إخلاص لمعنى الحياة
البشرية الحرة واستنهاض جوهرة حضارتها
إخلاصا لمعنى الحياة، وسموًّا بهويّة الإنسان، والتزاما بأداء مهمته السّامية في فضاءات الوجود.
لو لم يعمل الإنسان عقله منذ لحظة وجوده الأولى على سطح كوكبنا، لما كان للإنسانية أن تشرع في خوض مغامرتها الأولى المجسّدة في الأساطير بوصفها غطاء فكريا للوجود الإنساني وخُطط عمل لمستقبل قابل للتحقيق، ولما كان للحضارة الإنسانية أن تبزغ وأن تتطوّر وترتقي، وأن تكتنز من الأفكار والرؤى والرّسالات والطاقات ما يحملها إلى مزيد من التّطور والارتقاء اللذين حملاها إلى علوّ يجسّده جوهر الحضارة الإنسانية التي نعيش في رحابها اليوم، لا قشورها التي تستعيض سلطات الاستبداد والعتمة بها عن جوهرها.
غير أنّ نكوص كثرة متكاثرة من النّاس عن تحكيم العقل لأسباب عديدة ليس أقلّها تعرّضهم، على يد قوى الجشع والطمع والاستبداد والاستعمار والتّعصّب والتطرّف والغلوّ وعبادة العتمة وتقديس السّحر الأسود والخرافة واستلال سيوف الإرهاب الأعمى، لمظالم حالت دونهم ومواصلة إعماله، قد أفضى إلى إعمال نقيضه غير الموجود في مكونات هويّة الإنسان الإنسان، فما كان لهذا النقيض، غير الإنسانيّ، إلا أن ينتج ما يسود اليوم من أيديولوجيات عنصرية تفتيتية، ومن واقع تناحريّ قاتم، شرس ومرير، ينبئ بانهيار الحضارة الإنسانية وموت الإنسان.
وليس ثمة من أدلة أكثر سطوعا على هذه النّقلة غير الحضارية، وغير الإنسانية، التي تتأسّس على إعدام العقل، إلا هذين اللذين شرعا يتصاعدان ويتمدّدان الآن، بعد أن شقّا طريقهما في أرجاء كوكبنا منذ أمد بعيد، من تطرّف إرهاب متعدّدي المنابع والمواقع والاتجاهات والتّوجهات والغايات، من جهة أولى، وإلا هذا الذي أخذ يتوالى الإقدام على تنفيذه من استراتجيات عمياء، تتأسّس بدورها على تغييب العقل، لمواجهة هذا الإرهاب غير المشروع بإرهاب آخر يراد له، زيفا وبهتانا، أن يكون إرهابا مشروعا يقرّه العالم، من جهة ثانية.
فهل لمواجهة الإرهاب بالإرهاب أن تؤسّس لشيء سوى إعدام العقل وتعميم الإرهاب وتغذيته وتجديد منابعه وتوسيع مجالات حضوره وتنويع دوافعه وتجلياته وتحفيزه على التجذّر في الأرض ونثر بذوره السّوداء في جميع المجتمعات الإنسانية على امتداد كوكبنا، لتصير هذه المجتمعات بمثابة مزارع ترعاها قوى الإرهاب والإرهاب المقابل لاستنبات المزيد من الإرهابيين والمنظّمات الإرهابية التي تريد أن تكون بديلا أخيرا للدّول الحضارية الديمقراطية الحديثة التي أنتجتها حضارة الإنسان عبر تجارب تاريخية مديدة، قاسية ونبيلة، في آن معا؟
وهل ثمة من منهج أو أسلوب ناجع يمليه العقل لمواجهة الإرهاب واستئصاله من جذوره والقضاء نهائيا عليه وإغلاق إمكانية عودته إلى الظهور، مجدّدا، في حياتنا وعالمنا، سوى استئصال جميع الأسباب والدّوافع الجذرية، ولا سيما منها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية المتعدّدة، التي أنتجته، والكفّ عن إنتاج دوافع وأسباب تحفيزية تسهم في تمدّده أو إعادة إنتاجه.
نعم، ليس أمام البشرية الحرّة بأسرها إلا أن تعمل عقلها، انتصارا لنفسها وتجسيدا لحقيقتها واستنهاضا لجوهر حضارتها، وإلا أن تشرع من فورها في فعل ذلك عبر حراك ثقافيّ إنسانيّ شاملّ يضيء وعي النّاس، فيرشّد السّياسة، ويرشد السّاسة، إذ يدعو إلى مجافاة الإرهاب ونبذه، أيا كان مصدره ومقصده وأيا كان مرتكبوه، وإذ يلحّ على إنفاذ القانون الدّولي وشرعة حقوق الإنسان، بلا محاباة أو تمييز، والإسراع في رفع المظالم التاريخية القاسية التي أزمنت حتّى ترسّخت فيئست النّاس، وإذ يرسّخ في الوعي الإنسانيّ حقيقة أنّ الناس سواسية وأنّ جميع حقوق النّاس حقّ مكفول لجميع النّاس.