سلام سرحان يكتب:

لوجستيات وكواليس الثورة العراقية

تركز معظم التقارير، التي تغطي أحداث الثورة العراقية على بسالة الشبان، الذين يواجهون القناصين ومختلف أنواع الأسلحة، لكن القليل منها يركز على البنية الداعمة لاستمرار تلك الاحتجاجات من خدمات لوجستية مثل توفير الغذاء والمستلزمات الطبية وعشرات الخدمات الأخرى.

قد يبدو للوهلة الأولى أن هناك بعض المبالغة في إشادات عدد كبير من المراقبين بالثورة العراقية، عند وصفها بأنها استثنائية وتمثل ظاهرة فريدة بين جميع ثورات العالم، لكن التمعن في الصور وتسجيلات الفيديو، يؤكد أنها كذلك بالفعل.

العنصر الأول في استثنائية الثورة العراقية، هو حجم المخاطرة بالحياة، التي ينطوي عليها الخروج إلى ساحات الاحتجاج، في ظل القسوة المفرطة التي تستخدمها قوات ملثمة تطلق الرصاص الحي وقنابل دخانية، أكثر فتكا من تلك المستخدمة في دول أخرى في مواجهة المتظاهرين داخل المدن، إضافة إلى ثبوت احتوائها على غازات سامة.

عدد القتلى في أكثر التقديرات الرسمية تحفظا يقارب 400 شخص، في وقت تقول فيه تقديرات أخرى إنها أكثر من ذلك بكثير، بسبب أعداد الجرحى التي تزيد على 15 ألفا والذين لا يذهب معظمهم إلى المستشفيات خشية ملاحقة الميليشيات لهم واختطافهم.

صورة ما يحدث في الساحات من بسالة المحتجين وعجلات التكتك التي تنقل تلك المستلزمات والجرحى، لا تكشف عن كل جوانب وشرايين الثورة والأعمال التي يقوم بها جنود مجهولون

لكن الجانب الخفي يكمن في اللوجستيات، التي تقدم بعض تسجيلات الفيديو جانبا ضئيلا منها، وهي تبدأ بمئات المطابخ التي تعد الطعام وتوفر المشروبات وشحنات هائلة من قناني البيبسي وبعض المحاليل التي تستخدم في معالجة آثار الغازات التي تطلقها الميليشيات والقوات الأمنية.

ورشة اللوجستيات تمتد إلى توزيع آلاف الأقنعة على الوافدين إلى ساحات الاحتجاج، لتفادي تأثير الغازات المسيلة للدموع والغازات السامة وآلاف الخوذ لحماية رؤوس المتظاهرين من القنابل الدخانية التي تتعمد الميليشيات إطلاقها على الرؤوس، والتي يزيد وزنها على عشرة أضعاف القنابل التي تستخدم عادة لتفريق احتجاجات المدن.

مواقع التواصل الاجتماعي تعرض أعدادا هائلة من تسجيلات فيديو لأعمال إنشاءات لبناء مرافق صحية وحمامات في بناية المطعم التركي لتسهيل إقامة المحتجين، إضافة إلى توفير مستلزمات التنظيف وأعمال كثيرة يقوم بها المحتجون لترميم ساحات الثورة وآلاف البطانيات وفرش النوم التي تدفقت على الساحات.

لا يمكن إحصاء أعداد الخيام المنتشرة في ساحات الاحتجاج وخاصة في المناطق الخلفية لساحة التحرير في بغداد باتجاه ساحة الطيران وشارع السعدون.

أبرز تلك الخيام مخصصة للمفارز الطبية، حيث تركت أعداد كبيرة من الأطباء أعمالها وتجمعت فيها، إضافة إلى أعداد كبيرة من طلاب كليات الطب، وتظهر التسجيلات أن تلك الخيام مليئة بكميات كبيرة من الأدوية والمستلزمات الطبية.

هناك أيضا تسجيلات عن إنشاء مكتبات وإصدار جريدة يومية في ساحة التحرير وخدمات إلكترونية واسعة لجمع الصور والبيانات وشحن الهواتف والتنسيق بين جميع فرق الخدمات اللوجستية.

الأضواء الساطعة في ليل ساحات الاحتجاجات، وخاصة ساحة التحرير في بغداد، والتي تضم آلاف المصابيح والنشرات الضوئية، تكشف عن أعمال أخرى واسعة لتوفير مولدات الكهرباء، حيث يؤكد المحتجون أن السلطات قطعت الكهرباء عن تلك الساحات وأن جميع الكهرباء هي من مصادرهم الخاصة.

وتظهر تسجيلات أخرى أعدادا كبيرة من الفنانين وهم يلونون الجدران، وفرق تنظف الشوارع وترممها وتصبغ الأرصفة، وهو مشهد يخفي وراءه الكثير من النشاطات اللوجستية ومصادر توفير تلك المواد.

صورة ما يحدث في الساحات من بسالة المحتجين وعجلات التكتك التي تنقل تلك المستلزمات والجرحى، لا تكشف عن كل جوانب وشرايين الثورة والأعمال التي يقوم بها جنود مجهولون على أطراف تلك الساحات.

ويكشف ذلك عن عمق شعبي هائل يدعم الاحتجاجات ويوفر لها أسباب الاستمرار من خلال توفير المواد الغذائية والمستلزمات الأخرى.

لا بد أن تكون خلف كل ما يحدث في ساحات الثورة، شرايين واسعة لإيصال تلك المواد. ولا بد أن عددا هائلا من الأشخاص، قد يفوق أعداد المحتجين تساهم في التبرع بتكاليف تلك المواد وتعمل على إيصالها إلى الساحات.

ورشة اللوجستيات تمتد إلى توزيع آلاف الأقنعة على الوافدين إلى ساحات الاحتجاج، لتفادي تأثير الغازات المسيلة للدموع والغازات السامة وآلاف الخوذ لحماية رؤوس المتظاهرين

كما تكشف عن تنسيق واسع فيما بينها، حيث لا يمكن أن تصل كل تلك القوائم الطويلة من آلاف المستلزمات دون تنسيق يحدد ما تحتاجه ساحات الاحتجاج، ناهيك عن أعمال التنظيف وإخراج المخلفات من الساحات.

هناك حاجة يومية إلى عشرات أطنان المواد الغذائية وأطنان من عبوات المشروبات والأدوية والوقود ومستلزمات البناء والمولدات الكهربائية، التي يبدو أن أعدادها تتزايد يوما بعد يوم من خلال تزايد سطوع الأضواء.

هناك جدل بشأن عدم اشتراك محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين في الاحتجاجات، لكن مصادر في ساحات الثورة تؤكد أن الكثير من التموين والمستلزمات تصل من تلك المحافظات.

قد تتجه الأضواء إلى الأبطال المحتجين، لكن دور سائق سيارة يتبرع بماله ووقته وجهده لإيصال ما يحتاجه المحتجون، يساهم بدرجة كبيرة في إدامة زخم الثورة، إضافة إلى كل ربة بيت فقيرة تحرم بيتها لإيصال الغذاء إلى المحتجين.