة مشاركة الناخبين في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي بلغت أكثر من 55 في المائة، مقارنة بنسبة المشاركة في الدورة الأولى 48.98 في المائة، وهذا أمر طبيعي بسبب عدد المرشحين للرئاسة من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الناخب في العادة يصوت للمرشح الذي ينتمي إليه حزبياً أو يكون الأقرب وفق وجهة نظره أنه يتوافق مع قناعاته، بينما في الدورة الثانية يحسم أمره في إعطاء صوته لواحد من المرشحين اللذين بلغا الدورة الثانية، وهذا يفسر أن قيس سعيد بلغت نسبة من صوت له في الدورة الأولى الرئاسية 18.40 في المائة من أصوات الناخبين، لتتضاعف أربع مرات في الدورة الثانية ببلوغها 71.72 في المائة.
وحاولت بعض الأحزاب، وخاصة حركة النهضة الإيحاء بأن الفضل يعود لها في هذه النتيجة الباهرة التي حققها قيس سعيد، مما أثار علامات استفهام حول توجهات شخصية الرئيس الجديد سواء من قبل التونسيين ذوي التوجهات الليبرالية واليسارية، أو لدى بعض الأوساط الأوروبية من أن قيس سعيد المستقل سيكون «رهينة» بيد حركة النهضة الإسلامية؟
واقع نتائج الانتخابات تكذب تلك الادعاءات من حيث إن قيس سعيد لوحده بحصوله على ثلاثة ملايين صوت يساوي مجموع أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية لكل الأحزاب مجتمعة، مما يجعله رئيساً للشعب التونسي ككل ورئيساً يعلو فوق جميع الأحزاب السياسية حسب المفهوم «الديغولي».
في مقالنا الأخير «تونس... ظلال الانتخابات الرئاسية على الانتخابات التشريعية» المنشور في هذه الصحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 15 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي أشرنا إلى ضرورة تغيير النظام الانتخابي التونسي القائم على نظام النسبية، والذي أدَّى إلى وجود نحو 205 أحزاب سياسية واستبداله بنظام آخر، وهو الأمر ذاته الذي طرحه الرئيس قيس سعيد في المناظرة التلفزيونية مع نبيل القروي قبل ليلة الانتخابات الرئاسية، حيث وصف النظام الانتخابي النافذ بأنه يجعل الحزب غير مسؤول أمام المواطن، وللاستدلال بذلك استعان بعبارة للمفكر الفرنسي «دو لامارتين» نطقها بالفرنسية (وهو في العادة لا يتحدث إلا باللغة العربية الفصحى) بالقول le scrutin de l’intrigue بما معناه نظام التآمر الانتخابي!!
فالانتخاب النسبي يحصر الترشح على قائمة ترشيح الأحزاب ولا يتيح للمستقلين الترشح في الانتخابات التشريعية، ولهذا قام أحد الزملاء المحامين البارزين في مصر كمال خالد برفع قضيتين متتاليتين أمام المحكمة الدستورية، تتعلق القضية الأولى بنظام القوائم الحزبية التي حالت دون ترشحه كمستقل في الانتخابات، وصدر حكم المحكمة بحل مجلس الشعب الذي تم انتخابه بالكامل بنظام القوائم الحزبية، وفي القضية الثانية التي رفعها صدر حكم آخر بشأنها من المحكمة الدستورية بحل المجلس الذي تم انتخابه بالجمع بين نظامي القائمة والفردي، واعتبرت المحكمة أن اتساع الدوائر في هذه الانتخابات لم يحقق عدالة المنافسة للمستقلين، ودفعت الأحزاب بمرشحين لها على المقاعد الفردية.
وقد روى لي كمال خالد الذي تعرفت عليه في مؤتمر «استراتيجيات المعارضة في انتخابات الأحزاب المتعددة في العالم العربي»، الذي نظمته جامعتا هارفارد وبراون في أكتوبر 1998 قصة لطيفة متعلقة بالقضيتين اللتين رفعهما أمام المحكمة الدستورية، مما أدى إلى حل مجلس الشعب المصري مرتين بقوله إنه استطاع تغيير النظام الانتخابي بالترشح وفوزه بالانتخاب، وتلقى على أثر ذلك مكالمة هاتفية من الرئيس الأسبق حسني مبارك ليقول له إنه زعلان بفوزه في انتخابات مجلس الشعب! وقال استغربت من موقف الرئيس وقلت له الله يا ريس بدلاً من تهنئتي بالفوز تزعل من نجاحي في الانتخابات، ورد عليه الرئيس مبارك - حسب رواية زميلي - بقوله أنا زعلان لأنه الآن من أين لنا العثور على من سيرفع قضية أمام المحكمة الدستورية لحل المجلس، الذي أصبحت الآن عضواً فيه...!!
إذا كان الرئيس قيس سعيد انتقد بحق نظام الانتخاب النسبي، كما أشرنا إليه سابقاً، السؤال المطروح هل سيكتفي بتغيير النظام الانتخابي عبر آلية القانون فقط؟ أم من الأفضل أيضاً تثبيت نوع النظام الانتخابي الذي سيختاره بنص الدستور مما يتطلب ذلك إجراء تعديل دستوري، وهل مجرد تعديل دستوري أم صياغة دستور جديد؟
هذا الاعتبار الأخير أثاره ميشيل دوبريه أول رئيس وزراء حكومة ديغول والملقب بـ«الأب الروحي» لدستور الجمهورية الخامسة لعام 1958 حين عبر عن أسفه إقفاله بتسمية النظام الانتخابي في نص الدستور، واكتفى بوضعه في قانون الانتخاب مما يجعل حسب الأغلبية البرلمانية تعديله وفق مصالحها، بينما لو نص عليه في الدستور فإن ذلك يتطلب اتباع الإجراءات المعقدة لتغيير نص الدستور، لهذا وضع الدستور التونسي المبادرة التشريعية لقانون الانتخابات ضمن قائمة القوانين الأساسية المختلفة على القوانين العادية والتي تتطلب مصادقة مجلس نواب الشعب عليها التصويت بالأغلبية المطلقة، وبأغلبية أعضائه الحاضرين على مشاريع القوانين العادية، وبالطبع إذا فكر الرئيس الجديد في تغيير النظام الانتخابي عبر الآلية القانونية فسيواجه بالرفض، لأن أصل الدستور الحالي تم إعداده من قبل المجلس الوطني التأسيسي في حقبة سيطرة حركة النهضة على المجلس، وإذا اختيرت آلية التعديل الدستوري فبإمكان رئيس الجمهورية المبادرة باقتراح تعديل الدستور. ولمبادرته وفق المادة 143 أولوية النظر على مبادرة المجلس التشريعي.
وقد عبر الرئيس قيس سعيد صراحة في المناظرة التلفزيونية عن نيته بطلب تعديل الدستور وبتقديم عدة مبادرات تشريعية تستجيب لمطالب الشباب، لأنه في ظل الفكر السياسي القديم لن نستطيع التقدم، الشعب في حاجة إلى فكر جديد وآليات جديدة.
صحيح أن السيد سعيد كمستقل لا يمكنه الاعتماد على أغلبية حزبية، وكما قال إن كتلته هم الشعب وهم الملايين الثلاث الذين انتخبوه وغالبيتهم من الشباب، وهم هؤلاء من سيعتمد عليهم ويدخل تونس في عصر جديد.
وقد مثل الشباب الغالبية العظمي ممن أعطى أصواته للمرشح المستقل، وكأنهم بذلك أرادوا إعادة تفعيل الثورة التونسية التي هم صانعوها في يناير (كانون الثاني) ولكنهم لم يحصدوا ثمارها، وسحب البساط من تحت أقدامهم لصالح النخب السياسية القديمة التي حكمت تونس، فهل نجاحهم في إيصال قيس إلى الرئاسة سيتولى حماية الثورة المتجددة أم سيخيب آمال الشباب والشعب التونسي بصفة عامة؟ وما فرص نجاحه في مواجهة التحديات الجسيمة التي تواجهه؟ وما عناصر القوة التي ستساعده في تجاوز التحديات؟
يمكن تلخيص عناصر القوة لديه بأنها ذات طابع شخصي، وفي تشخيصه كرجل قانون طبيعة التحديات وكيفية حلها على مراحل مختلفة. أحد المزايا التي يتمتع بها الرئيس التونسي الجديد أنه رجل مستقل، نزيه، ليس عليه ملفات فساد، يحب الاستماع للآخر، متواضع، وقريب من مشاكل الشباب، فبحكم وجوده لعدة عقود في الجامعة في تدريس مادة القانون الدستوري تعلم كيف يخاطبهم ويفهم مشاكلهم التي يواجهونها أثناء الدراسة، وبعد التخرج بغياب فرص العمل والتوظيف.
وقد أدهشت نسبة مشاركة الناخبين في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي بلغت أكثر من 55 في المائة، مقارنة بنسبة المشاركة في الدورة الأولى 48.98 في المائة، وهذا أمر طبيعي بسبب عدد المرشحين للرئاسة من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الناخب في العادة يصوت للمرشح الذي ينتمي إليه حزبياً أو يكون الأقرب وفق وجهة نظره أنه يتوافق مع قناعاته، بينما في الدورة الثانية يحسم أمره في إعطاء صوته لواحد من المرشحين اللذين بلغا الدورة الثانية، وهذا يفسر أن قيس سعيد بلغت نسبة من صوت له في الدورة الأولى الرئاسية 18.40 في المائة من أصوات الناخبين، لتتضاعف أربع مرات في الدورة الثانية ببلوغها 71.72 في المائة.
وحاولت بعض الأحزاب، وخاصة حركة النهضة الإيحاء بأن الفضل يعود لها في هذه النتيجة الباهرة التي حققها قيس سعيد، مما أثار علامات استفهام حول توجهات شخصية الرئيس الجديد سواء من قبل التونسيين ذوي التوجهات الليبرالية واليسارية، أو لدى بعض الأوساط الأوروبية من أن قيس سعيد المستقل سيكون «رهينة» بيد حركة النهضة الإسلامية؟
واقع نتائج الانتخابات تكذب تلك الادعاءات من حيث إن قيس سعيد لوحده بحصوله على ثلاثة ملايين صوت يساوي مجموع أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية لكل الأحزاب مجتمعة، مما يجعله رئيساً للشعب التونسي ككل ورئيساً يعلو فوق جميع الأحزاب السياسية حسب المفهوم «الديغولي».
في مقالنا الأخير «تونس... ظلال الانتخابات الرئاسية على الانتخابات التشريعية» المنشور في هذه الصحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 15 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي أشرنا إلى ضرورة تغيير النظام الانتخابي التونسي القائم على نظام النسبية، والذي أدَّى إلى وجود نحو 205 أحزاب سياسية واستبداله بنظام آخر، وهو الأمر ذاته الذي طرحه الرئيس قيس سعيد في المناظرة التلفزيونية مع نبيل القروي قبل ليلة الانتخابات الرئاسية، حيث وصف النظام الانتخابي النافذ بأنه يجعل الحزب غير مسؤول أمام المواطن، وللاستدلال بذلك استعان بعبارة للمفكر الفرنسي «دو لامارتين» نطقها بالفرنسية (وهو في العادة لا يتحدث إلا باللغة العربية الفصحى) بالقول le scrutin de l’intrigue بما معناه نظام التآمر الانتخابي!!
فالانتخاب النسبي يحصر الترشح على قائمة ترشيح الأحزاب ولا يتيح للمستقلين الترشح في الانتخابات التشريعية، ولهذا قام أحد الزملاء المحامين البارزين في مصر كمال خالد برفع قضيتين متتاليتين أمام المحكمة الدستورية، تتعلق القضية الأولى بنظام القوائم الحزبية التي حالت دون ترشحه كمستقل في الانتخابات، وصدر حكم المحكمة بحل مجلس الشعب الذي تم انتخابه بالكامل بنظام القوائم الحزبية، وفي القضية الثانية التي رفعها صدر حكم آخر بشأنها من المحكمة الدستورية بحل المجلس الذي تم انتخابه بالجمع بين نظامي القائمة والفردي، واعتبرت المحكمة أن اتساع الدوائر في هذه الانتخابات لم يحقق عدالة المنافسة للمستقلين، ودفعت الأحزاب بمرشحين لها على المقاعد الفردية.
وقد روى لي كمال خالد الذي تعرفت عليه في مؤتمر «استراتيجيات المعارضة في انتخابات الأحزاب المتعددة في العالم العربي»، الذي نظمته جامعتا هارفارد وبراون في أكتوبر 1998 قصة لطيفة متعلقة بالقضيتين اللتين رفعهما أمام المحكمة الدستورية، مما أدى إلى حل مجلس الشعب المصري مرتين بقوله إنه استطاع تغيير النظام الانتخابي بالترشح وفوزه بالانتخاب، وتلقى على أثر ذلك مكالمة هاتفية من الرئيس الأسبق حسني مبارك ليقول له إنه زعلان بفوزه في انتخابات مجلس الشعب! وقال استغربت من موقف الرئيس وقلت له الله يا ريس بدلاً من تهنئتي بالفوز تزعل من نجاحي في الانتخابات، ورد عليه الرئيس مبارك - حسب رواية زميلي - بقوله أنا زعلان لأنه الآن من أين لنا العثور على من سيرفع قضية أمام المحكمة الدستورية لحل المجلس، الذي أصبحت الآن عضواً فيه...!!
إذا كان الرئيس قيس سعيد انتقد بحق نظام الانتخاب النسبي، كما أشرنا إليه سابقاً، السؤال المطروح هل سيكتفي بتغيير النظام الانتخابي عبر آلية القانون فقط؟ أم من الأفضل أيضاً تثبيت نوع النظام الانتخابي الذي سيختاره بنص الدستور مما يتطلب ذلك إجراء تعديل دستوري، وهل مجرد تعديل دستوري أم صياغة دستور جديد؟
هذا الاعتبار الأخير أثاره ميشيل دوبريه أول رئيس وزراء حكومة ديغول والملقب بـ«الأب الروحي» لدستور الجمهورية الخامسة لعام 1958 حين عبر عن أسفه إقفاله بتسمية النظام الانتخابي في نص الدستور، واكتفى بوضعه في قانون الانتخاب مما يجعل حسب الأغلبية البرلمانية تعديله وفق مصالحها، بينما لو نص عليه في الدستور فإن ذلك يتطلب اتباع الإجراءات المعقدة لتغيير نص الدستور، لهذا وضع الدستور التونسي المبادرة التشريعية لقانون الانتخابات ضمن قائمة القوانين الأساسية المختلفة على القوانين العادية والتي تتطلب مصادقة مجلس نواب الشعب عليها التصويت بالأغلبية المطلقة، وبأغلبية أعضائه الحاضرين على مشاريع القوانين العادية، وبالطبع إذا فكر الرئيس الجديد في تغيير النظام الانتخابي عبر الآلية القانونية فسيواجه بالرفض، لأن أصل الدستور الحالي تم إعداده من قبل المجلس الوطني التأسيسي في حقبة سيطرة حركة النهضة على المجلس، وإذا اختيرت آلية التعديل الدستوري فبإمكان رئيس الجمهورية المبادرة باقتراح تعديل الدستور. ولمبادرته وفق المادة 143 أولوية النظر على مبادرة المجلس التشريعي.
وقد عبر الرئيس قيس سعيد صراحة في المناظرة التلفزيونية عن نيته بطلب تعديل الدستور وبتقديم عدة مبادرات تشريعية تستجيب لمطالب الشباب، لأنه في ظل الفكر السياسي القديم لن نستطيع التقدم، الشعب في حاجة إلى فكر جديد وآليات جديدة.
صحيح أن السيد سعيد كمستقل لا يمكنه الاعتماد على أغلبية حزبية، وكما قال إن كتلته هم الشعب وهم الملايين الثلاث الذين انتخبوه وغالبيتهم من الشباب، وهم هؤلاء من سيعتمد عليهم ويدخل تونس في عصر جديد.