وهيب الحاجب يكتب:
اتفاق جدة وقرارا مجلس الأمن 924/ 931
الاتفاقُ الموقع بين الانتقالي الجنوبي، بما يحمله من رمزية للمشروع الوطني لشعب الجنوب، وبين حكومة الشرعية اليمنية، بما تمثّله من نظام احتلال غاصب انقلب على كل مواثيق الوحدة وألغى الشراكة.. هو اعترافٌ حقيقي بالجنوب ككيانٍ مستقل عن الصراع الطائفي والقبلي والحزبي في الشمال المتهالك، وفي الوقت ذاته هو اتفاقٌ بمثابة إعادة اعتبار للهوية الجنوبية التي أُريد لها أن تزولَ وتنتهي وتُطمس في معمعان العبث القادم من الشمال بتسميات وطنية زائفة وفنتازيا قومية وأفكار ألاهوتية سمجة.
الاتفاق، أياً كان اسمه جدة أم الرياض أو حتى نجران أو جيزان وعسير، هو إعادة إحياء لقراري الشرعية الدولية الخاصين بأس وأساس الصراع بين الجنوب والشمال، وهما قرارا مجلس الأمن الدولي (924، 931) الصادران إبان حرب احتلال الجنوب في العام 1994م؛ إذ نصا على وقف الحرب وإعادة الطرفين إلى طاولة الحوار والتفاوض على مبدأ أن لا وحدة بالقوة، وهو المبدأ ذاته الذي أقره "بيان أبها" الصادر عن الدورة الحادية والخمسين للمجلس الوزاري لدول مجلس التعاون الخليجي.. لكن ظروفا جمة ومتغيرات جيوسياسية عصفتْ بالمنطقة والإقليم أثّرت في وضع اليمن والجنوب فسهلت بالتالي تأجيل هذا التوجه وحاولت قوى، ربما خليجية ودولية، صاحبة مصلحة، أقلمةَ الوضع بين الشمال والجنوب وتجيف نار القضية الجنوبية تحت رماد لم يُحسن التعامل معها، وربما استُغلت الجنوب كورقة للعلب بها وإبرازها وقتما يُراد لها أن تبرز وفقا لمقتضيات المصالح الإستراتيجة للأشقاء.
اتفاق جادة جاء اليوم كمصلحةٍ قصوى للمملكة العربية السعودية توحّد به الجهود لدرء مخاطر الحوثي من حدها الجنوبي، ولم ولن يكون مرجعيةً للحفاظ على "الوحدة" أو لإعادة الجنوب إلى بيت الطاعة في باب اليمن، كما تحاول قوى الشرعية اليمنية تجييره وتكييف بنوده. الاتفاق ينطلقُ من مبدأ أن الوحدة والانفصال شأنٌ يمني داخلي، وهذا بحد ذاته مكمنُ قوةٍ وتعزيز موقف للمشروع الوطني الجنوبي الذي بات اليوم، بما يملكه من إرادة شعبية وحامل سياسي وسيطرة عسكرية على الأرض، قادرا على أن يحدد موقعه من هذا "الشأن الداخلي" ومستوعبا تماما كيف يقرر مصيره دون وصاية.
التوجه العام في المنطقة والتحولات الجيوسياسية وطبيعية التحالفات ونمطية الصراع وتداخل الأيدولوجيات وتشابك المصالح من الطبيعي جدا أن تحمل معها تغييرات في جغرافيا المنطقة، ومن المنطقي والأولى أن تطال التغييرات مناطقَ ذات أهمية إستراتيجية من حيث الموقع، وذات تراكيبَ ديموغرافيةٍ قابلة للتعايش والتعاطي مع طبيعة التحولات ومع أهداف ومصالح الأقطاب الدولية والإقليمية المتنافسة على مناطق النفوذ سواء كان اقتصاديا أو عسكريا أو حتى سياسيا؛ لذا فالجنوب ببعديه، الجيوسياسي والديموغرافي، واحدةٌ من أهم مناطقِ العالم القابلة للتعايش والتعاطي، وبالتالي فإن التوجه للتعامل مع الجنوب بندية وككيان مستقل ووحدة سياسية متماسكة هو هاجس إقليمي ودولي، وما اتفاق جدة إلا حلقة ضمن سلسلة من الاتفاقات والمعاهدات والمشاريع التي ستُطرح بشكل رسمي على طاولة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لاستيعاب الجنوب ضمن خارطة "التغييرات".
اتفاق جدة والظفر بالشراكة والندية مع الشريك اليمني لا يجب أن تبنى فيه الأحلام على "التحولات" والصراع الإقليمي ومصالح الأشقاء بقدر ما يحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى مزيد من التوافق الجنوبي وتقوية الجبهة الداخلية وتهيئة الوضع لأية استحقاقات، ففي الاتفاق ما يشير إلى أن الجنوب أُدخل عنوة إلى مواجهة عمل سياسي مع الشرعية اليمنية، وفيه تصريح وتعريض بأن الاستقلال وتقرير المصير لن يتحقق إلا بعمل سياسي والتأسيس لدولة وبناء علاقات ومصالح وثبات على الأرض؛ وهو -لعمري- ما ورد في الاتفاق من إشارة وإحياء لقراري مجلس الأمن الذي من بوابته ستعلن دولة الجنوب.