د. حسن بن عقيل يكتب لـ(اليوم الثامن):

الغضب القادم .. من جنوب اليمن

اتفاق جدة ، ولادة مأساة أخرى للشعب اليمني . هي امتداد المشاكل و الازمات التي أعقبت وحدة عام 1990 . التي كانت خطأ في توقيتها و مشوهة في اخراجها . اثارة الوحدة منذ البداية العداوات بين اليمنيين و الحرب الأهلية بين الشريكيين للوحدة . في نفس الوقت وسعت أكثر  دور القبيلة . اليمن منذ فترة طويلة تعتبر دولة " هشة " ، تفتقر الى سلطة مركزية قوية في كلا الشطرين و في دولة الوحدة . كانت سيطرة الحكومة محدودة فقط في المدن . نتيجة لانتفاضة 2011 و ما تلاها من عملية انتقال فاشلة ، يبدو ان اليمن حينها قد دخلت مرحلة الإنهيار و الضعف ، و ملامح التفتيت " الدويلات الصغيرة " بدأت تظهر في العلن . عادة عندما تضعف و تعجز " الدولة " في تنفيذ وظائفها التقليدية ، تقوم الميليشيات و الجماعات المسلحة و القبائل في تشكيل نظاما اجتماعيا محليا خارج النظام الرسمي ، و تتصرف من خلالها القبائل بوصفها أفضل البدائل عن الدولة الغائبة و الضعيفة .

أول رد فعل خارجي لتكريس ماهو قائم و لإنهاء الدولة اليمنية جاءت " المبادرة الخليجية " . هي عبارة عن مشروع سياسي قدمته دول الخليج في ابريل 2011 لإجهاض " ثورة الشباب " لكي لا تخرج عن السيطرة و برعاية كل من : مجلس التعاون الخليجي و الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي و إسرائيل .

نذكر في نوفمبر 2011 و برعاية القوى المذكورة اعلاه ، سلم صالح السلطة لنائبه عبدربه منصور هادي لمرحلة انتقالية . في فبراير 2012 تم استفتاء على مرشح واحد ، عبدربه منصور هادي كرئيس مؤقت للحكومة الائتلافية ، لمدة عامين تنتهي في فبراير 2014 . من شروط الاتفاقية ان يكلف هادي بالاشراف على مؤتمر الحوار الوطني ، و على إعادة الهيكلية العسكرية للقوات المسلحة و الإصلاح الدستوري . ادرك تحالف القوى الوطنية في صنعاء خطورة الموقف ، أي تحالف أنصار الله ، المؤتمر الشعبي العام - جناح صالح و قادة من الجيش و الأمن و شيوخ القبائل فقاموا بثورة 21 سبتمبر 2014 كرد فعل ثوري على ذلك الانحراف و تصحيح مسار الحركة الوطنية . ردا على ثورة سبتمبر 2014 جاء عدوان التحالف العربي ، عاصفة الحزم  في مارس 2015 .

فشل التحاف في القضاء على النظام في صنعاء المستند على المنظومة القبلية العميقة . الدخول معه في حرب هي عملية إنتحارية لقوى العدوان . لهذا لا يوجد امام النظام السعودي – الإماراتي الا طريق واحد وهو القبول بأمر الواقع و التعايش مع أنصار الله .

اليمن الجنوبي عانى الكثير من المآسي ، و إذا أخذنا بنظرية ابن خلدون ( 1332- 1406 مؤسس علم الاجتماع و التاريخ الحديث ) ، نجد ان جنوب اليمن قد تخطى المرحلة الاخيرة و يعيش فترة انهيار الدولة . تشتهر المرحلة الاخيرة حسب نظرية ابن خلدون بالانغماس في الشهوات و الملذات و إشباع الرغبات ، هذا ما يجسده سلوك مجموعة هادي و المعارضة السياسية الجنوبية . و قال ابن خلدون إن تدهور الدولة يبدأ اولا في مؤسستين : المؤسسة العسكرية و الجيش ( التي تمثل العصبية ) و الاموال و الممتلكات ( التي تمثل الرعاية الاجتماعية ) ، فالضغط و الاستبداد يفسدان الجيش ، والترف و البذخ يفسدان الرعاية الاجتماعية .

المؤسسة العسكرية و الجيش ( التي تمثل العصبية ) في الجنوب قد تآمر عليها منذ البداية جناح يسار الجبهة القومية المكون من ( الجبهة الوطنية و من العنصر الشمالي عبدالفتاح اسماعيل و سلطان عمر و محسن الشرجبي و مجاميعهم ) ، و جعل تدمير المؤسسة العسكرية هدفا استراتيجيا له . بدأ تنفيذ هذا الهدف الاستراتيحي بعد المؤتمر الرابع للجبهة القومية . اولا بدأت هذه القوى بالتمهيد لإلغاء جيش الاتحاد النظامي ، الموروث من حكومة الاتحاد الفدرالي و المؤهل بشكل جيد .  عبر تشريد و اغتيال و اعتقال قياداته و بذات الكوادر الوطنية و المؤهلة ، حتى تم تأسيس جيش شعبي ثوري في سبتمبر 1971 . بالفعل تم تدريب الجيش الثوري الجديد بخبرات سوفيتية . لكن بعد 1990 تم نقل معظم وحدات هذا الجيش الجنوبي المؤهل إلى الشمال ، إلى مواقع تسهل عملية تدميره وفق ما كان مخطط له . لتكون هذه اول مرحلة لتدمير الجيش الجنوبي الثوري الذي تأسس عام 1971 . بعدها اجتاحت القوات العسكرية الشمالية مناطق الجنوب . بعد حرب دامية في صيف عام 1994 تم تصفية و اذلال ما تبقى من جيش الجنوب . هذه الحرب اعادت بنتائجها الأحزاب و المنظمات و القوى السياسية الجنوبية إلى احضان الكيانات القبلية التقليدية . القبيلة هي القوة التي تملك القدرة على توفير إطار الحماية للأفراد و تحقيق الامتيازات لهم بالاضافة إلى تقوية شعورالإنتماء في ظل عجز النخبة السياسية عن طرح البدائل الحديثة .

لهذا استمرت التمردات و الغضب الشعبي و القبلي في الجنوب للتعبير عن رفضهم للوحدة . لكن دون ان ترقي هذه التمردات الى فعلا ثوريا منظما و محدد الأهداف . إنما تمردات قبلية و شعبية تثور ضد الظلم الذي تتعرض لها من حكام صنعاء و أدواته ، فتقوم قيادة الرئيس صالح و أدواته لمواجهة تلك الانتفاضات و التمردات بالقمع المفرط .  

اندلعت الاحتجاجات اليمنية 2011 في مختلف المدن و المحافظات ، اعادة التلاحم الوطني بين الشمال و الجنوب . كما ان قمع قوات الأمن للمتظاهرين المعتصمين في مختلف ساحات التغيير كرس هذا التلاحم . و أشار بعض المراقبين للوضع اليمني إلى ان شعارات الانفصال غابت وحلت محلها تلك المطالبة بإسقاط نظام الرئيس علي عبدالله صالح .

خشي مجلس التعاون الخليجي و القوى الغربية – الأمريكية – الصهيونية ان تخرج هذه الانتفاضة اليمنية المباركة بنتائج سلبية عليها أكثر من إيجابيتها فتقدموا بمشروع " المبادرة الخليجية " لاحتواء ثورة فبراير 2011 .

فشلت ثورة الشباب 2011 ، فشلت المرحلة الانتقالية و هرب عبدربه منصور هادي من صنعاء . بدأ العدوان 2015 على الجمهورية اليمنية ، التي أثرت سلبا على جنوب اليمن أكثر من الشمال . هناك أنصار الله أستولت على المرافق الحكومية في الشمال و بدأت تقوم بوظائف الدولة . نعم الظروف المعيشية في المناطق التي يسيطر عليها أنصار الله أسوأ من بقية مناطق البلاد بسبب الحرب ، رغم ان الأمن فيها أفضل من أي مكان آخر .

ظهرت  في  الجنوب جماعات سياسية متعددة في كل المدن عدن ، لحج ، الضالع ، أبين ، شبوة ، و كذلك في المحافظات الشرقية حضرموت و المهرة ، التي هي تحت سيطرت هادي اسميا . و هناك ميليشيات الحزام الأمني القوية و الموالية لدولة الإمارات هي الحاكم الفعلي في عدن و موالية لعيدروس الزبيدي ، و ميليشيات اخرى تمولها الإمارات ، بما في ذلك قوات النخبة في محافظتي شبوة و حضرموت مرتبطة بالزعماء المحليين ، و ليس لحكومة هادي أي سلطان عليها . هذه الجماعات أكثر تنظيما ، فهم تلقوا تدريب من دولة الإمارات و قد  أكد على هذا الباحث في شؤون الخليج Neil Partrick  نيل بارتريك .

ان انهيار المؤسسة العسكرية و الجيش ( التي تمثل العصبية ) في الجنوب خلقت مرتعا خصبا لعمليات الفساد . نتيجة الإفساد معروفة هي الاستبداد ، الإفقار و التجويع الدئم ، المرض و انتشار الرذيلة في المجتمع . لا يمكن فصل الفساد عن محاضنه و أسبابه ، و اهمها هي المنافسة بين السعودية و دولة الإمارات ، التي ساهمت بشكل كبير في تعميم الفساد للاسراع في انهيار السلطة في الجنوب و تقسيم البلاد للتأثير و السيطرة عليه . من المثير للاهتمام ، على الرغم من الحرب ، و غياب الدولة تم استئناف التصدير للموارد الهيدروكربونية  و إنتاج الغاز من اراضي القبائل في مأرب و شبوة و حضرموت التي استولت على حقول النفط في محافظاتهم راجع ( Peter Salisbury ) ، في حين ان القوات العسكرية المدعومة من الإمارات  قد  سيطرت على مرافق  التصدير في حضرموت  و شبوة  بعد  انسحاب القاعدة ( AQAP ) في عام 2016 . السؤال أين و كيف استخدمت الأموال من عائدات النفط و الغاز ؟

  كما اشار ابن خلدون من ملامح انهيار الدولة بعد انهيار المؤسسة العسكرية – الأمنية يأتي ضياع الاموال و الممتلكات ( أي انهيار الاقتصاد ) وهو حاصل الآن في الجنوب بدلا ما يمول الاقتصاد الرعاية  الاجتماعية  للامة  يذهب يغطي نفقات تكلفة الانغماس في الشهوات و الملذات و اشباع الرغبات و تكلفة الفنادق الخمس نجوم و الشقق المفروشة لحكومة هادي بكل مكوناتها و كذا الحراك الجنوبي بكل مكوناته . ان هذه القوى السياسية  فاسدة احكمت سيطرتها على البلاد و على الحراك الجنوبي و المتاجرة  بانتفاضته و بجوعه  و بكل المآسي الذي يعانيه . مستخدمة وسائل التواصل الاجتماعي من فنادق الخمس نجوم . اتمنى من الاخوة في الحراك السياسي الجنوبي العمل بجدية لبناء سلطة سياسية على اسس جديدة . بدأ بالمطالبة باستقالة حكومة هادي ، للعلم كانت الإمارات محقة عندما قامت بتشجيع السعودية على التخلص من هادي و دعم  الرئيس السابق  صالح  بدلا عن هادي  راجع (  Neil Partrick )  .  الإمارات  تعتبر " هادي شخص غير كفء " . و لذا يجب تشكيل حكومة وطنية  انتقالية من خارج المنظومة السلطوية الحالية ، ذات صلاحيات استثنائية و تكون مهمتها : إجراء انتخابات برلمانية ، و تشكيل لجنة برعاية منظمات دولية لاتخاذ كل الإجراءات المطلوبة قانونيا لاستعادة المال العام المنهوب ( لا يستبعد   جزء من  المال المنهوب ذهب الى حساب قوى ارهابية كداعش و القاعدة ) . نرى ضرورة الكشف عن الحسابات البنكية لكل المسؤولين الذين تولوا مناصب حكومية ، حتى من قيادات الحراك . الولايات المتحدة و الغرب يعرفون جيدا الروابط بين قوى الارهاب العالمي كداعش و القاعدة و بعض القيادات السياسية في اليمن ، قد تكون مناطقية ، قبلية ، مذهبية . و الولايات المتحدة و الغرب يعرفون ايضا الدول التي مولت قوى الارهاب في افغانستان و الصومال و العراق وغيرها هي الان تمول الحراك السياسي في اليمن . و نرى  ضرورة  مساءلة الذين استفادوا عن غير حق من المشاريع  المالية  التابعة للدولة ، في منشآت نفطية ، كهرباء ، اتصالات ، طيران ..الخ . قبل ان تخطوا جماهيرنا في الجنوب خطوات انفرادية و عفوية مثل العراق و لبنان و غيرهما . و لا بأس من فتح الملفات المتعلقة بالكسب الغير مشروع و بالارقام لبعض القيادات التي تدعي الوطنية و النزاهة . و نقول لمن يحتج على هذه الخطوة ، أنتم من اخترتم هذا الطريق .

الثورة تكتسب شرعيتها من أهدافها العامة المعلنة و برامجها ، فإذا عجزت عن تحقيقها ، عندئذ تفقد شرعيتها ، و عليها ان تترك مكانتها لثورة اخرى تحل محلها . لمزيد من الوضوح و المكاشفة فإننا نقول للجميع ان استعادة استقلال الجنوب و بناء دولته الفدرالية المستقلة كاملة السيادة شيئ ثابت و نهائي في قاموس الحركة الوطنية الجنوبية . للاسف قيادات كنا نعتقد انها رموز ثورية مقدسة من قيادات الحراك الجنوبي ، نجدها اليوم عند ابواب أمراء الرياض ، الدوحة ، ابوظبي ، مسقط يتسولون و ينتظرون  المنح  المالية . هنا نسألهم ماذا عملتم للجنوبيين ؟ الذي انتشر المرض بينهم و هلكهم الجوع انتشرت الرذيلة بينهم بسبب الفقر و الجوع . بينما قيادات الحراك استغلت الحراك لتنمية ثروتها . إذا هي من نفس مدرسة الشرعية ، اختلفوا فقط  في تقاسم الاموال الغير مشروعة .

الآن نسمع وعد قطعه على نفسه الأخ الرئيس عيدروس الزبيدي في 28 أغسطس 2019 . في استعادة استقلال الجنوب و بناء دولته الفدرالية المستقلة كاملة السيادة ، و ليس تحت الاستعمار السعودي أو الإماراتي . نقول ان شاء الله خير ، رغم البداية مشؤومة . تذكرنا عندما استبدل الرئيس  صالح  بالرئيس  هادي ، و أعوذ بالله  إذا كان التفكير يدور حول استبدال الرئيس هادي بالرئيس عيدروس ، لان  الآلية  تقريبا متشاهة ، وكما يقول المثل  " كأنك يا بو زيد ما غزيت  " .

وحتى لا نتهم بالعداء لدول مجلس التعاون الخليجي نسألهم ماذا عملتم في اليمن ، و ماذا عملنا نحن بكم . نحن اليمنيون مع الاخوة العرب و الآسويين بنينا المدن الخليجية ، في الوقت الذي انتم مهرة و محترفين فقط في أكل المكبوس " المجبوس باللغة الخليجية " و الصيد في البراري . نقول للاخوة في السعودية ان نصيحة الإمارات لكم صادقة ، ابتعدوا عن عبدربه منصور هادي و زمرته حتما سيقودكم الى مستنقع الهزيمة ، و لن تفلحوا و لن تفلح معكم حكومة " شرعية الغراب " شرعية هادي كما يقول المثل العربي :

                   إذا كان الغراب دليل قوم      سيهديهم إلى دار الخراب  

صدق الشاعر العظيم نزار قباني حين قال :

 الآن عرفنا أن جذورك ضاربة فينا

الآن عرفنا ماذا إقترفت أيادينا

قومي ... قومي ... قومي

قومي من تحت الردم

كزهرة لوز في نيسان  

قومي من حزنك قومي

إن الثورة تولد من رحم الاحزان

قومي من تحت الردم

قومي إكراما للغابات

قومي إكراما للأنهار

قومي إكراما للأنهار و الوديان .. و الإنسان

قومي إكراما للإنسان

قومي يا عدن .. قومي  ( معذرة سيدي نزار قباني بدلت كلمة بيروت بشقيقتها كلمة عدن لتطابق الاحزان )

إن الثورة تولد من رحم الاحزان

يا عدن ... ياعدن  ( معذرة سيدي نزار قباني بدلت كلمة بيروت بشقيقتها كلمة عدن لتطابق الاحزان )

 كاتب ومحلل سياسي يمني