عمر علي البدوي يكتب:
كيف ستؤثر السياحة على السعوديين
لا بد لهذه التحولات العميقة في طبيعة الحياة السعودية أن تحدث تغييرا في بنيتها الاجتماعية، أن تطبع أثرا، لاسيما البوابة الواسعة التي ستُفتح لتدفق الأجانب في شكل سياح أو مستثمرين.
هذا البلد الذي بقي محافظا لعقود منذ أخذ شكل دولة عصرية، يستأذن التاريخ اليوم ليحرك أوراقه الخامدة ويحرض الزمان لينفخ فيه دورة جديدة للحياة، ويمد في عروق الواقع نبضا متقدا وشكل حياة مختلف.
ستبعث هذه التحولات على مراجعة نظرتنا لأنفسنا وفحص كل ما يمت إلى الذات العامة ومساءلتها في سياق تحديث منظومة المجتمع الكاملة. إنه انفتاح عكسي يفرض “تقبل الآخر” شروطه في التبسط وتفتيت الشعور الحاد بالفوارق، ويدعم جهود إدماج المجتمع في الحراك البشري المعولم، بحيث تتم إزاحة كل إطار يقصي قدرته على التجاوب ويحلّ بدلا عنه ذهن منفتح ومقبل ومستعد للاتصال بالآخر على اختلافاته.
ستساعد هذه الجرعة الكبيرة من السياح القادمين من 50 دولة، على إعادة تقديم حكايتنا عن أنفسنا. لقد أصبحت المتاحف الشخصية منتشرة ويربو عددها على المئتي متحف، والقرى التراثية بقيت شامخة محتفظة بعراقة إنسان هذا المكان وهو يصارع ظروف الحياة وشظف المعيشة. وهي الآن تلقى اهتماما رسميا وشعبيا، بلغ درجة التنافس بين القرى والمناطق السعودية على صونها وترميمها لتحكي قصة دقيقة وشاهدة على المسافة الطويلة التي قطعتها البلاد لتبلغ ما هي عليه اليوم من حداثة وتطور ودأب على الاستمرار في مشوار طويل من البقاء والتقدم.
سيساعد برنامج التأشيرة السياحية التي أطلقتها السعودية تحت شعار أهلا بالعالم، وانتشرت دعايتها في المواقع الرئيسية من عواصم العالم في مواجهة النظرة السلبية والمختزلة التي طالما عرفت وطبعت عن السعودية تاريخا وثقافة وحكومة وشعبا. وستعطي فرصة للتعرف على الأجزاء المجهولة وغير المكتشفة من هذه البلاد.
سيلمس الأجانب عن قرب حجم ما تنطوي عليه السعودية من روعة وتميز وفرادة، بعد أن كانت لعقود صندوقا مغلقا وبابا موصدا ووجهة غير مرغوب فيها، إلا من الأجانب الباحثين عن عمل أو القاصدين بيوت الله الحرام وأداء الشعائر الدينية، وكلا التجربتين كانت محدودة التأثير ومقتصرة على مجتمعات مسلمة تتشابه مع المجتمع المحلي في عاداته وتقاليده، الأمر الذي حدّ من درجة تأثره وانفعاله بمدخلاتهم الثقافية والسلوكية.
ولعل تجربة الابتعاث التي انخرط فيها مئات الآلاف من المجتمع السعودي، بقصدهم عواصم العلم الكبرى في العالم، أودعت بعض التأثير والتغيير في نفوسهم وشخصياتهم، لكنهم سرعان ما يتحولون إلى نخب منغلقة على ذاتها، وتتحرك في إطار محدود دون أن يلامس أثرهم الإطار العام للمجتمع.
ولرفع درجة استعداد المجتمع لاستقبال الوافد الجديد في منظومة التحول البرامجية النوعية التي تبنتها الحكومة السعودية، أقرّت لائحة للذوق العالم، لضبط السلوك المجتمعي بما يتوافق وضرورة إدماج مفردات حياتية مهمة لإنجاح برامج السياحة والانفتاح الثقافي، وهذا ديدن متبع مؤخرا مع كل خطوة تتخذها السعودية للنأي عن السلبيات المحتملة، وضبط آليات سلوك وردود الفعل الاجتماعية، مثل سن قانون التحرش بعد إقرار قيادة المرأة للسيارة، الأمر الذي يزيد من تأثير وتعميق هذه التحولات الجديدة في بنية ونسيج المجتمع.
تتناول الكثير من الجهود البحثية والأكاديمية الجادة تحولات السعودية والسعوديين خلال تاريخهم القديم والمعاصر، لكن الباحث الاجتماعي النابه منصور العساف يؤرخ تحولات المجتمع بطريقة مختلفة ومميزة.
وعبر البودكاست القصصي “أشياء غيّرتنا” الذي تنتجه إذاعة “ثمانية” على منصة إلكترونية، يستعرض المؤرخ الاجتماعي العساف كل أسبوع شكلا من أشكال تغيّر المجتمع السعودي. ويشرح سبب ذلك التغيّر، وكيف يؤثر على الحياة التي نعيشها اليوم، بحيث ينتقل التاريخ من صفحات الكتب إلى الشوارع والمجالس، ويتعرف المستمع على الجيل القديم وكأنه يرى نفسه من خلاله.
لقد تناول العساف في تجربة جديدة، غير المحكي من سيرة المجتمع السعودي، ورصد التحولات غير المرئية التي صنعت فارقا في ذهنيته وطبيعة ما هو عليه.
ويبدو أنه الآن بإزاء واحدة من أكثر مراحل التغير الاجتماعي وسلة من المدخلات التي ستشكل هوية جديدة وروحا ثقافية مغايرة ستبلغ كل الأطر البعيدة والقريبة، ولن يكون الحال خلال مسافة زمنية قصيرة كما هو الآن على الإطلاق، بما يستدعي شحذ كل الأدوات العلمية لصبر المجتمع ومراقبة استجابته ورصد تحولاته.