إميل أمين يكتب:
الإمارات وشبكة عالمية للتسامح
لا تكف الإمارات العربية المتحدة عن التجديد والإبداع، عن الإضافات الخلاقة القادرة على تغيير شكل العالم، عن اللمسات التي تمثل سردية إنسانية حقيقية، سردية تعبر عن عالم متعايش، لا عالم متشارع ومتنازع، عالم من المودات والمسرات التي تبهج القلب، وبعيدا عن لغة الدم وأحاديث الكراهية، وهذا ما يجعلها رقما مضافا ورديفا لإنسانية طال البحث عنها.
التربية على التسامح من خلال هذه المبادرة إذن فضيلة تمنع التعدي على حقوق الآخرين وحرياتهم، وتحول دون نشوب نزاعات عنيفة، وبالتسامح يمكن مواجهة تنامي التعصب، والفتن الطوائفية والمذهبية، والتي تهدد الأمن الوطني والقومي والإنساني معاً
صباح الأربعاء.. كان المعهد الدولي للتسامح في دبي التابع لمؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم، يطلق مبادرة الشبكة العالمية للتسامح، ومبادرة تحدي التسامح المعتمدة ضمن استراتيجية المعهد لأعوام (2019-2022)، حيث تهدف مبادرة الشبكة العالمية للتسامح أن تكون المنصة الرقمية الأولى عالميا التي تجمع المهتمين بموضوعات التسامح، مثير جدا أمر الإمارات العربية المتحدة؛ إذ وهي تمضي على دروب التاريخ تبدو وكأنها تتمثل قول الشاعر العربي:
إذا غامرت في شرم مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم
ولعل الذين تابعوا التصريحات المختلفة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم يرصدون أفكاره التي تزخم الشباب الإماراتي وتدفعه للتحليق في الآفاق، والتقاط النجوم السيارة والدوران حول الأرض، بما يعني أن البر والبحر قد ضاقا على الطموحات الإماراتية، تلك التي تتحول من الأمل إلى العمل لتجد طريقها إلى التحقق الفعلي النافع والمفيد في الحال والاستقبال.
يوما تلو الآخر تؤكد الإمارات للعالم أن هناك حاجة ماسة إلى التسامح وقبول الآخر، تلك الركيزة الجوهرية التي يمكنها أن تبعد عن العالم أشباحاً وأرواحاً لا تحمل إلا الخصام والكراهية، ولا توفر إلا النار والمرار، الحروب والدماء.
والشاهد أن قضية التسامح هي قضية فلسفية بامتياز، إنها صراع يدور بين الأنا وتعظيمها، والآخر وحقه في الوجود والحياة، وعليه فإنه لا يمكن أن يكون هناك تسامح مع الآخر المغاير بحكم العرق أو الجنس، اللون أو الدين، إن لم يكن هناك تسامح داخلي، بين الأنا والنفس، فالفرد المتسامح مع ذاته يعترف بأخطائه، ويبدي توبته وندمه، ويسعى في طريق نقد الذات لا جلدها.
يتضمن التسامح مع الآخر حدوث مجموعة من التغيرات الوجدانية والمعرفية والسلوكية للمساء إليه تجاه فعل الإساءة والفرد المسيء ويتفاعلان معاً من جديد، وذلك عندما يتسامح المساء إليه، ولا يظهر أية رغبات انتقامية، أو ردات أفعال سلبية تجاه المسيء، وعندما يحدث التسامح مع الآخر، تجري دماء التسامح في الذات كعملية داخلية.
تفتح مبادرة الشبكة العالمية للتسامح الأبواب واسعة لكل من له علاقة ومعرفة عميقة بموضوعات التسامح، لا سيما من خبراء السلام والأكاديميين، بهدف ترسيخ هذه القيمة الجزيلة الاعتبار، والعمل على نشرها إقليميا وعالميا، ومن ثم إتاحة الفرص أمام الجميع للتعرف على التجارب الرائدة في التسامح ونشرها.
على أن المغاير في هذه المبادرة بنوع خاص هي أنها تلامس الشباب بنوع متميز، لا سيما طلاب الجامعات والكليات والمدارس؛ حيث تتيح الفرص أمام الطلبة للمشاركة بالأعمال المتعلقة بالتسامح بطرق فنية إبداعية؛ حيث يتم إبراز المشاريع والمبادرات الإبداعية التي نفذتها المؤسسات التعليمية المشاركة، على أن تركز تلك المشاركات في تعزيز قيم التعايش السلمي واحترام التنوع والتعددية في المجتمع، إلى جانب نشر وترسيخ مفاهيم وقيم التسامح والحوار الإيجابي بين الشباب.
لا نغالي إن قلنا إن هذه المبادرة تعد تغيرا كميا ونوعيا في مبادرات الإمارات المتعددة، وسبب الاختلاف الإيجابي والجيد هو أنها لا تتعاطى مع كبار العقول في القاعات المكيفة، حيث التنظير الأيديولوجي القائم على أهميته، وإنما تتحرك إلى حيث شباب الغد، صمامات الأمان للمجتمعات في قادم الأيام، ذلك أنه من دون إيمان واعتقاد جذري من هؤلاء بأن القادم ملك لهم، وأنهم أصحاب الحق في تشكيله عبر لا تسامح، والتصالح لا من خلال العصبية أو القبلية وما يخلفانه وراءهما من حروب وكراهية، لن يكون هناك مستقبل لمن يؤمن بالتسامح.
وقد عانت المنطقة الشرق أوسطية طوال أربعة عقود من حالة انسداد تاريخي تجاه الآخر المختلف والمغاير، ما أدى إلى نتائج كارثية تتمثل في اعتبار الآخر هو الجحيم، كما قال فيلسوف فرنسا الأشهر جان بول سارتر ذات مرة من ستينيات القرن الماضي، الأمر الذي فتح الطريق واسعا أمام تيارات أبوكريفية منحولة، تيارات تمثلت النصوص الدينية والإيمانية تمثلا خاطئا شكلا وموضوعا، وأفسحت المسار لمزيد من الأصوليات الضارة وحركات الإسلام السياسي المتطرفة.
والشاهد أن الاهتمام بالشباب والطلاب في هذه المبادرة على أهميته لا يعني أنه ليس من مكان للكوادر التقدمية في مجال عمل التسامح، ذلك أنها بوصفها شبكة عالمية، لذا فإنه يضحى من الطبيعي جدا أن تضم في عضويتها المفكرين وخبراء السلام والأكاديميين والمتخصصين والمؤثرين الاجتماعيين والجمعيات والجهات الدولية والمحلية المعتمدة وأصحاب القرار، بهدف تبادل المعارف والخبرات والتجارب التي من شأنها تعزيز وترسيخ قيم ومبادئ التسامح في المجتمعات، وتسهم في تحقيق التعاون بين جميع الجهات ذات العلاقة من أجل بناء شراكات بين المؤسسات المحلية والمؤسسات الأكاديمية والجامعات.
هل من رسالة سامية لهذه الشبكة، رسالة تحكم العالم الآني، وهو في حاجة إليها من جراء التطورات السريعة، وإن شئت الدقة قل التدهورات المتلاحقة على صعيد علاقة الفرد بمجتمعه، وعلاقته بالآخر؟
الرسالة التي لم تنفك الإمارات السعي إليها والعمل عليها، إنما تقوم في سياق نشر ثقافة التسامح والسلام بين شعوب العالم أجمع، فضلا عن إقامة تعاون بين جهات التسامح العالمية.
تنطلق الشبكة العالمية للتسامح من إيمان إماراتي راسخ ومتجدد بأن الحاجة لإشاعة قيم التسامح، وبثها في فكر وسلوك وثقافة المواطن، ضرورة ملحة، وذلك من خلال توفير بيئة تعليمية وتربوية، وظروف موضوعية لتعميق مبادئ المواطنة المتساوية، واحترام الكرامة الإنسانية، وهي كرامة أسبق من كل انتماء أو هوية حضارية، وهي أيضاً حصانة أولية للإنسان، ثابتة له، بوصفه إنساناً كرمه خالقه، وجعله خليفة في الأرض، وأمده بقدرات وإمكانيات لإعمارها وإصلاحها.
التربية على التسامح من خلال هذه المبادرة إذن فضيلة تمنع التعدي على حقوق الآخرين وحرياتهم، وتحول دون نشوب نزاعات عنيفة، وبالتسامح يمكن مواجهة تنامي التعصب، والفتن الطوائفية والمذهبية، والتي تهدد الأمن الوطني والقومي والإنساني معاً.