عبدالله بن بجاد العتيبي يكتب:

العراق ولبنان… ثورة الدم

من أهم ما يميز ما يجري اليوم في الدولتين العربيتين اللتين سيطرت عليهما إيران؛ في العراق ولبنان، أن المواطنين الشيعة يثورون ضد الميليشيات الشيعية التابعة لإيران، فالشيعة المخلصون لأوطانهم وعروبتهم وإنسانيتهم يرفضون بشكل كبير ما تفعله أذناب إيران وذيولها في بلدانهم، وهذه نقطة تحولٍ مهمة في المنطقة.

ما يجري اليوم في العراق ولبنان يؤكد أن المواطنين الشيعة في الدول العربية لا يوالون سوى بلدانهم، ولا علاقة لهم من قريبٍ أو بعيدٍ بالمشروع الفارسي الذي يتخذ من المذهب الشيعي الكريم غطاء يخفي خلفه أطماعه الإمبراطورية وحقده التاريخي على العرب بشتى انتماءاتهم، وعملاء إيران تلتقي مصالحهم معها، سواء كانوا سنة أم شيعة، فجماعة الإخوان المسلمين تابعة لإيران، لأنهما يلتقيان في كل شيء تقريباً، وتنظيم «القاعدة» وتنظيم «داعش»كلها جماعات إرهابية تخدم المشروع الفارسي الإرهابي بكل ما تملك، بالإضافة إلى حركة «حماس»، ومعهم جميعاً دولة قطر.

ثورة المظلومين على الظالمين هو العنوان الأبرز والمحطة التاريخية المهمة، فقد بلغ السيل الزبى من توحش إيران الإرهابي والطائفي، والفساد العريض والإفقار الممنهج للشعوب العربية التي تدعي إيران السيطرة على قرارات الدولة فيها.

الحراك الشيعي الوطني المخلص والرافض للميليشيات والفساد هو العامل الأهم في المظاهرات والاحتجاجات في البلدين، فقسوة الظلم وفظاعة الفساد المفضوح ووقاحة الطائفيين لم تعد مقبولة، وقد أنهت قدرة الشعوب على الاحتمال، وبسبب ذلك فإن الوضع في البلدين مهيّأ أكثر من غيرهما للتحول إلى حربٍ أهلية عنيفة ودموية لا تبقي ولا تذر، وهو على العموم ما تدفع الميليشيات المسلحة الموالية لإيران باتجاهه، لأن ولاءها المعلن هو لخدمة المشروع الإيراني، ولو كان بقتل الشيعة والمواطنين بالآلاف، ونشر الفوضى والإرهاب والقتل بدمٍ باردٍ، ذلك أن قرارها بيد المستعمر الأجنبي والعدو الغاشم الذي لا يعنيه مواطنو الدولتين بأي حالٍ من الأحوال.

مع كل الحرص الذي يبديه المتظاهرون في العراق ولبنان على صبغ احتجاجاتهم بالسلمية التامة، فإن هذا قد لا يستمر طويلاً، وذلك أن هذه الميليشيات المسلحة الطائفية الإرهابية متعطشة للدم، وهي تهدد بالحرب الأهلية، وتظهر استعداداً تاماً للتوجه نحوها، وقادتها يهددون شعوبهم بها، حتى يجبروهم على مواصلة الخضوع لهم، بلغة القوة الغاشمة والجبر والقهر.

يجب أن يكون المتظاهرون المخلصون على بينة من حجم التغيير الذي يفرضونه في بلدانهم وفي المنطقة ككلٍ، حتى يستطيعوا تقدير الموقف بشكل أدق ويتخذوا قراراتهم على بصيرة، فثمن الحرية باهظ على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، وسيكون على المتظاهرين في البلدين أن يتحملوا التضحيات التي سيقدمون عليها، لأنها ستكون تحولاً كبيراً في موازين القوى لا في بلدانهم فحسب، بل في المنطقة بأسرها.

نظام الولي الفقيه في إيران هو نظام نشاز عن مسيرة التطور البشري، فهو نظام مؤدلج دموي قاتل، ولديه خبرة أربعة عقود من الديكتاتورية المطلقة، التي تبنّت قتل شعبها وإفقاره بشكلٍ ممنهجٍ ومستمرٍ طمعاً في مزيدٍ من التوسع وبسط النفوذ الفارسي في المنطقة، وقد ارتكب المجازر تلو المجازر ضد شعبه، ويكفي استحضار تعامله مع ما كان يُعرف بـ«الثورة الخضراء»، التي انطلقت في عام 2009، بقيادة رموزٍ من داخل النظام نفسه، ومع ذلك فقد واجهها النظام بمزيد من القمع والقتل والأجهزة الأمنية والعسكرية القاتلة.

استحضار مثل هذه الحقائق يوضح حجم المعركة التي يخوضها هؤلاء المتظاهرون الأبطال، وحجم التغيير التاريخي الذي ينشدونه ويسعون إليه؛ فالانعتاق من رق التبعية والعبودية للنظام الإيراني المحتل له ضريبة عالية، ولكنها ضريبة يجب أن تُدفع إذا ما أرادت هذه الشعوب الانعتاق الحقيقي والكامل وبناء الدولة المستقلة الحديثة.

العقوبات الأميركية الصارمة وغير المسبوقة بدأت آثارها بالظهور بشكلٍ جلي وواضح، وتحديداً لدى الميليشيات التابعة لإيران في الدول العربية، وعلى رأسها العراق ولبنان، بحيث تجلّت في رفض الحواضن التقليدية الشيعية لهذه الميليشيات، ولدورها وسياساتها وأسلحتها، وهو أمر سيزداد في المستقبل القريب والبعيد، فالعقوبات الصارمة ليست ألعوبة، ولكنها حقيقة لها آثارها الفاعلة على الأرض.

في العراق، اتسمت ردة فعل الميليشيات المتعددة التابعة لإيران بالقسوة المفرطة والدموية الصارخة؛ فالقتلى من المتظاهرين بالعشرات، والمصابون بالآلاف، والقتل يتم بالرصاص الحي من القناصة أو المسلحين التابعين لـ«الحشد الشعبي»، الموالي لإيران في العراق، بينما لم تصل الأمور في لبنان لهذه الدرجة حتى الآن، وهو ما يعني تجهّز وتأهب «حزب الله» و«حركة أمل» للانقضاض على الدولة والشعب والجيش بشكلٍ محكمٍ، وهو ما تشير له كلمات أمين عام «حزب الله»، مرتين؛ الأولى اتسمت بالتهديد الفج، والثانية كانت تهديداً مبطَّناً يرفع العلم اللبناني، والغاية واضحة في الكلمتين، وهي إجبار الشعب اللبناني على أن يخرس ويتخلى عن حقوقه المشروعة ويعود للحظيرة ويخضع للأمر الواقع الذي تفرضه الميليشيات المسلحة.

تجارب الشعوب في الحصول على الحرية والاستقلال لم تكن سهلة، ولا لينة بأي حالٍ من الأحوال، بل إنها قاسية كل القسوة ومليئة بالمجازر والمذابح والمصائب والنكبات، ولكن نتائجها هي التي تغير وجه التاريخ، وتنتزع الحقوق، وتحرر الأوطان.

الالتحام الشعبي العام، وتراصّ الصفوف، والرفض الواسع للطائفية والمذهبية التي تفرّق ولا تجمع، تبدو ظاهرة حية في البلدين، فالشعبان العراقي واللبناني يظهران اتفاقاً كبيراً على تجاوز المرحلة السابقة بكل مواضعاتها وتوازناتها، والأنظمة السياسية التي رسختها ونهبت من خلالها أموال الشعوب ومقدراتها بشكل غير مسبوقٍ في التاريخ، من حيث الحجم والنوعية، وكذلك من حيث الوقاحة والصفاقة في احتقار الشعوب وإذلالها.

الثورات الغاضبة والاحتجاجات الكبرى في التاريخ تحدث بناء على تراكمات تأخذ وقتها الزمني الطبيعي، ثم تتحول شيئاً فشيئاً إلى التعبير عن نفسها بقوة وعزمٍ على عدم التراجع حتى تصل إلى ذروتها التي تقتلع كل شيء وتغير التاريخ، وهي قد تمرّ بمراحل قمعٍ وهدوء، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، فلا تلبث أن تهب العاصفة لتقتلع كل الشرور المتراكمة.

أخيراً، ثمة شبه إجماعٍ لدى الشعوب العربية التي تتابع تطورات الأحداث في البلدين على أن الشعبين العراقي واللبناني سينتصران على الظلم والجور والديكتاتورية.

الشرق الأوسط